المصاعب المالية توقظ الخلافات بين دول الاتحاد الأوروبي

وسط تداعيات أزمة آيرلندا واليونان والبرتغال

TT

عندما أقرت المعاهدة الخاصة بإصدار عملة أوروبية مشتركة في مطلع تسعينات القرن الماضي، راودت النخب السياسية والتجارية الأوروبية آمال عظيمة في أن يعزز ذلك الروابط بين اقتصاديات القارة المتباينة وشعوبها المتناحرة في الغالب، أكثر من أي وقت مضى.

ومع إطلاق اليورو في مطلع العقد الأول من الألفية الجديدة، تعالت صيحات التأييد من جانب الكثير من المواطنين الذين سعدوا بأنهم لن يضطروا بعد ذلك لتحويل البيزيتا الإسبانية إلى فرانكات فرنسية أو تحويل الغيلدر الهولندي إلى مارك ألماني مع عبورهم الحدود من دولة لأخرى. إلا أن بهجة الاحتفال لم تشمل الجميع، وإنما أثارت مجموعة من المنشقين تضم الكثير من الخبراء الاقتصاديين من خارج القارة جلبة كبيرة وأصدرت تحذيرا مفاده أن اليورو سيواجه حتما مصاعب جمة، ليس بالضرورة على الفور، لكن من المؤكد أنه لن تمر فترة طويلة قبل أن تواجهه هذه المصاعب. وأشاروا إلى أن الدول المختلفة المشتركة في اليورو ستتبع سياسات متباينة، مما سيخلق في نهاية الأمر ضغوطا على اليورو وبعض أعضائه سيعجز عن تحملها. واليوم، نشهد تحقق الكثير من هذه التكهنات، التي قوبلت برفض قاطع حين صدورها.

خلال الجزء الأكبر من عام 2010، ناضلت أوروبا لاحتواء أزمة ديون دفعت المستثمرين لرفع العائد على السندات الحكومية. ورغم إقرار عمليتي إنقاذ مالي - لليونان وآيرلندا - لا تزال المخاوف قائمة، وتحولت الأنظار باتجاه اقتصاديات أخرى متداعية مثل البرتغال وإسبانيا.

الجمعة الماضي، ارتفعت تكلفة التأمين على الديون اليونانية جراء تكهنات بإمكانية إقدام أثينا على إعادة هيكلة ديونها عام 2013. وجاء ذلك في أعقاب تحذير أطلقته «فيتش»، وكالة تصنيف ائتماني كبرى، الخميس، حول أن إجراء الحد من تصنيف الديون اليونانية بات وشيكا. كانت «فيتش» قد قللت بالفعل من تصنيف الديون البرتغالية بسبب مخاوف إزاء إمكانات نموها وقدرتها على تقليص العجز بميزانيتها.

من جانبه، قال فيلهلم نولينغ، عضو المجلس الحاكم للمصرف الاتحادي الألماني (بندسبانك) قبل إنشاء المصرف المركزي الأوروبي، والذي يعمل حاليا أستاذا للاقتصاد بجامعة هامبرغ: «أعلم من البداية أن وضع جميع هذه الدول المتنافرة في سلة واحدة لن ينجح». ويشير هؤلاء النقاد إلى أنه بالنظر إلى التاريخ نجد أن المستقبل ربما يحمل مزيدا من المشكلات، بالنظر إلى عدد من المحاولات الفاشلة أقل شهرة وطموحا لإقرار عملة مشتركة في الماضي.

إلا أن هذه الانتقادات جرى التعتيم عليها في خضم حالة النشوة التي أعقبت نهاية الحرب الباردة والأمل في أن تتضمن القواعد الصارمة المطبقة على الدول المنضمة لليورو اقتصادا موحدا وتبني هوية أوروبية قوية يتعذر تحطيمها.

تركزت المعارضة الأقوى لليورو في بريطانيا التي وافقت، إضافة إلى الدنمارك، على التوقيع على معاهدة ماستريخت عام 1991 التي رسمت معالم الطريق نحو عملة أوروبية موحدة فقط بعد الإصرار على حقها في اختيار عدم اتخاذ الخطوة الأخيرة.

ولم تقتصر أصوات التحذير بشأن مصاعب يحملها المستقبل على حزب المحافظين البريطاني المتشكك دوما تجاه جدوى اليورو، وإنما امتدت لتشمل أطرافا أخرى، مثل إد بالز، كاتب لم يكن معروفا حينها في «فايننشيال تايمز»، والذي وضع تقريرا عام 1992 حدد خلاله ما وصفه بقصور محوري في خطط إقرار اليورو، وهو افتقار أوروبا إلى نمط الضرائب الفيدرالية والمدفوعات التحويلية المستخدمة في الولايات المتحدة للتخفيف من حدة الاختلافات الاقتصادية بين ولاياتها الكثيرة. نشر التقرير من جانب «جمعية فابيان» المنتمية لتيار يسار الوسط ومقرها لندن، ولفت أنظار غوردن براون، وكان حينها وزير مالية الظل بحزب العمال الذي كان خارج السلطة حينها.

واستعان براون ببالز واستغل وجهة نظره الأساسية عندما وصل حزب العمال للسلطة عام 1997 في إطار إصراره على ضرورة تمسك بريطانيا بالجنيه الإسترليني - رغم التأييد العام لليورو من قبل رئيس الوزراء توني بلير وغالبية أعضاء الحزب. وقال بالز، الذي لا يزال واحدا من الأعضاء البارزين بحزب العمال: «امتلاك الإرادة السياسية ليس كافيا، ينبغي توافر قدر من الاندماج والالتزام يمتد لما وراء ذلك». ولا شك أن مسألة أن حكومة من حزب العمال وليست من المحافظين هي التي حالت دون انضمام بريطانيا لليورو تثير ضيق المتشككين التقليديين تجاه اليورو داخل بريطانيا.

مثلا، قال نورمان لامونت، وزير المالية السابق من حزب المحافظين زعيم معسكر المتشككين، إنه «لم أسمع قط بتقرير بالز». كان لامونت، الذي تولى منصب وزير المالية بين عامي 1990 و1993، هو الذي قاد الجانب البريطاني في مفاوضات ماستريخت وضغط لإقرار بند اختيار البقاء خارج نطاق العملة الموحدة. وقد أشار إلى خطاب ألقاه عام 1990 باعتباره أول وأدق نقد معلن لخطط إقرار اليورو. وقال لامونت في نوفمبر (تشرين الثاني)، أي بعد شهر من انضمام بريطانيا لنظام معدل الصرف داخل أوروبا الذي سبق اليورو: «الحقيقة أن أوروبا غير مستعدة للاعتماد على عملة موحدة».

وكان هذا الخطاب يرمي لتعزيز المكانة المتداعية لرئيسة الوزراء مارجريت ثاتشر، التي كانت على شفا الإطاحة بها كزعيمة على يد فريق مؤيد للاندماج مع أوروبا داخل حزب المحافظين. وسلط لامونت الضوء على التباين في مستويات التضخم وعجوزات الميزانية والتوظيف بين الدول الجنوبية الأكثر فقرا والاقتصاديات الأوروبية المحورية. وقال: «طالما ظلت هذه التباينات قائمة، سيشكل التحرك نحو إقرار عملة موحدة قفزة كبرى في الظلام». وقد عمل لامونت وزيرا للمالية في عهد خليفة ثاتشر، جون ميجور، وشهدت هذه الفترة انهيار الجنيه الإسترليني وانسحاب بريطانيا من آلية معدلات الصرف عام 1992.

وقال لامونت خلال مقابلة أجريت معه مؤخرا: «لقد حذرت دوما من أن اليورو سينهار. ليس بعد الأزمة الأولى التي نشهدها الآن، وإنما بعد الأزمة الثانية التي قد تقع بعد 10 سنوات. قبل كل شيء، يمثل ذلك مشروعا سياسيا، وليس اقتصاديا».

وأوضح لامونت أن مشروعات العملة السابقة في أوروبا، مثل الاتحاد المالي اللاتيني الذي شكلته فرنسا وبلجيكا وإيطاليا وسويسرا عام 1865 وآخر مشابه بين الدول الاسكندنافية شاركت به السويد والدنمارك والنرويج عام 1875، استمرا أكثر من 30 عاما قبل أن ينهارا.

واستطرد موضحا أن «المشكلة الحقيقية أن السبيل الوحيد أمام دول مثل اليونان وإسبانيا والبرتغال لاستعادة قدرتها على المنافسة أمام ألمانيا هو خوض عقد تفرض خلاله قيود على مستويات المعيشة على شعوبها. وتلك هي القنبلة الموقوتة الموجودة داخل منطقة اليورو». إلا أنه بالنسبة للمدافعين عن اليورو، تتضاءل خطورة هذه الأزمة مقارنة بحروب القرن الـ20 التي مزقت القارة، ولا تعد الأزمة الأخيرة سوى مجرد عثرة على الطريق نحو قارة أكثر اتحادا.

وقد طرحت وجهة النظر تلك هذا الشهر أثناء افتتاح المكتب التمثيلي الجديد للمفوضية الأوروبية في لندن. وأطلق على المبنى الذي يضم المكتب «البيت الأوروبي»، وكان يستخدم من قبل مقر لرئاسة حزب المحافظين، حيث احتفلت ثاتشر، أبرز المتشككين في جدوى اليورو داخل بريطانيا، بثلاثة انتصارات انتخابية - وهي ملحوظة أشار إليها المسؤولون الأوروبيون بتباه خلال حفل الافتتاح.

وقال جيرزي بوزيك، رئيس الوزراء البولندي السابق الرئيس الحالي للبرلمان الأوروبي: «لا نزال نذكر ما حدث خلال آخر أزمة كبرى - كان أمرا بشعا وكان مثل هذا التهديد دوما قائما في وجهنا».

تحدث بوزيك بينما كان يحمل بيديه زجاجة من النبيذ الأبيض، ولم يول اهتماما كبيرا لفكرة أن الاضطرابات المالية الأوروبية الراهنة قد تسفر عن انهيار اليورو.

وقال: «دعونا نرد على ذلك بالتحرك نحو مزيد من الاندماج. إن التغلب على التاريخ حافز قوي لنا».

الملاحظ أنه حتى داخل آيرلندا التي، بجانب اليونان، تكبدت الثمن الأفدح للتقيد باليورو، يجمع خبراء الاقتصاد تقريبا على تأييد العملة الموحدة. وأشاروا إلى الفوائد المترتبة على الاستقرار المالي، وحقيقة أن منطقة اليورو قد أنقذت من الديناميكيات الضارة لإجراءات خفض قيمة العملة بغرض التنافس والسيطرة على رأس المال التي تشتعل داخل اقتصاديات السوق الناشئة.

من ناحيته، قال فيليب آر. لين، خبير اقتصادي لدى «ترينيتي كوليدج» في دبلن يشرف على مدونة بارزة معنية بالاقتصاد الآيرلندي: «في عالم مندمج، تحمل مسألة اتخاذ توجه اقتصادي مشترك قدر كبير من القوة».

غير أن نولينغ يصر على أنه بغض النظر عن المميزات التي يحملها اليورو، فإنه على الصعيد العملي تمادى صانعو السياسات كثيرا في جهودهم للحفاظ على العملة الموحدة. وأشار إلى أن جهود الإنقاذ المالي لليونان وآيرلندا «غير دستورية» لأنها تنتهك البند الذي يمنع تقديم إعانات مالية داخل منطقة اليورو.

ومن المتوقع أن تصدر المحكمة الدستورية الألمانية حكما مطلع العام المقبل بشأن دعوى قضائية تقدم بها نولينغ ومجموعة من الخبراء الاقتصاديين والمحامين الموافقين له في الرأي. ومع أنه لا يتوقع سوى القليلين صدور حكم يلغي التدخل المالي في آيرلندا واليونان، فإن القضية ذاتها تذكر الجميع بأن ألمانيا، أغنى دول أوروبا، لا تزال منقسمة بحدة على نفسها حيال فكرة مزايا العملة الموحدة، وأنه من الممكن أن تواجه أي خطوات أخرى لتقديم إعانات مالية كثير من العقبات السياسية والقانونية.

* خدمة «نيويورك تايمز»