الصين تستغل غياب «الدب الروسي» وانشغال واشنطن وتتمدد اقتصاديا في آسيا الوسطى

مدت خطوط أنابيب وجعلت منها سوقا واسعة لبضائعها

النفط والغاز أهم استثمارات بكين في آسيا الوسطى
TT

في ضواحي هذه المدينة التي تعصف بها الرياح، وأنشئت عام 1893 لتكون قاعدة عسكرية روسية، تشير عملية بناء مجمع ملابس جديد إلى عودة قوة عظمى أخرى. وعندما يتم افتتاح المجمع العام الحالي، ستستضيف هذه المساحة الجديدة الممتدة قوافل شاحنات صينية أكثر مما تستضيفه المحطة التجارية الموجودة حاليا، وسيؤدي ذلك إلى زيادة وتيرة تدفق الملابس والأجهزة الإلكترونية والأدوات المنزلية التي غمرت مؤخرا منطقة آسيا الوسطى، بدءا من الخيام البدوية داخل السهول القرغيزية وصولا إلى الحواري العتيقة داخل سمرقند وبخارى.

وقال تيور هونغ، الذي كانت شاحنته واحدة من بين قرابة 50 شاحنة من الصين تقوم بنقل البضائع إلى سائقين طاجيكيين في أحد الأيام القريبة داخل المحطة الحالية: «تشهد التجارة بين الصين وجميع الدول المجاورة لها نموا مطردا».

وفي الوقت الذي تسيطر فيه الصين على دائرة الضوء داخل شرق وجنوب شرقي آسيا من خلال نفوذها الاقتصادي المتنامي وسياستها الخارجية القوية، نجدها تظهر وجودها بهدوء في الناحية الغربية، التي كانت من قبل تقع بالأساس في مجال روسيا.

وينظر مسؤولون صينيون إلى منطقة آسيا الوسطى على أنها جبهة مهمة من أجل أمن الطاقة داخل الصين والتوسع التجاري وتحقيق استقرار عرقي، كما أن لها أهميتها فيما يتعلق بالدفاع العسكري. وقد وصلت مشاريع حكومية إلى عمق المنطقة من خلال خطوط أنابيب وخطوط سكة حديدية وطرق سريعة، وفي الوقت ذاته قامت الحكومة مؤخرا بافتتاح معاهد كونفوشيوسية بهدف تعليم لغة المندرينية بمختلف الأنحاء داخل آسيا الوسطى.

ويقول الجنرال ليو يا تشو، من جيش التحرير الشعبي الصيني، إن منطقة آسيا الوسطى تمثل «قطعة الكعكة الأكبر التي منحتها السماء إلى الصينيين المعاصرين».

ومن جديد أصبحت الدول الخمس ذات الأغلبية المسلمة التي حصلت على استقلالها عقب انهيار الاتحاد السوفياتي عام 1991 (كازاخستان وقرغيزستان وطاجيكستان وتركمانستان وأوزبكستان) ساحات للمنافسة من جانب قوى عظمى، كما كان الحال إبان ما عرفت باسم «اللعبة الكبرى» خلال القرن التاسع عشر بين روسيا والولايات المتحدة، التي تستخدم منطقة آسيا الوسطى كقناة لنقل القوات إلى أفغانستان.

وتساور مسؤولين صينيين مخاوف بشأن ما يعتبرونها جهودا أميركية تسعى إلى تطويق الصين، ويعتبرون أن القوات الأميركية والتحالفات العسكرية في وسط آسيا والهند وأفغانستان بمثابة قوس غربية في إطار سياسة احتواء تعتمد على التعاون مع دول في شرق وجنوب شرقي آسيا.

وتقوم الصين باستعراض عضلاتها العسكرية داخل المنطقة، وأجرت مناورات عسكرية متقدمة داخل كازاخستان في سبتمبر (أيلول) كجزء من مناورات سنوية تتضمن عادة الكثير من الدول في منطقة آسيا الوسطى. ووفقا لمراسلة خاصة بوزارة الخارجية الأميركية ونشرها موقع «ويكيليكس»، يشك مسؤولون أميركيون في أن الصين عرضت على قرغيزستان 3 مليارات دولار من أجل إغلاق قاعدة جوية أميركية هناك. ووصفت المراسلة، التي تعود إلى 13 فبراير (شباط) 2009، اجتماعا بين السفيرة الأميركية لدى قرغيزستان تاتيان غفولر والسفير الصيني هناك تشانغ يان نيان، وخلاله واجهت غفولر تشانغ بشكوكها إزاء الرشوة التي تبلغ قيمتها 3 مليارات دولار. «بدا الارتباك على تشانغ، وفقد القدرة على الحديث باللغة الروسية وبدأ يهمهم باللغة الصينية إلى مساعد لا يتكلم أخذ يدون ملاحظات بعناية من خلفه». وبعد ذلك نفى السفير الصيني هذا الاتهام.

ولكن يعد الوجود الصيني الجديد داخل منطقة آسيا الوسطى في الكثير من النواحي مرتبطا بإحياء ما عرف باسم «طريق الحرير» أكثر منه متعلقا بعودة «اللعبة الكبرى». ويقول محللون صينيون إن من الأهداف التي تسعى إليها بكين هي تحقيق تكامل اقتصادي بين منطقة آسيا الوسطى بمنطقة شينجيانغ الغربية التي تشهد قلاقل، مع كسر حواجز تجارية، حتى لو ساورت حكومات داخل منطقة آسيا الوسطى مخاوف وشكوك.

وقال مسؤول أميركي تحدث شريطة عدم ذكر اسمه لأنه غير مخول للحديث علنا عن السياسة الصينية داخل المنطقة: «ثمة مغزى واضح في الأثر الاقتصادي المتنامي داخل منطقة آسيا الوسطى». وأضاف قائلا «في الكثير من النواحي، يوجد ترحيب بالاستثمارات من جانب هذه الدول ومن جانب الولايات المتحدة. ولكن لا توجد شفافية فيما يتعلق بالاستثمارات الصينية والعلاقات مع هذه الدول».

ويتوخى مواطنون محليون الحذر أيضا، ولا سيما داخل قرغيزستان وكازاخستان، حيث لديهم مخاوف منذ وقت طويل من أن الهجرة الصينية قد تقلب ميزان القوة الاقتصادية داخل دول ذات كثافة سكانية منخفضة. وشهدت مدينة ألماتي داخل كازاخستان احتجاجات في يناير (كانون الثاني) من العام الماضي بسبب صفقة أراض مقترحة تشمل الصين. ويقول عيدلهون أوبدبيف (35 عاما)، وهو سائق ينقل تجارا ومسافرين بين ألماتي ومدينة زراكنت الحدودية: «الكثير منا القرغيز لديهم مخاوف كثيرة بشأن التدفق الصيني بصورة عامة، ولكن ماذا نستطيع القيام به؟». وأضاف قائلا «تتخذ الحكومة هذه القرارات وتدعوهم من أجل الاستثمار داخل مناطق تجارة حرة».

وتحدث مسؤولون صينيون عن اهتماماتهم بلا مواربة. وكتب الجنرال ليو في مقال نشر في فصل الصيف الماضي بالمجلة الإخبارية «فونيكس ويكلي»: «بدأ تعاون الصين في مجال الطاقة مع دول آسيا الوسطى خلال التسعينات من القرن الماضي ولكن خلال الأعوام الأخيرة ومع نمو سريع للقوة الوطنية الصينية، استغلت الصين غياب المبادرة داخل المنطقة من جانب الولايات المتحدة وروسيا»، «وبدأت الصين في تشجيع نزعة استهلاكية محمومة داخل المنطقة». وقد أصبحت دول آسيا الوسطى التي لها حدود مع الصين، ولا سيما قرغيزستان، نقطة انتقال مهمة أمام البضائع الصينية التي تشق طريقها إلى منطقة بحر قزوين وروسيا وأوروبا. وبلغ إجمالي التجارة بين الصين والدول الخمس بآسيا الوسطى 25.9 مليار دولار خلال 2009، في مقابل 527 مليون دولار عام 1992، وذلك بحسب ما أفادت به إحصاءات وزارة التجارة.

وفي هذه الأثناء، تقوم خطوط أنابيب جديدة بنقل النفط والغاز الطبيعي إلى شينجيانغ من حقول داخل آسيا الوسطى حيث اشترت شركات صينية حقوق تطوير. ويرى مسؤولون صينيون أن آسيا الوسطى ومنطقة بحر قزوين يمثلان مصدرا بديلا ومهما للطاقة، حيث إن منطقة الشرق الأوسط غير مستقرة سياسيا وتمر الناقلات من هناك بمضيق ملقا، وتخشى الصين من أن الجيش الأميركي أو أي قوة أخرى قد تغلقه.

كما تعتبر الصين منطقة آسيا الوسطى موطئ قدم يساعد على ضمان الاستقرار داخل شينجيانغ، حيث تفجرت توترات قديمة بين مسلمي الأويغور والهان وتحولت إلى أعمال عنف مميتة. ومنذ أعمال الشغب في 2009 داخل شينجيانغ، لدى مسؤولين صينيين مخاوف من تسرب نهج راديكالي من الإسلام من دول آسيا الوسطى أو باكستان أو أفغانستان، بحسب ما أفاد به محللون. ويعيش نحو نصف مليون من الأويغور داخل المنطقة، والكثير منهم مهاجرون من شينجيانغ إلى كازاخستان وقرغيزستان.

وفي عام 1966، ساعدت الصين على تأسيس كيان سبق منظمة شنغهاي للتعاون، وهي مجموعة استراتيجيات إقليمية تهدف بالأساس إلى محاربة التوترات الانفصالية. ويتبادل أفراد المجموعة، ومن بينهم روسيا ومعظم دول آسيا الوسطى، معلومات استخباراتية ويجرون مناورات عسكرية مشتركة، حتى لو فشلوا في التنسيق بشأن سياسة أوسع بسبب المصالح المتنافسة، بحسب ما ذكره مسؤولون أميركيون. وتأمل الصين أيضا أن تستخدم المجموعة من أجل مد نفوذها الاقتصادي. وفي العام الماضي قامت الصين بمنح قروض قيمتها 10 مليارات دولار إلى دول أعضاء بمنظمة شنغهاي للتعاون «من أجل تعزيز الاقتصادات المتعثرة».

ويأمل مسؤولون صينيون ومحللون في أن تؤدي هذه المساعدات، بالإضافة إلى الروابط التجارية الأقوى، إلى نمو اقتصادي داخل شينجيانغ وتقلل من الاضطرابات بين صفوف الأويغور. وقدم مسؤولون في الحكومة المركزية مقترحا العام الماضي إلى مجلس الدولة، وهو المجلس الوزاري داخل الصين، من أجل تحويل أورومتشي، عاصمة شينجيانغ وموقع أعمال الشغب عام 2009، إلى مركز إقليمي لإنتاج الطاقة. ويقول ووي هونغاوي، وهو أكاديمي متخصص بشؤون منطقة آسيا الوسطى لدى الأكاديمية الصينية للعلوم الاجتماعية: «دائما ما تولي الصين اهتماما بهذه الدول المحيطة، وتقوم بتعزيز التنمية السلمية داخل هذه الدول من أجل تقديم بيئة مناسبة للنمو الاقتصادي الصيني».

وعلى ضوء حاجة الصين المتنامية للغاز الطبيعي والنفط أصبحت القضية مرتبطة باستراتيجية أمن الطاقة. ويقوم خطا أنابيب جديدان، وهما الأول من نوعهما بين الصين ودول أجنبية، بتقديم الغاز لها من تركمانستان والنفط من كازاخستان.

وحظيت خطوط الأنابيب بقدر كبير من الأهمية لدرجة أن الرئيس هو جين تاو ذهب إلى صحراء كاراكوم داخل تركمانستان عام 1999 من أجل افتتاح رمزي لخط أنابيب يصل طوله إلى 1.100 ميل هناك. ومن المتوقع أن يقوم هذا الخط بتوصيل 40 مليار متر مربع بحلول 2012 أو 2013، وقد وقعت تركمانستان على تعاقد يهدف إلى توصيل الغاز إلى الصين لمدة 30 عاما. وتمكنت الصين من الحصول على الترخيص الوحيد من أجل تطوير حقول غاز في جنوب يولوتان هناك، وهي من بين أكبر الحقول في العالم.

* خدمة «نيويورك تايمز»