محافظ «بنك إنجلترا» يواجه أزمة مع تعرض الاقتصاد البريطاني لمزيج من التضخم والركود

شخصية جذابة وقوية.. ولكن

ميرفين كينغ محافظ بنك إنجلترا
TT

ليس من الضروري أن يشعر الآخرون تجاه مسؤولي المصرف المركزي بالحب، لكن على الأقل ينبغي أن يحظوا بالاحترام، وفي بريطانيا هذه الأيام، ليس بمقدور ميرفين كينغ، محافظ بنك إنجلترا «بانك أوف إنغلاند» ضمان أي منهما. واجه كينغ اتهامات بأن فترة ترؤسه للمصرف المركزي شهدت تعرض الاقتصاد البريطاني لأسوأ حالة تضخم مصحوبة بركود اقتصادي - وهو مصطلح يشير إلى مزيج مخيف من ركود النشاط الاقتصادي وتفاقم التضخم - وقعت على مستوى الاقتصادات المتقدمة الكبرى. أيضا، ندد به البعض بانتهاكه استقلالية المصرف من خلال إعلان تأييده لاستراتيجية تقليص العجز التي أقرتها الحكومة.

أما القضية الأخطر التي راهن عليها بسمعته، فهي ضرورة أن تزيد المصارف البريطانية الكبرى من مستويات رأس المال لديها لما هو أكبر بكثير عن المستويات الدولية. وقد تم تجاهل طلب كينغ بهذا الخصوص.

تأتي الشكوك حول استراتيجية مكافحة التضخم التي ينتهجها كينغ في وقت تعمل فيه القيادات الأوروبية على صياغة استراتيجية للتعامل مع مشكلات الديون السيادية داخل المنطقة. وتضغط ألمانيا وفرنسا من أجل اتخاذ خطوات ملموسة لتحقيق تناغم بين الإنفاق المالي من خلال التركيز على قضايا الضرائب والمعاشات، بينما تناضل الدول الأضعف لتقليص معدلات العجز لديها. لكن مع تفاقم ضغوط التضخم بكل مكان، من المتوقع أن يتركز النقاش حول إلى أي مدى يمكن للمصرف الأوروبي المركزي، مثل نظيره البريطاني، مقاومة الضغوط لرفع معدلات الفائدة. منذ أمد ليس بعيدا، كانت هتافات الإشادة والمديح تنهال على مسؤولي المصارف المركزية في الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والاقتصادات الناشئة سريعا، مثل تركيا والبرازيل؛ حيث جرى النظر إليهم باعتبارهم منقذين لاقتصاداتهم عبر إغراق أنظمتهم المصرفية بأموال كافية للحيلولة دون وقوع كساد.. إلا أن الكثيرين منهم الآن يواجهون إمكانية انحسار نفوذهم في وقت بدأ التضخم في الارتفاع ويواجه النمو الاقتصادي داخل الدول الصناعية المتقدمة عقبات جرَّاء مستويات الدين الحكومي المرتفعة.

وبالنسبة لمجموعة اعتادت التمتع بنفوذ كبير - يواجه بن برنانكي، رئيس مصرف الاحتياط الفيدرالي الأميركي، وجان كلود تريشيه، رئيس المصرف المركزي الأوروبي، تحديات مشابهة لتلك التي يجابهها كينغ، وإن كانت أقل حدة - فإن مثل هذا التراجع في النفوذ قد يمثل صحوة إيقاظ مهينة. في خطاب ألقاه الشهر الماضي، اعترف كينغ بقدرته المحدودة على مكافحة المستويات المرتفعة من البطالة ومعدلات التضخم المتزايدة التي ضربت بريطانيا.

وشرح كينغ أنه مع ارتفاع أسعار الغذاء والطاقة وضعف الجنيه الإسترليني الذي يجعل الواردات أعلى تكلفة، فإنه لا يمكن للسياسة النقدية «تبديل حقيقة أنه، بصورة أو بأخرى، التقشف في معايير المعيشة هو الثمن الحتمي للأزمة المالية وما يتبعها من إعادة توازن للاقتصادين العالمي والبريطاني». وتبدو هذه المقولة أشبه بالصرخة الأخيرة لهذا المسؤول الذي يعاني تراجعا في مكانته ونفوذه. من جهتها، علقت ديان إس. جوليوس، رئيسة «تشاتام هاوس»، وهي منظمة بحثية وتحليلية في لندن وعضو سابق في لجنة السياسة النقدية داخل «بانك أوف إنغلاند»، بقولها: «حمل هذا الخطاب طابعا دفاعيا، وبعض الإحباط إزاء القوى الواقعة خارج إطار سيطرته». وتعتبر جوليوس من منتقدي كينغ، وترى أنه قلل من أهمية رياح التضخم التي تعرضت لها البلاد، بل وترى أنه كان متطرفا للغاية في حثه المصارف البريطانية على زيادة رؤوس الأموال لديها. وقالت: «أصبحت هناك ضغوط فيما يخص كلا من الإصلاح المصرفي والتضخم. ولا أعتقد أن كينغ يمر بوقت هادئ حاليا». وهناك أيضا قضية السياسة النقدية.

من المحتمل أن يجابه الشعب البريطاني فترة أكثر صعوبة هذا العام عندما يبدأ تأثير برنامج التقشف الذي أقرته الحكومة بقيمة 80 مليار جنيه إسترليني في الظهور. وازدادت إمكانية حدوث ذلك بعد ظهور مؤشرات مؤخرا حول أن الاقتصاد، بدلا من أن ينمو، انكمش بنسبة 0.5% خلال الربع الأخير. وارتفعت الأسعار الاستهلاكية بمعدل سنوي بلغ 3.7% في ديسمبر (كانون الأول)، ليصل إلى أعلى مستوياته منذ عامين، وللشهر الـ13 على التوالي، مما فوت على «بانك أوف إنغلاند» فرصة تحقيق المستوى الذي استهدفه، البالغ 2%. وقد رفض كينغ السماح بعقد مقابلة معه، لكن أفرادا ممن عملوا معه يرسمون له صورة مفكر مبدع يتميز بشخصية ساحرة، لكنه يتحول إلى شخص عدواني يميل للمواجهة عندما يتعرض لتحدٍّ فكري. عن ذلك، قال مايكل فوت، رئيس شركة «برومونتوري فايننشال غروب للاستشارات» في لندن، وهو مسؤول تنفيذي سابق في «بانك أوف إنغلاند»: «ليس لدى ميرفين أدنى شك بخصوص قدراته».

إلا أن تراكم الضغوط، على ما يبدو، بدأ يترك تأثيرا. على سبيل المثال، اعتبر كثير من المحللين الخطاب الذي ألقاه كينغ في يناير (كانون الثاني)، على الرغم مما حمله من عناصر مميزة للخطابات الملكية، مثل اقتباسه عبارات من رواية «أنا كارنينا» في بداية الخطاب ونهايته، أنه ينبئ عن شعوره بغضب شديد، ولا يبدو كتحليل متوازن للاقتصاد البريطاني. في خطابه، قال كينغ: «هناك اعتقاد خاطئ في بعض القطاعات بأن لجنة السياسة النقدية كان بإمكانها منع الضغوط التي تعرضت لها مستويات المعيشة عبر رفع معدلات الفائدة خلال العام الماضي لدفع التضخم لمستوى أدنى من مستواه الراهن. تنطوي هذه النظرة على تفهم خاطئ لأسلوب عمل السياسة النقدية».

وأعلن مؤخرا اثنان من أعضاء لجنة صنع السياسات داخل المصرف عن رفضهما إصرار كينغ على أن معدل التضخم الراهن في بريطانيا ناتج عن عوامل خارجية مفاجئة وأنه ينبغي عدم زيادة معدلات الفائدة. أيضا، اتهم آدم بوسين، عضو آخر بمجلس إدارة المصرف، كينغ بتعريض استقلالية المصرف للخطر بإعلانه تأييده استراتيجية تقليص العجز بالموازنة التي تنفذها الحكومة حاليا بزعامة حزب المحافظين.

منذ إقرار استقلالية «بانك أوف إنغلاند» عن وزارة الخزانة عام 1997، تولت الحكومة تعيين محافظي المصرف، لكن جرى النظر إليهم باعتبارهم لا يتبعون توجهات سياسية محددة ويتركز اهتمامهم على ضمان استقرار الأسعار. إلا أنه يبدو أن كينغ، الذي تنتهي ولايته الثانية والأخيرة في رئاسة المصرف عام 2013، قد تحرك إلى ما هو أبعد من هذه الصورة السائدة بإعلان تأييده خطة الائتلاف الحكومي لتقليص العجز بمعدل أسرع مما اقترحه حزب العمال عندما كان في السلطة. ويرى بعض الخبراء الاقتصاديين أن المخاوف الكبرى تدور حول أن هذا التأييد المعلن من جانبه قد يثير توقعات بأنه على استعداد لتجاهل التضخم لبعض الوقت للسماح لجهود الحكومة بتقليص النفقات بالاستمرار حتى تؤتي ثمارها.

في المقابل، أشار أنصار كينغ إلى أن من يثيرون مثل هذه المخاوف لا يدركون حقيقة العبء الثقيل المتمثل في إدارة «بانك أوف إنغلاند» من مقره الشبيه بالقصر في ثريدنيدل ستريت بقلب المدينة، وهو اسم حي المال في لندن. في الحقيقة، يحظى كينغ بالكثير من المعجبين الذين يشيدون بقدرته على إقناع الآخرين بوجهات نظره - مهما بدت كريهة.

وفيما يخص اقترابه الشديد من معسكر المحافظين بخصوص قضية تقليص العجز، يشير أنصاره إلى برقيات مسربة أثار في إطارها كينغ الشكوك بشأن مستوى خبرة زعيم المحافظين، ديفيد كاميرون، وكبير مستشاريه الاقتصاديين جورج أوزبورن. في هذا الصدد، قال مايكل فالون، عضو البرلمان عن حزب المحافظين، الذي استجوب كينغ مرارا عندما كان عضوا باللجنة المنتخبة لشؤون الخزانة: «إنه ملك أو حاكم بالمعنى الكلاسيكي، ويضطلع بواجباته في إسداء النصح وتنفيذ دراسات وإطلاق تحذيرات. لقد كانت أوضاعنا المالية في حالة فوضوية أكبر من غيرها، وقد أسهم هو في صياغة النقاش الدائر بهذا الشأن». كما حظي كينغ بتأييد قوي - يتركز في معظمه خارج الدوائر المصرفية البريطانية - نظرا لحملته القوية للحد من معدل رفع المصارف البريطانية. وقد صاغ وجهة نظره بهذا الخصوص في خطاب قوي ألقاه نهاية العام الماضي في نيويورك.

ومثلما أوضح كينغ في هذا الخطاب، انطوت المصارف البريطانية على مخاطر استثنائية لامتلاكها أصولا تفوق حجم الاقتصاد البريطاني بمقدار 4.5 مرة.. أما كيفية تقليص ذلك فتمثل القضية الرئيسة التي تُعنى بها لجنة تحقيق مستقلة هنا بقيادة جون فيكرز، الخبير الاقتصادي البارز سابقا لدى «بانك أوف إنغلاند» ورئيس «مكتب التجارة العادلة». وقد حرص كينغ على عدم استباق نتيجة التحقيق، لكنه أوضح اعتقاده بضرورة إجراء تغييرات راديكالية، مشيرا في خطابه إلى أنه من الأنظمة التي يمكن استخدامها في تنظيم المصارف «تعتبر القائمة اليوم هي الأسوأ من نوعها».

* خدمة «نيويورك تايمز»