في تقرير «مثير للجدل».. صندوق النقد الدولي: ارتفاع سعر البرميل بسبب شح الإمدادات النفطية في العالم

تبنى افتراضا لا يرتبط بمسح جيولوجي واعتبر ارتفاع الأسعار دليلا

TT

كشف تقرير صادر عن صندوق النقد الدولي يوم أمس عن بدء فترة تتسم بزيادة شح المعروض في أسواق النفط العالمية نتيجة انتقال متصاعد لمنحنى نمو استهلاك النفط في العالم. ويعزو التقرير نمو استهلاك العالم من السلعة الناضبة إلى سرعة نمو اقتصادات الأسواق الناشئة.

وفي خطوة مثيرة للجدل، أشار صندوق النقد الدولي في مطبوعته السنوية «آفاق الاقتصاد العالمي» إلى أن زيادة أسعار النفط هي السبب الرئيسي الذي أدى إلى استنتاج شح الإمدادات النفطية في العالم. وحصر صندوق النقد الدولي أسباب ارتفاع أسعار النفط ضمن متغير العرض والطلب فقط مما يثير علامة استفهام تجاه دور متغيرات أخرى ساهمت في التأثير على أكثر أسواق العالم تعقيدا عند محاولة قراءتها.

ولم تتضمن قراءة توماس هيلبلينغ، رئيس الفريق الذي أعد التقرير، متغيرات رئيسية لعبت دورا كبيرا في التأثير على أسواق النفط العالمية في العشر سنوات الأخيرة. والذي قد يوضح أهمية وجود مستشارين جيولوجيين وخبراء في اقتصاديات الطاقة ضمن فريق العمل الذي حاول تحليل أسواق النفط العالمية عبر معادلات رياضية برمجية مستقاة من فرضيات لا تمت بصلة لواقع أسواق النفط العالمية وترتبط بمصادر من مؤسسات مصرفية استثمارية مثل «غولدمان ساكس».

ولم تشمل قراءة توماس هيلبلينغ لمتغير العرض والطلب، بيانات مدرجة من قبل مبادرة بيانات النفط المشتركة «جودي» والتي تضم بيانات منظمة أوبك ووكالة الطاقة الدولية والتي تشير إلى حالة مستقرة في أسواق النفط حيث يتجاوز الفائض في ميزان العرض والطلب ما يقارب نصف مليون برميل يوميا كما أن حجم المخزونات التجارية العالمية يصل إلى خمس وخمسين يوما من الطلب حسب بيانات «تريس داتا إنترناشونال» والذي يمثل ارتفاعا بقدر ثلاثة أيام من الطلب مما تستهدفه منظمة أوبك وهو 52 يوما من الطلب وهذا يعود إلى أن نسبة الالتزام بسقف الإنتاج من قبل أوبك انخفضت إلى 44 في المائة أي إن إنتاج أوبك من النفط تخطى سقف الإنتاج بنحو 2.4 مليون برميل مقارنة بما تم الاتفاق عليه عند 24.8 مليون برميل. ومن اللافت أن انخفاض نسبة التزام أوبك بسقف الإنتاج يشير إلى تجاوب منظمة أوبك مع التغيرات التي تطرأ في أسواق النفط العالمية والتي بددت أي مخاوف من شح الإمدادات التي يفترضها فريق توماس هيلبلينغ.

ومع أن منظمة أوبك تتوقع في تقريرها الأخير أن ينمو الاقتصاد العالمي بنحو 3.9 في المائة خلال عام 2011 مقارنة بنمو قدره 4.5 في المائة في العام الماضي 2010 فإن أوبك أشارت إلى أن ذلك النمو المتوقع جاء على حساب ميزان المدفوعات لحكومات الدول المستهلكة والذي رفع من نسبة الدين العام مقارنة بالناتج المحلي الإجمالي حيث ذكرت أوبك أن معظم النمو المتوقع سيأتي من الدول الآسيوية كالصين والهند والذي يضع تحديات أمام توقعات النمو إذا ما استمر ضعف الإنفاق الاستهلاكي في الدول الأعضاء في منظمة التنمية والتعاون الاقتصادي بسبب ارتفاع معدلات البطالة. خصوصا أن دعم الإنفاق الاستهلاكي بحاجة إلى عودة القطاع المصرفي إلى التعافي مما يدفع ذلك القطاع إلى الاستمرار في الاعتماد على التدخل الحكومي.

وشكل الارتفاع في الدين العام الحكومي للدول المستهلكة ضغوطا على معدلات الإنفاق الحكومي مما دفع الحكومات إلى التفكير جديا في خفض حجم الإنفاق لتفادي استمرار ارتفاع تلك الديون وعندها من المحتمل أن تعود الضغوط الانكماشية على الاقتصاد العالمي والتي لم يأخذها تقرير صندوق النقد الدولي في عين الاعتبار كعامل مهم قد يزيح وهم شح الإمدادات النفطية من قراءة التقرير غير المتأنية.

ولم يلتفت فريق العمل برئاسة توماس هيلبلينغ إلى حالة اللا يقين في أسواق النفط نتيجة الافتقار إلى دلائل ملموسة على توقعات وكالة الطاقة الدولية لنمو الطلب على النفط. والذي يجعل الاستثمار في زيادة الطاقة الإنتاجية يتم بشكل بطيء ومحاذ لمعدلات النمو التي تتم ملاحظتها على المدى قصير الأجل. وما زال واقع ومستقبل أسواق النفط قائما على توقعات وافتراضات لا تحتوي على بيانات كافية خصوصا أن أحد أهم الدلائل الملموسة لنمو الطلب تتمحور حول مبدأ مشاركة مخاطر الاستثمار ما بين منتجي ومستهلكي النفط، الذي ما زال في طور التجربة وقد يكون بداية لتخفيف حدة اللا يقين في أسواق النفط.

وقد قامت شركة «أرامكو السعودية» بالاستثمار في رفع الطاقة التكريرية عبر تحالفات مع شركات عالمية حتى يتسنى للأولى قراءة الحاجة الفعلية لزيادة الطلب على النفط عبر ضمان صادرات منتجات القيمة المضافة من البترول، مما يمكن شركة «أرامكو السعودية» من ربط مشاريع التوسع في إنتاج النفط بما يتم من نمو في حصص شركات البترول العالمية من نمو الطلب على منتجات البترول في الأسواق الدولية.

وعلى النقيض، لم يناقش التقرير الصادر من صندوق النقد الدولي دور انخفاض سعر صرف الدولار الأميركي في ارتفاع أسعار السلع والذي شكل متغيرا اقتصاديا جديدا خارجا عن إرادة أسواق النفط ساهم في دفع أسعار النفط إلى الارتفاع، حيث إن ما يسمى بسياسات التيسير الكمي للاحتياطي الفيدرالي الأميركي أسهمت بشكل لا يمكن إغفاله في رسم توقعات لتضخم أسعار الأصول المالية في أسواق المال، ومنها سلعة النفط. وشكلت وسائل الاتصال الحديثة زخما للتدفقات الاستثمارية التي تتجول في بيئة شبه مترابطة لأسواق المال يمكنها من تدفق الأموال بشكل لحظي عند ورود بيانات اقتصادية جديدة، وعندها من المنطقي اعتبار سلعة النفط أداة استثمارية للتحوط من هبوط الدولار.

ومن اللافت أن تقرير صندوق النقد الدولي لم يتطرق إلى دور المضاربات الذي أشارت إليه منظمة أوبك مرارا حيث تتمحور عمليات التداول للمنتجات البترولية في أروقة بورصات النفط العالمية مثل بورصة «نايمكس» في نيويورك وبورصة لندن الدولية والتي تصل أحجام صفقات التداول فيها إلى 220 مليون برميل في اليوم مقارنة بمستويات الإنتاج اليومية والتي تعادل 85 مليون برميل في اليوم ولهذا يتبين الأثر الواضح للمضاربات في حركة أسعار النفط بشكل غير مسبوق. ولم يكن ذلك خافيا على الدول الأعضاء في منظمة أوبك، حيث كانت أصابع اللوم توجه صوب المنظمة البترولية كلما شهدت أسعار النفط ارتفاعا ملحوظا إلا أن منظمة أوبك لم تدخر جهدا لدفع أصابع اللوم إلى بورصات النفط الدولية وأهمها ما تمثل في دعوة المملكة العربية السعودية لتأسيس منتدى الطاقة الدولي ليكون أرضية حوار بين الدول المستهلكة والمنتجة لرسم سياسات نفطية مشتركة تؤول إلى استقرار أسعار النفط في الأسواق الدولية.

ومن المحتمل أن يكون شح الإمدادات النفطية الذي يقصده فريق توماس هيلبلينغ شحا في استجابة البراميل الحقيقية لمثيلاتها البراميل الورقية إذا صح التعبير والذي نتج عن تداخل مفهوم التحوط في الأسواق المفتوحة مع الاستثمار المفرط في أسواق النفط مما يرجح استمرار ارتفاع أسعار النفط إذا ما بقي هنالك شح في الإمدادات النفطية الحقيقية والتي لم تستطع مجاراة الطلب على البراميل الورقية.

ورجح توماس هيلبلينغ تبدد المخاوف من آثار شح الإمدادات النفطية نتيجة تحسن كفاءة الطاقة في الدول الصناعية بعد خطط ترشيد الاستهلاك والانتقال إلى اقتصادات أكثر تركيزا على قطاع الخدمات مما يثير الحيرة لمبادرة فريق العمل بقيادته لتقديم تصور يحذر من آثار شح الإمدادات النفطية وسط بيانات واضحة ناقشها تؤكد تلاشي آثار ارتفاع أسعار النفط على الاقتصاد العالمي. وأوضح التقرير أن هبوط الإمدادات النفطية بنحو واحد في المائة سيكبح جماح نمو الاقتصاد العالمي بمقدار ضئيل لا يتجاوز ربع نقطة مئوية.

وفي العرف الاقتصادي لا تتأثر معدلات الطلب على الطاقة مع مستويات أسعارها حيث إن هنالك نوعين للطلب إما مرن أو غير مرن. وعند محاولة المقارنة علينا التعرف على مصطلح مرونة الطلب مقابل الأسعار وهو قياس مدى استجابة كمية الطلب لسلعة ما نتيجة تغير في سعر تلك السلعة وهي مؤشر لرد فعل المستهلك لتغير الأسعار. والطلب المرن هو تأثر معدل الطلب بتغير الأسعار أما الطلب غير المرن فهو عدم تؤثر معدل الطلب مع تغير الأسعار والسبب في عدم مرونة الطلب على الطاقة كما تشير دراسات متخصصة في اقتصاديات الطاقة لدى شركة «تريس داتا إنترناشونال» إلى أنه ببساطة يندرج تحت أولويات وحاجات المستهلكين وبالتالي سيستمر المستهلك في الطلب على الطاقة حتى مع ارتفاع أسعارها وترتفع درجة انعدام مرونة الطلب على الطاقة مع انعدام البدائل الموجودة للمستهلكين. ولذلك من غير المنطقي اعتبار أسعار النفط مؤشرا لقياس شح الإمدادات النفطية نظرا لعدم تأثر سلوكيات الطلب على الطاقة مع أسعار النفط.

وحسب تقرير صندوق النقد الدولي فإن ارتفاع أسعار النفط بنحو عشرة في المائة لا يقلل معدل الطلب إلا بمقدار لا يتجاوز ربع نقطة مئوية مما لا يدفع بقبول استنتاجات تقرير صندوق النقد الدولي باعتبار ارتفاع أسعار النفط معيارا لقراءة ما إذا كان هنالك شحا في الإمدادات النفطية.

وضمن سياق التقرير أفاد توماس هيلبلينغ أن ارتفاع أسعار النفط سيشكل تراكما للتدفقات المالية للدول المصدرة للنفط مما يعزز حجم التجارة البينية بين الدول المصدرة والمستهلكة للنفط مما يشكل ميزة إضافية لارتفاع أسعار النفط إلا أنه طالب الحكومات في الدول المستهلكة بمراجعة السياسات التي تعزز من تقليل آثار ارتفاع أسعار النفط كالاستثمار في مصادر الطاقة البديلة. وحسب بيانات «تريس داتا إنترناشونال» فقد يصل حجم التدفقات المالية الناتجة عن صادرات الدول الأعضاء في منظمة أوبك إلى 715 مليار دولار لعام 2011.