برنانكي يحدث ثورة في أسلوب عمل البنك المركزي الأميركي

في سابقة لم تحدث في تاريخ «الاحتياط الفيدرالي».. خاطب الجماهير على شاشات التلفزيون

TT

من الغموض إلى الشفافية ومن الخفاء إلى العلن يحدث برنانكي ثورة في أسلوب عمل مصرف الاحتياط الفيدرالي (البنك المركزي الأميركي)، حيث عقد بن برنانكي، رئيس مصرف الاحتياط الفيدرالي، يوم الأربعاء الماضي أول مؤتمر صحافي في تاريخ المصرف، وكان يجلس وراء مكتب مصنوع من خشب الماهوغني الفاخر حين بدأت الكاميرات في التصوير. وأوضح برنانكي طريقة إدارته للاقتصاد بأسلوبه الهادئ والصبور والجاد الذي اعتاد عليه كأستاذ جامعي.

وتحدث برنانكي عن أشياء معروفة، ولكن بمجرد إذاعة المؤتمر الصحافي، ارتفع النمو في الأسواق ارتفاعا طفيفا، مما يوحي بأن المستثمرين لم يتعلموا شيئا يذكر، على الرغم من إغلاق المؤشرات الرئيسية الثلاثة بقوة اليوم. وظهر رئيس مصرف الاحتياط الفيدرالي في مشهد غير عادي على شاشات التلفاز على الهواء مباشرة بهدف التحدث عن بواعث قلق العامة. ويقوم المصرف المركزي، والذي ظل حريصا لفترة طويلة على تغذية الشعور بسموه عن السياسة، بعقد مؤتمرات صحافية منتظمة الآن تماما مثله مثل غيره من المصارف الأخرى في واشنطن، على أمل تحسين صورته وحشد الدعم لسياساته.

وخلال المؤتمر الصحافي، أراد برنانكي توصيل رسالة مفادها أن مصرف الاحتياط الفيدرالي كان يفعل كل ما في وسعه لتحفيز النمو وزيادة فرص العمل دون التسبب في زيادة التضخم. وقال إن التضخم يجب أن يكون له الأسبقية على التوظيف لأن التضخم سيؤدي إلى فقدان الوظائف. وقال: «من الهام جدا مساعدة الاقتصاد على خلق فرص عمل وتحقيق الانتعاش الاقتصادي، ولكني أعتقد أن كل رؤساء المصارف المركزية يدركون أن الحفاظ على انخفاض معدلات التضخم هو أمر ضروري للغاية لنجاح أي اقتصاد، وسوف نبذل قصارى جهدنا للتأكد من حدوث ذلك».

وجاء حديث برنانكي بعد قيام مصرف الاحتياط الفيدرالي بخفض سقف توقعاته الخاصة بالنمو الاقتصادي المحلي خلال عام 2011، متوقعا أن يتراوح بين 3.1 و3.3 في المائة. وكان المصرف قد توقع أن تتراوح نسبة النمو خلال شهر يناير (كانون الثاني) بين 3.4 و3.9 في المائة. لكن برنانكي أكد أن الصادرات والإنفاق على البناء والإنفاق العسكري كانت جميعها أقل من المتوقع.

كذلك رفع المصرف من سقف توقعاته للتضخم. وتوقع ارتفاع الأسعار بنسبة تتراوح بين 2.1 و2.8 في المائة خلال العام الحالي. وأرجع ذلك بشكل كبير إلى ارتفاع أسعار النفط، على الرغم من تأكيده على أن هذه الزيادات سوف تنخفض.

وصوتت لجنة السياسات التابعة لمصرف الاحتياط الفيدرالي بالإجماع يوم الأربعاء الماضي على الاستمرار في تبني عدة سياسات تهدف إلى تحفيز النمو. ومن تلك السياسات الإبقاء على أسعار الفائدة قصيرة الأجل إلى حد يقترب من الصفر، والحفاظ على حجم المحفظة الاستثمارية لمصرف الاحتياط الفيدرالي عند حد يزيد على تريليوني دولار بمجرد الانتهاء من شراء سندات خزينة بقيمة 600 مليار دولار في يونيو (حزيران) المقبل. وقال بيان صادر عن اللجنة: «أدى ارتفاع أسعار الطاقة والسلع الأخرى إلى زيادة التضخم في الأشهر الأخيرة. وتتوقع اللجنة أن تكون هذه التأثيرات مؤقتة، ولكنها سوف تولي اهتماما خاصا بمسألة التضخم».

وقال برنانكي إن الانتعاش الاقتصادي يتمتع بأسباب بقائه ولا يحتاج إلى مساعدة خارجية، بمعنى أن النمو يمكن أن يستمر حتى من دون دعم حكومي استثنائي. لكنه أضاف أنه لا يزال يرغب في رؤية وتيرة أسرع للنمو وخلق المزيد من فرص العمل. ولا يزال معدل البطالة الرسمي- نسبة القوى العاملة التي تسعى بقوة للحصول على وظائف - مرتفعا للغاية، على الرغم من انخفاضه من 10.1 في المائة في أواخر عام 2009 إلى 8.8 في المائة في مارس (آذار) الماضي. وعلاوة على ذلك، سوف يرتفع معدل البطالة إلى أكثر من الضعف إذا ما اختارت الحكومة أن تحسب الأعداد الكبيرة للأميركيين الذين توقفوا عن البحث عن عمل أو قبلوا بوظائف الدوام الجزئي. وحذر برنانكي من أنه في حال تعثر الاقتصاد، فقد يكون من الصعب على المصرف المركزي أن يقوم بتقديم دعم جديد بسبب الضغوط المتزايدة للتضخم. وأضاف: «تزداد المبادلات صعوبة في هذه المرحلة، ومعدل التضخم في ارتفاع، والصورة ليست واضحة من حيث ما إذا كنا نستطيع زيادة المرتبات بصورة كبيرة دون أن يؤدي ذلك إلى ارتفاع خطير في معدلات التضخم».

وعقد برنانكي المؤتمر الصحافي في الطابق العلوي لمبني تابع لمقر مصرف الاحتياط الفيدرالي، وسمح المصرف لـ60 صحافيا بحضور المؤتمر بعد اجتيازهم لإجراءات أمنية مشددة ومرافقتهم إلى المقاعد المخصصة لهم في صفوف طويلة من الموائد. وكان يوجد في المقدمة علمان بالإضافة إلى المكتب المصنوع من خشب الماهوغني الفاخر. وسأل الصحافيون برنانكي أسئلة توضح صعوبة الخيارات المتاحة لمصرف الاحتياط الفيدرالي الآن، حيث ضغط بعض الصحافيين على برنانكي ليوضح سبب عدم الاهتمام بقضية التضخم بصورة أكبر. وتساءل البعض لماذا لم يكن يولي اهتماما أكبر لقضية البطالة. وعندما كان برنانكي يدلي بشهادته أمام الكونغرس، كان غالبا ما يواجه تساؤلات بشأن عدد كبير من القضايا، لم تكن تتعلق بالاقتصاد في الكثير من الأحيان. ولكن خلال المؤتمر الصحافي الذي عُقد يوم الأربعاء الماضي ركزت الأسئلة على عالم السياسة النقدية الذي يتسم بالضغوط والتعقيد في الوقت ذاته. وأجاب برنانكي بالمثل وقدّم إجابات تقنية لم يستطع المشاهد العادي أن يفهمها في بعض الأحيان.

ويأمل الاحتياط الفيدرالي في الوصول إلى الجمهور بصورة أكبر، بهدف إنهاء حالة الغضب السائدة بسبب الطريقة الاستثنائية التي تعامل بها المصرف مع الأزمة المالية. وفي الوقت ذاته يريد الاحتياط الفيدرالي أن يتحدث بشكل أكثر وضوحا لجمهور المتخصصين والمستثمرين الذين لا يتجاهلون أي كلمة تقال. وقام برنانكي بالحديث مباشرة بعد اجتماع اللجنة، فيما يمكن أن يكون بمثابة رسالة للمستثمرين الذين يخلطون بين الخطابات المتناقضة التي يدلي بها أعضاء اللجنة الآخرين عقب كل اجتماع. وصرح الاحتياط الفيدرالي يوم الأربعاء الماضي أنه سيبقي على أسعار الفائدة قصيرة الأجل قريبة من الصفر «لفترة طويلة» - وهو ما فسره برنانكي بعدم القيام بأي تغييرات خلال عدة اجتماعات للجنة. والجدير بالذكر أن اللجنة تعقد ثمانية اجتماعات سنويا.

ويقول منتقدو موقف الاحتياط الفيدرالي من قضية التضخم إن ارتفاع أسعار السلع الأساسية سوف يؤدي إلى زيادة أسعار السلع والخدمات الأخرى، ولكن يقول برنانكي وحلفاؤه إنه من المرجح أن يدفع ارتفاع الأسعار الأميركيين إلى خفض الاستهلاك نظرا لعدم ارتفاع الأجور؛ وبالتالي لن يكون لدى الأميركيين الكثير من المال ليقومون بإنفاقه. ومع انخفاض الطلب، حسب قولهم، فإن أسعار المواد الغذائية والنفط والسلع الأخرى سوف تنخفض أيضا. وأعرب مسؤولو مصرف الاحتياط الفيدرالي قلقهم من ارتفاع أسعار المواد الغذائية والنفط. لكنهم أوضحوا أن أفضل طريقة للحفاظ على استقرار الأسعار على المدى الطويل هو تجاهل التقلبات قصيرة الأجل. وقد تم التصويت بالإجماع على القرار الذي اتخذته اللجنة، رغم تصريحات بعض الأعضاء التي شككوا خلالها في تقليل المصرف من أهمية مخاطر التضخم. وحتى الآن، لم يعبّر تشارلز بلوسر، رئيس مصرف الاحتياط الفيدرالي في فيلادلفيا وأشد منتقدي القرار، وريتشارد فيشر، رئيس مصرف الاحتياطي الفيدرالي في دالاس - عن معارضتهم للقرار. وسوف تعقد اللجنة اجتماعها القادم في الحادي والعشرين والثاني والعشرين من شهر يونيو المقبل.

*خدمة «نيويورك تايمز»