تريشيه يغادر رئاسة «المركزي الأوروبي» بعد 10 سنوات لعب فيها دور الجراح لإنقاذ أوروبا

ترك إرثا صعبا لخليفته المحتمل الإيطالي ماريو دراغي

كان مهابا وقديرا في إدارة النقاشات مع رؤساء دول الاتحاد الأوروبي
TT

منذ تفاقم أزمة الديون الأوروبية خلال العام الماضي، تجاوز المصرف المركزي الأوروبي دوره كحكم في السياسات المالية ليصبح، فعليا، مشرفا رشيدا على رؤساء الحكومة المتناحرين.

وكثيرا ما قام المصرف ورئيسه جان كلود تريشيه بممارسة ضغوط عندما كانوا يرون أن رؤساء الدول لا يتصرفون بمسؤولية. ونتيجة لذلك، فإنه عندما تنتهي ولاية تريشيه التي استمرت 8 أعوام بنهاية أكتوبر (تشرين الأول)، فإنه سيترك وراءه مؤسسة كبرت بشكل لافت في مكانتها ونفوذها.

كما أنه يترك إرثا صعبا لسلفه المحتمل ماريو دراغي، محافظ بنك إيطاليا المركزي. ويبدو أن دراغي يشبه تريشيه في قدرته على التفاوض بلطف ومودة مع الزعماء الأوروبيين – كما يستطيع أيضا أن يكشر لهم عن أنيابه عندما يتحتم ذلك. ولكن سيرث دراغي، وهو عضو مؤثر بالفعل في مجلس إدارة المصرف المركزي، مؤسسة تشعبت بشكل كبير في النظام المصرفي والأسواق المالية والعملية السياسية.

ويقول دينيس سنوير، رئيس معهد كيل للاقتصاد العالمي بمدينة كيل الألمانية: «لقد قام المصرف المركزي الأوروبي حتى الآن بدور يثير الإعجاب، وكان يتم وضع كافة الأشياء في الاعتبار. ولكنه وجد نفسه في مكان غير مريح للغاية، ولم يكن ذلك باختياره. وربما يكون هذا الوضع غير مريح بدرجة أكبر مع مرور الوقت».

وفي مايو (أيار) 2010، ضغط تريشيه وآخرون على زعماء كي يعترفوا بأن هناك أزمة في المقام الأول، وبعد ذلك لصياغة حزمة إنقاذ لليونان. وقام المصرف بالدور المطلوب منه بشراء السندات الحكومية اليونانية. وفي العام الحالي، قام المصرف باستخدام نفوذه داخل النظام المصرفي ليطالب بقبول البرتغال وآيسلندا حزم إنقاذ. وضغط تريشيه على حكومات كي تبني عقوبات أقوى ضد دول اليورو التي تزداد ديونها بدرجة كبيرة بهدف تجنب حدوث أزمات مستقبلية، ولكنه لم يحقق نجاحا كبيرا في هذا المسعى.

وخلال الأيام الأخيرة، ومع دفعة حظيت بها فكرة السماح لليونان بتوسيع مدفوعات الديون الخاصة بها، جعل المصرف من نفسه المعارض الرئيسي. وليس واضحا حتى الآن ما إذا كان المصرف سينجح في إعاقة عملية إعادة هيكلة يرى الكثير من الاقتصاديين أنها أمر لا فكاك منه.

وقال تريشيه وآخرون إن حدوث عجز يوناني يمكن أن يبعث اضطرابا داخل الأسواق المالية على نحو لا يمكن التنبؤ به ويستحيل السيطرة عليه. ولكن خلال الأسابيع الأخيرة واجه المصرف انتقادا، وقيل إن لديه تضارب مصالح.

وفي مايو 2010، بدأ المصرف شراء ديون يونانية وبرتغالية وآيرلندية، في سعي إلى تحقيق استقرار في أسواق هذه السندات. وعمل المصرف مع حكومات الدول، التي أنشأت في نفس الوقت صندوق إنقاذ قيمته 500 مليون يورو (أي ما يعادل 715 مليون دولار) للدول المتعثرة.

ونتيجة لذلك يستحوذ المصرف حاليا على 75 مليار يورو في صورة سندات من هذه الدول، وسيخسر أموالا إذا تعثرت أي من هذه الدول في سداد ديونها.

وفي مايو، ترك تريشيه اجتماعا مع زعماء دول منطقة اليورو في لوكسمبورغ. وكان غاضبا من تعامل السياسيين باستخفاف مع فكرة إعادة هيكلة الديون اليونانية.

ولكن دخول المصرف إلى ساحة السياسة خلق ضغوطا أيضا داخل مجلس إدارته. وقال أكسل ويبر، رئيس المصرف الألماني «البوندسبنك» عضو المجلس، إن المصرف يرتكب خطأ بالتدخل في أسواق السندات الحكومية.

وبناء على تصريحات عامة أدلى بها ويبر بعد ذلك، بدا أنه فكر في أن المصرف كان يتحرك بعيدا في سياسة مالية وأنه يحرر حكومات من التزاماتها.

وكتب مع اقتصاديين آخرين في «البوندسبنك» في تعليق نشر في شهر مارس (آذار) بصحيفة «فرانكفورتر الجماينه»: «لا تزال عملية اتخاذ القرار الأساسية بشأن قطاع كبير من السياسة المالية والاقتصادية تتم مع دول أعضاء».

وقد كان للخلاف الآيديولوجي تبعات دائمة داخل المصرف. واستقال ويبر، الذي كان ينظر إليه على أنه أقوى المرشحين لخلافة تريشيه، من رئاسة «البوندسبنك» في نهاية أبريل (نيسان) لتجنب الدفاع عن سياسات لا يتفق معها.

ورغم أن سياسيين أوروبيين أبدوا استياء من التداخل، فإنهم كانوا سعداء بالسماح للمصرف المركزي بأن يعبئ موارده المالية في لحظات حرجة، مع دعم مصارف تجارية بائتمان رخيص والتدخل في أسواق السندات.

وفي الكثير من النواحي نجد أن المصرف مستعد بدرجة أكبر للتعامل مع الأزمة أفضل من حكومات الدول، حيث إنه عبارة عن مؤسسة أوروبية قادرة على التصرف سريعا – وبشكل مستقل.

ولا يحتاج تريشيه وأعضاء آخرون في مجلس الإدارة، المكون من الأعضاء الستة للمجلس التنفيذي بالمصرف ورؤساء 17 مصرفا مركزيا داخل الدول، إلى الشعور بالقلق بشأن إعادة الانتخاب، ولذا فإنهم في وضع أفضل يمكنهم من اتخاذ مواقف لا تحظى بشعبية.

كما لدى المصرف مجموعة من الاقتصاديين وخطوط اتصال مع المصارف التي تقدم له معلومات مستمرة عن الأسواق واقتصاد منطقة اليورو. وليس لدى وزراء المالية داخل الدول خبرة قريبة من هذا المستوى.

كما لدى المصرف المركزي تأثير على النظام المصرفي. وربما تنهار بعض المؤسسات الآيرلندية واليونانية من دون الديون الرخيصة التكلفة التي يقدمها المصرف، مع قبول سندات الحكومة المنخفضة القيمة الخاصة بالمصرف كضمان.

وتعطي المساعدة المالية للمصرف نفوذا كبيرا على النظم المصرفية لدى الدول، وهو وضع عبر بعض الزعماء عن استيائهم منه. واشتكى براين لينيهان، وزير المالية الآيرلندي حتى خسر حزبه السلطة عبر الانتخابات في فبراير (شباط)، علنا من أنه ضغط عليه للإسراع في قبول حزمة مساعدة.

كما يغضب أعضاء مجلس الإدارة بالمصرف من أي اقتراح، وأصبحوا يخيفون أي أحد، ويرون بدلا من ذلك أنفسهم كمنقذين.

وقال تريشيه في مطلع مايو، في إشارة إلى الهيكلة النقدية التي يشرف على المصرف: «مستوى الالتزام داخل منظومة اليورو تجاه آيرلندا لا يوجد سابقة تاريخية قطعا». مضيفا: «نحن نقف مع آيرلندا في الظروف الصعبة».

وربما يغضب زعماء أوروبيون من تأنيب المصرف، ولكن يبدو أنهم يعترفون بالحاجة لرئيس قوي داخل المصرف. ويقدم رحيل تريشيه فرصة لاختيار شخص يسهل توجيهه خلفا له. ولكن بدلا من ذلك رشحوا دراغي، الذي لديه الكثير من سمات تريشيه الشخصية.

ويحظى دراغي بشهرة لدى زعماء دول مجموعة العشرين، ولعب على مدار الأعوام نفس الدور داخل إيطاليا لدرجة أنه طلب منه أن يتصرف في منصب كرئيس للمصرف مثل تكنوقراط عقلاني يضبط نزوات التبذير لدى السياسة.

وفي أكتوبر الماضي، على سبيل المثال، فقد الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي أعصابه مع تريشيه خلال اجتماع داخل بروكسل. وكان تريشيه يرغب في عقوبات أقسى بحق الدول التي تتجاوز حدود الاتفاق الخاص بالديون والإنفاق على العجز، وكان متضايقا من مقترح مساهمة مستثمرين من القطاع الخاص في حزمة إنقاذ لليونان.

ووفقا لما أفاد به أشخاص حضروا الاجتماع، فقد علا صوت ساركوزي قائلا إنه لن يسمح لشخص يتصف بالبيروقراطية بأنه يخبره ما يجب عليه القيام به.

ورد تريشيه بشكل حاد، مما أدهش الآخرين داخل الغرفة، بحسب ما ذكره شخص رفيع المستوى كان موجودا وتحدث شريطة عدم ذكر اسمه حتى لا يعكر صفو علاقات له مع مسؤولين آخرين. وأضاف المصدر: «لكن لم يستمر ذلك طويلا، وبعد تبادلهما هذا الكلام، نسي الموقف».

وبعد أعوام من العمل مع رئيس الوزراء الإيطالي سيلفيو برلسكوني، بدا لدى دراغي القدرة على التعامل مع مواقف مماثلة.

ويقول ستيفان غرلاش، المدير الإداري لمعهد الاستقرار المالية والنقدي التابع لدى جامعة غوته بفرانكفورت: «لا تحتاج فقط إلى خلفية في السياسة المالية الفنية كي تدير المصرف المركزي الأوروبي، بل تحتاج إلى شخص لديه ذكاء سياسي مثل الرئيس تريشيه».

* ساهمت في التقرير ليز ألدرمان من باريس