كيف صمدت شركة «آي بي إم» في عالم من «الرمال المتحركة»؟

الشركة التي بلغت عامها الـ100 تحقق أرباحا كبيرة بعدما كادت تفلس

منذ وقت ليس ببعيد كان بقاء «آي بي إم» يتهدده الخطر
TT

مع بلوغها عامها الـ100 الأسبوع الماضي، بدت شركة «آي بي إم» نشطة على نحو ملحوظ. الواضح أن عملاء القطاع التقني يحظون بجل الاهتمام هذه الأيام، لكن المثير أن الشركة حققت ازدهارها ببيعها منتجاتها لشركات وحكومات. وتكشف الأرقام عن تحقيقها أرباحا كبيرة، وتبدو محفظة منتجاتها وخدماتها نشطة، وتقترب أسعار أسهمها من ارتفاعات قياسية. يُذكر أن قيمة «آي بي إم» داخل سوق الأسهم تجاوز قيمة «غوغل» في وقت سابق من العام الحالي. وقطعا الأداء السابق لا بأس به بالنسبة لشركة في عامها الـ100.

ومع ذلك، نجد أنه منذ وقت ليس ببعيد كان بقاء «آي بي إم» يتهدده الخطر، ففي مطلع تسعينات القرن الماضي، أوشكت على الإفلاس. وكان نشاطها التجاري الرئيس يرزح تحت ضغوط التقنيات الأرخص تكلفة المرتبطة بالحواسب الآلية الشخصية.

وعليه، فقد استعانت الشركة بقيادة جديدة، وسرحت الآلاف من عامليها. وكان ذلك جزءا من الرحلة المؤلمة التي قطعتها الشركة نحو ما أطلقت عليه «الازدهار في حقبة ما بعد الاحتكار»، وهذا مسار جديد نحو النجاح التجاري بمجرد تنحي منتج مهيمن عن دور المحرك الدافع القوي للنمو والربح على خلاف ما كان عليه من قبل.

من جانبه، قال جورج إف. كولوني، الرئيس التنفيذي لـ«فروستر ريسرتش»: «واجهت (آي بي إم) التحدي الذي تجابهه جميع الشركات الكبرى عاجلا أم آجلا، وهو بلوغ مكانة مهيمنة في السوق ثم فقدانها، بعد ذلك إما أن تنجح الشركات في إعادة خلق نفسها وإما تفشل».

وبالفعل، جابهت «آي بي إم» التحدي وتحركت لما وراء مجال نشاطها الأساسي ونجحت في بناء نشاط تجاري يعتمد بصورة متزايدة على البرامج والخدمات. وبذلك فإنها مع احتفالها بعيدها المئوي، تجسد الشركة دروسا يمكن للآخرين الاستفادة منها.

المؤكد أن التطور لما هو أبعد من النجاحات الماضية يشكل مهمة شاقة أمام الشركات بشتى الصناعات، لكن صعوبة هذه المهمة تتضاعف داخل صناعة التكنولوجيا؛ حيث يمكن للشركات الصعود بسرعة للهيمنة على سوق ما وتبدو مستعصية على المنافسة، حتى يحدث تحول على المشهد التقني يفتح الباب أمام جيل جديد من الشركات.

قطعا هذا هو الاختبار الذي تناضل «مايكروسوفت» لاجتيازه اليوم، في خضم سعيها للنمو فيما وراء نشاطها الجاري الرئيسي المربح المتمثل في برامج الحواسب الآلية الشخصية. وإذا كانت رغبة حقيقية من جانبهما في الاستمرار في النجاح على المدى الطويل، يتعين على «غوغل» و«أبل» أيضا التحرك لما وراء المجالات التي تهيمنان عليها حاليا. وبالفعل، تبذل كل منهما، بطريقتها الخاصة، محاولات في هذا الاتجاه.

إذن، ما الدروس التي يمكن استخلاصها من تجربة «آي بي إم»؟

يرى خبراء بالصناعة أن أحد الدروس الكبرى المستفادة يمكن إيجازه في عبارة «لا تتحرك بعيدا عن ماضيك، وإنما ابنِ عليه».. ويعتقد هذا الفريق أن وحدات البناء الجوهرية تكمن في المهارات والتكنولوجيا والأصول التسويقية التي يمكن نقلها أو تعديلها سعيا وراء فرص جديدة. من وجهة نظرهم، تلك هي الأصول الجوهرية لأي شركة، وتفوق أهميتها أي منتج أو خدمة معينة.

في حالة «آي بي إم»، تضمنت الأصول الأساسية علاقات قوية بالعملاء على المدى الطويل، وقدرات علمية وبحثية كبيرة، ونطاقا واسعا للغاية للمهارات الفنية بمجال الأجزاء الصلبة من الحواسب الآلية والبرامج والخدمات.

وعلى الرغم من أنها تخصصت، في وقت مضى، في إنتاج الحواسب الآلية العملاقة، فقد عمدت «آي بي إم» إلى إعادة رسم صورتها باعتبارها شركة تتمتع بقدرة هائلة على إدارة وتجميع تقنيات متنوعة في مراكز بيانات حديثة. وعلى الرغم من أن الحواسب الآلية العملاقة لا يزال لها دورها داخل الشركة، وقد وجهت لها «آي بي إم» استثمارات ضخمة - بلغت استثمارات الشركة في أبحاث الحواسب العملاقة 5 مليارات دولار خلال العقد الماضي - بحيث تتوافر إمكانية تشغيل مختلف أنواع البرامج عليها ويمكن ربط أنماط جديدة من أجهزة المعالجة بها.

بيد أن التقنيات المحيطة بالحواسب الآلية العملاقة هي التي تجلب للشركة فوائد حقيقية اليوم، فعلى الرغم من أن الأجزاء الصلبة للحواسب العملاقة وحدها تشكل أقل من 4% من عائدات الشركة، فإنه حال دمج البرامج وعقود التخزين والخدمات مع الحواسب العملاقة، ترتفع النسبة إلى 25% - وما يصل إلى 45% من أرباح التشغيل، حسب تقديرات إيه. إم. ساكوناغي، المحلل لدى «سانفورد سي. برنستاين آند كومباني».

وأعادت «آي بي إم» توجيه معاملها البحثية وفريق التسويق لديها بحيث يجري التركيز على الخدمات والبرامج، وإعادة تدريب آلاف العاملين. في عقود الخدمات المعقدة الكبيرة، من إدارة مشاريع الشبكات المتسامتة الذكية من أجل منشآت أخرى إلى أنظمة إدارة المرور بالمدن، تعمل «آي بي إم» كمقاول عام بمجال التقنيات المتطورة ينتشر نطاق خبرتها عبر الأبحاث والبرامج والأجزاء الصلبة من الحواسب والخدمات. وتبني الشركة هذه المشاريع على ميراثها من المهارات الفنية الواسعة والمعرفة العميقة بمجالات مثل الطاقة والنقل والرعاية الصحية.

في الوقت الراهن، تعتبر «مايكروسوفت» أكثر شركة تقنية دخلت في مواجهة مباشرة مع معضلة ما بعد الاحتكار، مثلما كان الحال مع «آي بي إم» في وقت مضى. وتجمع بين الشركتين بعض التشابهات القوية، بما في ذلك القضايا الفيدرالية المكافحة للاحتكار التي استمرت لفترة طويلة.

غير أنه على خلاف الحال مع «آي بي إم» في مطلع التسعينات، لا تواجه «مايكروسوفت» أزمة، وإنما تحقق نموا مستمرا ولا تزال تحقق أرباحا كبيرة. وقد عززت نشاطاتها التجارية فيما وراء مجالها الرئيسي المتمثل في برامج الحواسب الآلية الشخصية، تحديدا نظام «ويندوز» للتشغيل وبرامج «أوفيس» للكتابة والعروض.

واستثمرت «مايكروسوفت» على مدار قرابة عقدين في بناء برامج قواعد بيانات وأنظمة تشغيل أجهزة معالجة قادرة على إدارة حواسب آلية أكبر تخدم البيانات. وسبق أن أعلن مسؤول تنفيذي في «آي بي إم» أن محاولة «مايكروسوفت» اقتحام مجال الحواسب الآلية التي تستخدم كمراكز بيانات ستكون بمثابة «حرب فيتنام» بالنسبة لها، بمعنى أنها ستلقى هزيمة نكراء. وتوقع كثير من المحللين أن «مايكروسوفت» ستغرق في المنافسة بمجال مراكز البيانات أمام «لينكوس»، نظام التشغيل.

وعلى الرغم من أن «لينكوس» أبلت بالفعل بلاء حسنا، لكن «مايكروسوفت» فعلت المثل. واليوم، يجني قسم برامج أجهزة الخادم داخل «مايكروسوفت» أرباحا كبيرة، تقدر بنحو 16 مليار دولار سنويا. ولو كانت هذه الوحدة شركة منفصلة، لكانت ستأتي من بين أكبر خمس شركات بمجال صناعة البرامج.

يتمثل النشاط الآخر الضخم لـ«مايكروسوفت» فيما وراء برامج الحواسب الآلية الشخصية - الذي عكفت الشركة على تعزيزه طيلة عقد - في برامج ألعاب الفيديو والألعاب على شبكة الإنترنت. ويجني هذا القسم من «مايكروسوفت» أرباحا كبيرة تقدر بنحو 8 مليارات دولار سنويا.

إلا أن مشكلة «مايكروسوفت» على المدى البعيد تكمن في أن أكثر من 80% من أرباح التشغيل الخاصة بها لا تزال تأتي من برامج الحواسب الآلية. وبسبب هذه المخاوف، تجمد سعر سهم «مايكروسوفت» لسنوات. وتفاقمت المخاوف جراء تراجع وضع الشركة داخل الأسواق الجديدة سريعة النمو بمجالات البحث والإعلان عبر الإنترنت، علاوة على برامج الهواتف الذكية والحواسب اللوحية. ويساور كبار المستثمرين شعور بعدم الارتياح، ومن المقرر استبدال أحدهم، ودعا أحدهم، وهو ديفيد إينهورن، مدير صندوق تحوط، لاستبدال الرئيس التنفيذي لـ«مايكروسوفت»، ستيفين إيه. بالمر.

ولا يزال من غير الواضح ما إذا كان بمقدور «مايكروسوفت» إيجاد أساس جديد يعتمد عليه ازدهارها، لكن على خلاف الحال مع «آي بي إم»، تتمتع الشركة بمخزونات هائلة من المهارات والخبرة البحثية. وتعتبر «كينيكت»، الأداة الجديدة المضافة لجهاز تشغيل ألعاب «إكس بوكس»، من المسارات الواعدة على هذا الصعيد. بمقدور الأداة الجديدة التي طرحت في الأسواق في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، التعرف على وجوه الأفراد وملامحهم وتأدية بعض الأوامر الصوتية البسيطة.

* خدمة «نيويورك تايمز» وبينما اشترت «مايكروسوفت» بعضا من تقنية الاستشعار المستخدمة في «كينيكت»، فإنها صممت الأداة نفسها التي يبلغ سعرها 150 دولارا، والتي جاءت نتاج عمل 7 مجموعات بحثية مختلفة. حتى اليوم، تعتبر «كينيكت» أداة ألعاب، لكن أجهزة الحاسب الآلي التي بمقدورها رؤيتك وسماعك والاستجابة لك تعتبر إنجازا كبيرا يدمج الذكاء الصناعي في التيار الرئيسي من الأجهزة.

من جهتها، تتميز «غوغل» بأنقى ثقافة هندسية بين الشركات التقنية الكبرى. وحرص مؤسساها لاري بيدج وسيرغي برين، المتخرجان في جامعة ستانفورد بمجال علوم الحاسب الآلي، على تحديد المسار العام للشركة. وتتمثل أهم أصول الشركة في عقول عامليها والبيانات.

عن ذلك، قال بيتر سوندرغارد، نائب رئيس شؤون الأبحاث بشركة «غارتنر»: «تدور (غوغل) برمتها حول المعلومات، البحث والاكتشاف والتشارك في المعلومات بذكاء أكبر».

في جوهرها، تنظر «غوغل» لنفسها باعتبارها مصنعا للذكاء الصناعي، وتستخدم برامجها تكنيكات تعلم الآلات واللغة الطبيعية في البحث بين البيانات الضخمة الموجودة على شبكة الإنترنت لطرح نتائج بحث أذكى وإعلانات موجهة بشكل أفضل. وتطرح منتجاتها إمكانية تمشيط مزيد من البيانات وطرح فرص محتملة لخدمة مزيد من الإعلانات. وتتضمن رسائل إلكترونية وروزنامة وخرائط وتسوقا ومعالجة كلمات، ومقاطع فيديو عبر «يوتيوب» وصورا على «بيكاسا».

يكمن النشاط الرئيسي لـ«غوغل» في شبكة الإنترنت مترامية الأطراف، لكنها بدأت أيضا في الانتقال لمجالات أخرى أضيق نطاقا، مثل برامج أجهزة، خاصة الهواتف الذكية والحواسب اللوحية، اعتمادا على نظام «أندرويد» للتشغيل الخاص بها. وتعكس هذه الخطوة في جانب منها سياسة دفاعية، ذلك أن هناك تزايدا مستمرا في عمليات البحث التي تجري عبر الهواتف النقالة، ومن الأسهل توجيه المستخدمين إلى محرك «غوغل» للبحث وخدمات أخرى من نظام التشغيل الخاص بها. إلا أن هذه الخطوة أيضا قد تضعها في وضع قوي يمكنها من صياغة مستقبل الهواتف التي بدأت في الاستيلاء على مكانة الحواسب الآلية الشخصية كمحور جذب بمجال الحواسب. في مجال الهواتف الذكية، على الأقل، تبلي «غوغل» بلاء حسنا؛ حيث سرعان ما حصل «أندرويد» الذي توزعه «غوغل» مجانا على الريادة، مع سيطرته على 36% من سوق أنظمة تشغيل الهواتف الذكية.

في السنوات الأخيرة، احتلت «أبل» مكانة فريدة في تطبيق الأصول التي تملكها على أسواق جديدة. وتتركز أبرز مهاراتها في إمكانية الاستخدام اليسير لبرامجها وتصميمها المبتكر للأجهزة الصلبة من الحواسب الآلية - وهي مواهب أبدى مستخدمو «ماك» المخلصون تقديرهم لها منذ أمد بعيد. إلا أنه داخل صناعة الحواسب الآلية الشخصية، لا تزال أجهزة «أبل» تحتل مكانة متأخرة عن الأخرى التي يديرها برامج «ويندوز» الصادرة عن «مايكروسوفت»، ويتركز النجاح المبهر لـ«أبل» في نقل نطاق استغلال مهاراتها لما وراء الحواسب الشخصية مع طرح تصميمات جديدة رائدة في أسواق أعادت توصيفها أو تصميمها: أجهزة تشغيل إعلامية رقمية (آي بود)، هواتف نقالة (آي فون) وحواسب آلية لوحية.

ويبدو أن «أبل» في طريقها لحصد المال بوفرة لبعض الوقت؛ حيث يركز نموذجها الراهن على بيع أجهزة أنيقة، وتعتبر برامج الشركة لدخول شبكة الإنترنت وسوق تطبيقات الهواتف ووسائل الإعلام الرقمية عناصر تخدم الأجهزة الصلبة. وتسعى الشركة لإرضاء عملائها لضمان إقبالهم على شراء «آي بود» و«آي فون» و«آي باد».

لكن تصميمات منتجات «أبل»، على الرغم ممَّا تحمله من إبهار، ستجري محاكاتها وتتعرض لضغوط من جانب السعر، مثلما حدث مع الحواسب الآلية العملاقة، حسبما توقع مايكل إيه. كوسومانو، بروفسور بكلية سولان للإدارة بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا. وأشار إلى أنه في الوقت المناسب، ربما ترغب «أبل» في اقتراض صفحة من «آي بي إم» والاعتماد على نحو متزايد على البرامج والخدمات في كسب العيش.

وأشار إلى أن «أبل» بإمكانها بناء شركة ضخمة حول منتجاتها مثل جهاز «آي كلود» للتخزين عبر شبكة الإنترنت وخدمات الموسيقى والصور والبرامج. وأعلنت «أبل»، منذ أسبوعين، إمكانية تطبيق سحرها التقني في اجتذاب مستخدمين.

وبمجرد إقبال ملايين الأفراد على خدمة ما، يرى كوسومانو أنه ستتوافر فرص مربحة بمجال الإعلانات والتسويق والخدمات الممتازة. وبإمكان هذه الفرص توفير مصادر دخل ثابتة عاما بعد آخر. وقال: «التحول لمركز لإطلاق خدمات التوصيل الرقمية هو الطريق الذي يمكن لـ(أبل) جني المال من ورائه خلال العقود المقبلة».

بالنسبة للشركات الكبرى اليوم، تحمل «آي بي إم» درسا تحذيريا أيضا يمكن تلخيصه في «خطر التأخير». وأوضح يوفي ديفيد، من كلية إدارة الأعمال بهارفارد، أنه عام 1990 أجرى دراسة حالة حول «آي بي إم»، تضمنت مقابلات مكثفة مع كبار المسؤولين التنفيذيين بالشركة تحدثوا عن الحاجة لإنهاء اعتماد الشركة على الحواسب العملاقة والتحول باتجاه البرامج والخدمات.

واستطرد أن الشركة لم تتحرك فعليا في هذا الاتجاه حتى بعد أن تهددها خطر بالغ، وتمت الاستعانة بشخص من خارجها، وهو لويس في. غرستنر، لقيادتها عام 1993. وعلق يوفي على ذلك بقوله: «من الصعب حقا تحويل مسار شركة ما في وقت تحقق فيه نتائج طيبة ولا تواجه أزمة».