السويد.. النجم اللامع للانتعاش الاقتصادي

تمكنت من نفض غبار الأزمة المالية بسرعة واستعادة فورتها الاقتصادية

TT

عصفت الأزمة المالية بجميع الدول المتقدمة تقريبا، وتعرضت اقتصادات هذه الدول لحالة من الشلل، وبات الغموض يكتنف مستقبلها.

وبعد ذلك ظهرت السويد كنجم خلال عملية الانتعاش الاقتصادي.

وقد تمكنت الدولة الاسكندنافية، التي يعيش بها 9 ملايين نسمة، من تحقيق ما لا تستطيع دول مثل الولايات المتحدة واليابان وبريطانيا سوى أن تحلم به؛ حيث حققت السويد نموا سريعا، وخلقت فرص عمل، واكتسبت ميزة تنافسية. وتقوم المصارف حاليا بتقديم قروض، وتشهد سوق الإسكان ازدهارا، وتحقق توازنا في الموازنة.

ولم تكن السويد محصنة ضد التباطؤ الاقتصادي العالمي عام 2008 - 2009. ولكن على عكس دول أخرى، تشهد الدولة عودة نشطة. ويتجاوز معدل النمو داخلها البالغ 5.5% خلال العام الماضي توسعا نسبته 2.8% داخل الولايات المتحدة، كما أنه أقوى، بالمقارنة مع جميع الدول المتقدمة الأخرى داخل أوروبا. وكانت ذروة معدلات البطالة أقل بالمقارنة مع الولايات المتحدة (نحو 9 في مقابل 10%). وتراجعت هذه المعدلات بوتيرة أسرع (حيث تبلغ حاليا قرابة 7% داخل السويد مقارنة بـ9% داخل الولايات المتحدة).

وثمة خصوصية في بعض أسباب النجاح السويدي، لكن هناك الكثير من الدروس التي يمكن أن تستفيد منها دول أخرى خلال سعيها للبحث عن طريق نحو الازدهار.

ويتمثل الدرس الأكثر شمولا، الذي يقدمه السويديون، في أنه عندما تكون لديك أزمة مالية، وقد مُنيت السويد بأزمة شديدة في مطلع التسعينات، فإن عليك الاستفادة منها، لا تتخبط في مواجهتها وتأمل في النهاية أن يعود النمو. لكن تعامل مع الأسباب الأساسية التي تقف وراء الأزمة لتضع نظاما ماليا واقتصاديا أكثر مرونة حين تظهر مثل هذه الأوقات الصعبة مجددا.

وفيما يلي ما يعنيه ذلك من الناحية العملية. ويمكن أن نطلق عليها الدروس السويدية الخمسة للدول التي تواجه أزمات.

1- اجعل مؤسستك المالية منضبطة في أوقات الرخاء حتى تكون لديك مساحة أكبر للمناورة في أوقات الشدة قبل الركود الاقتصادي عام 2007، كان لدى الحكومة الأميركية عجز في الموازنة يعادل 3% من اقتصادها، وكذا الحال مع بريطانيا. وفي هذه الأثناء كان لدى السويد فائض قدره 3.6%.

وعندما وقع الركود الاقتصادي أعطى هذا الفائض حكومة السويد حماية خلال فترة التباطؤ الاقتصادي ولم تسجل السويد ديونا ضخمة مثل الديون التي جعلت دولا متقدمة عرضة للتعرض لأزمة مستقبلية. ومن المقرر أن يصل الدين الإجمالي داخل السويد إلى 45% من حجم اقتصادها خلال العام الحالي، بينما تقترب الولايات المتحدة من نسبة 100%.

وقد تعلمت السويد هذا الدرس من أزمتها في مطلع التسعينات من القرن الماضي؛ حيث تفاقم انهيار في عقارات تجارية وداخل القطاع المصرفي عندما ارتفع عجز الموازنة إلى معدلات كبيرة، مما جعل الدولة تواجه مشاكل في اقتراض المال، وانهارت قيمة عملتها.

ووضعت الدولة هدف تحقيق فائض في الموازنة نسبته 1% بمرور الوقت والمحافظة على ذلك، مما جعل لدى الحكومة مقدارا كبيرا من المرونة للتعامل مع نفقات عجز عندما تراجع الاقتصاد.

وقال ستيفن إنغفيز، محافظ المصرف السويدي المركزي، خلال مقابلة أجريت معه: «إذا لم تكن لديك مشكلة مالية، ستكون لديك حرية أكبر». 2- التحفيز الاقتصادي قد يكون أكثر فاعلية عندما يكون تلقائيا لم تبذل السويد جهودا كثيرة فيما يتعلق بتوفير نفقات خاصة للحد من التباطؤ الاقتصادي، فقد كانت هناك نفقات زائدة على مشاريع البنية التحتية وتخفيض في معدلات الضرائب على الدخل في توقيت مناسب، لكن الاستجابة الأساسية من جانب الحكومة هي القيام بما يقوم به دوما نظام الدولة الرفاه الاجتماعي، الذي يعتبر سخيا وفقا للمعايير الأميركية: توفير الدخل والرعاية الصحية وغيرهما من الخدمات الأخرى إلى الأفراد العاطلين عن العمل.

وداخل الولايات المتحدة أصبحت المعركة حول استخدام نفقات حكومية للوقاية من ضربة التباطؤ الاقتصادي سبب اختلاف. وأصبح السعي لتحقيق استقرار داخل الاقتصاد بمثابة معركة أخرى في حرب على المدى الأطول على الدور الصحيح الذي يجب أن تلعبه الحكومة.

وبسبب وجود برامج خاصة لا تتكرر في حزمة التحفيز المالية التي تبلغ قيمتها 800 مليار دولار ووافق عليه عليها الكونغرس وإدارة أوباما في مطلع 2009، مضت أشهر قبل أن يتمكن الكثير منهم من بدء ضخ المال في الاقتصاد، وكان ذلك بعد أشهر أو حتى أعوام من انهيار الاقتصاد، وانتهت النفقات من دون النظر إلى ما إذا كانت الحاجة لا تزال قائمة.

عندما تأتي نفقات للوقاية من ضربات اقتصادية في إطار مجموعة من البرامج صيغت بحرص خلال أوقات الرخاء، يمكن أن تكون جاهزة للانطلاق فور تحول الأوضاع الاقتصادية، ويمكن إعدادها كي تتراجع تدريجيا عندما تكون لذلك فائدة من الناحية الاقتصادية، مثل عندما تتراجع معدلات البطالة، وليس في أي توقيت عشوائي.

3- استخدام سياسة نقدية أكثر جرأة لقد وُجهت إشادات وانتقادات للمصرف الاحتياطي الفيدرالي (المصرف المركزي داخل الولايات المتحدة) لتعامله بجرأة مع الأزمة المالية، فقد ضخ المال في النظام المالي بصورة ملحمية، لكن طبقا لمقياس وحيد مهم، فقد كان المصرف المركزي السويدي أكثر جرأة.

وكما هو الحال مع الاحتياطي الفيدرالي، قام المصرف المركزي السويدي بتقليل معدلات الفائدة المستهدفة على المدى القصير إلى الصفر تقريبا. كما قام بتوسيع حجم ميزانيته بدرجة أكبر مما فعل الاحتياطي الفيدرالي، وذلك بالنسبة إلى حجم اقتصاد الدولة، وأغرق النظام المالي بكمية أكبر من النقد خلال ذروة الأزمة الاقتصادية.

وفي صيف 2009، كان لدى المصرف المركزي السويدي أصول في ميزانيته تعادل أكثر من 25% من إجمالي الناتج المحلي للسويد. وبالنسبة إلى الاحتياطي الفيدرالي الأميركي لم يتجاوز هذا المستوى أكثر من 15%.

وأكثر من ذلك، فقد قام المصرف المركزي السويدي عام 2009 بتحريك معدل فائدة مهم يديره إلى أقل من الصفر. وفي إطار هذه الفائدة السلبية، كان على المصارف التي تبقي المال داخل المصرف المركزي أن تدفع نسبة 0.25% نظير هذه الميزة. وقد خلق ذلك دافعا لدى المصارف كي تقرض المال لبعضها بعضا بدلا من إبقاء المال داخل المصرف المركزي، لكن من الناحية العملية، قال مصرفيون ومسؤولون سويد: إن معدل الفائدة السلبي كانت له تبعات رمزية أكثر منها عملية.

ولكن من المعروف أثر معدلات الفائدة المنخفضة على الاقتصاد. يقول لينا هاغمان، الاقتصادي البارز داخل «ألميغا»، وهي رابطة تضم أصحاب عمل مهمين بقطاع الخدمات داخل السويد: «تراجعت معدلات الفائدة بدرجة كبيرة جدا، وكان لدى الأسر قدر أكبر من المال للاستهلاك بعد إسقاط مدفوعات الرهن العقاري».

وكان لدى المصرف المركزي السويدي مرونة التحرك بجرأة أكبر، ويرجع ذلك بدرجة كبيرة إلى التغيرات التي أجراها في أعقاب أزمة أوائل التسعينات. وفي ذلك الوقت، كانت الدولة قد عانت تضخم نسبته من رقمين وافتقد المصرف المركزي المصداقية في الأسواق المالية. وفي مرحلة، رفع من معدلات الفائدة المستهدفة إلى 500% في محاولة للحفاظ على قيمة العملة السويدية.

لكن بعد ذلك، حدد المصرف المركزي السويدي مستهدفا صريحا لمعدلات التضخم السنوية يقدر بـ2%. والتزم بذلك، وعلى مدار الـ15 عاما التالية اكتسب قدرا كافيا من المصداقية في الأسواق العالمية بأنه قد يتعامل بجرأة مثلما فعل مع حالة الذعر المالية من دون التسبب في انهيار آخر للكرونا السويدية.

وبصورة أخرى، يمكن لمصرف مركزي يحظى بمصداقية أن يبذل لدعم اقتصاد أكثر مما يفعله مصرف يحظى بقدر أقل من الثقة لدى الأسواق المسؤول عنها.

وفي الحديث عن المصداقية، لم يرفع المصرف المركزي السويدي سياسة معدلات الفائدة المنخفضة بدرجة كبيرة والميزانية الكبيرة للأبد، ومع تحسن الاقتصاد بصورة جيدة كان المصرف المركزي قد زاد معدلات الفائدة بالفعل، مما ساعد في المحافظة على مصداقيته للفترة اللاحقة التي يكون فيها الاقتصاد ضعيفا.

4- جعل قيمة العملة مرنة رفضت السويد استخدام عملة اليورو، وبالنظر إلى الأمر تبدو هذه خطوة حكيمة، فقد كانت القيمة المتغيرة للكرونا السويدية عنصرا مساعدا في مواجهة التباطؤ الاقتصادي خلال الأعوام القليلة الماضية.

وفي أعماق الأزمة المالية، تراجعت الكرونا من ناحية القيمة في مواجهة الدولار واليورو؛ حيث سعى مستثمرون عالميون إلى طلب الأمان بوضع أموالهم في العملات الأكثر تداولا. وساعد ذلك على جعل مصدرين سويديين أكثر قدرة على المنافسة في وقت انهار فيه الطلب العالمي، وكان ذلك بمثابة صمام ضغط.

ومع تحسن الاقتصاد السويدي في الوقت الحالي، يمكن أن تكون حرية الكرونا السويدية ميزة أخرى، تستخدم فنلندا المجاورة، التي تشهد أيضا نموا اقتصاديا مستقرا، عملة اليورو. ومع مواجهة أجزاء أخرى داخل أوروبا ضغطا اقتصاديا أكبر، يمكن أن تواجه معدلات تضخم لأن المصرف المركزي الأوروبي يضع سياساته بناء على إجمالي 17 دولة في منطقة العملة. وفي المقابل تحدد السياسة النقدية داخل السويد بناء على الظروف الاقتصادية السويدية.

وهنا درس للولايات المتحدة أيضا، فربما لا تكون عملة الاحتياطي العالمي على قدر ما يراه الناس. وخلال الأزمة ارتفعت قيمة الدولار مع بحث مستثمرين عالميين عن مكان آمن لوضع أموالهم فيه. وقد كان ذلك نقطة ضعف في السوق العالمية لمصدرين أميركيين، في لحظة كان الاقتصاد فيها في أضعف حالاته.

5- سيرتكب مصرفيون أخطاء دائما.. لكن تأكد من أنهم لن يقضوا على الاقتصاد لم تجتَز المصارف السويدية أزمة عام 2008 من دون خسائر كبرى، بل على النقيض، فقد كانت قدمت قروضا بقوة في دول البلطيق، ليتوانيا ولاتفيا وأستونيا، التي عانت انهيارا اقتصاديا.

واعتمدت المصارف على التمويل بالدولار الذي اقترضته من مصارف أخرى، وخلال الأزمة اختفى هذا التمويل تقريبا مع قيام المصارف بمراكمة الدولارات. ولو لم يقم الاحتياطي الفيدرالي الأميركي بإتاحة مليارات الدولارات للمصرف المركزي السويدي من خلال «خطوط مبادلة»، التي أقرضت بعد ذلك إلى مصارف سويدية، لكان من المؤكد حدوث انهيار مدمر في النظام المصرفي.

لذا لم تكن المصارف السويدية هي التي أدارت الأمور بكفاءة، لكنهم تكبدوا خسائر يمكن إدارتها أفضل مما حدث داخل المصارف بالولايات المتحدة والكثير من أوروبا. الآن تعود المصارف لتلعب دورها الطبيعي بتقديم قروض ودعم النمو.

ولا يشير مسؤولون ماليون سويديون إلى أي حل سحري في منحاهم التنظيمي. لكن يبدو أن النظام المصرفي السويدي بقي معافى لأن مشاكل أوائل التسعينات كانت خطيرة بالقدر الذي بعث رعبا لدى المنظمين والمسؤولين التنفيذيين بالمصارف، وجعلهم غير راغبين في الإقدام على إقراض عقاري محفوف بالمخاطر خلال منتصف العقد الأول من القرن الحالي على الرغم من أن باقي العالم كان يقوم بذلك.

وتقول سيسيليا هرمانسون، الاقتصادية البارزة في «سويدبنك»: «بعد الأزمة في التسعينات، كان واضحا أننا في حاجة لأن نتحلى بنهج محافظ وحريص بدرجة أكبر». وأضافت مستشهدة بمثل يقول: «اللي تلسعه الشوربة ينفخ في الزبادي». بصيغة أخرى، على الرغم من أن مساعدات الإنقاذ للمصارف ربما تكون ضرورية للمحافظة على الاقتصاد، فإنه من المهم أيضا ألا يكون المصرفيون محميين بدرجة مبالغ فيها من تبعات قراراتهم غير الحكيمة، مما يجعلهم يعودون إلى الوسائل القديمة بمجرد أن ينتهي الموقف.

*خدمة «واشنطن بوست» خاص بـ«الشرق الأوسط»