اليونان ستجيز شروط التقشف والتخصيص.. لكن هل تنجح خطة الإنقاذ؟

سورس عوم فكرة «السماح مؤقتا» للدول الأوروبية الفقيرة بالخروج من «اليورو»

TT

في عام 2002 حينما بدأ تداول العملة الأوروبية، كانت البهجة العارمة تشع من وجوه مواطني الدول الـ15 وقتها (الآن 17 دولة) الأعضاء في العملة الواحدة «منطقة اليورو». كانوا ينظرون لخطوة العملة الواحدة بعيون مليئة بالتفاؤل على أساس أنها خطوة تأكيد للسلام والرخاء والازدهار في القارة الأوروبية التي عاشت جزءا كبيرا من تاريخها في حروب طاحنة ودمار كاد يدفع بها إلى الديكتاتورية النازية، لولا إصرار الإنجليز (على النصر) وقوة أميركا. لم يكن مواطنو أوروبا وقتها على دراية بمخاطر العملة الأوروبية الواحدة والشروط التي تصاحبها وتكبل قرارات دولهم على مستويات سياسات الميزانية من عجز وتضخم ومعدلات إنفاق، ولا بالتبعات التي سيخلقها التفاوت بين أعضاء منطقة اليورو من حيث الإنتاجية والكفاءة والقدرة التنافسية.

بعد مضي قرابة عقد على اليورو، تحولت الابتسامة العريضة التي ارتسمت على الوجوه إلى سحابة قاتمة يظلل سوداها الوجوه الغضة للفتيات والفتيان الذين تخرجوا للتو من الجامعات وتنعدم أمامهم فرص العمل وسط أزمة الديون وسيف الإفلاس المسلط على رقاب الأفراد والحكومات في كل من البرتغال واليونان وآيرلندا، وربما يأتي الدور على إسبانيا وبلجيكا. أوروبا أصبحت منقسمة إلى جزءين، نصف فقير يتكون من الدول المثقلة بالديون والمفلسة مثل اليونان والبرتغال وآيرلندا الجنوبية، وتلك التي على وشك الدخول في نفق الإفلاس مثل إسبانيا وبلجيكا. لقد أصبحت أوروبا الجنوبية الواقعة على البحر المتوسط عبئا ثقيلا على رصيفاتها الغنية في الشمال مثل ألمانيا وفرنسا وإلى حد ما بريطانيا. وعلى الصعيد الشعبي هنالك عدم رضا من الجانبين، فمواطنو الدول الثرية متذمرون من تحمل نفقات إنقاذ الدول المفلسة، ومواطنو الدول المفلسة غاضبون من شروط التقشف وشظف العيش والضرائب العالية التي فرضت عليهم من بين الوصفات العلاجية التي تضمنتها خطط الإنقاذ (الكبسولات) والتي وجب عليهم بلعها للشفاء من سرطان الديون. لكن رغم عدم الرضا وسط المعسكرين من الحلول المعروضة وترنح عملة اليورو أمام سياط المضاربين في سوق الصرف، يظل إيجاد بديل للعملة الواحدة صعبا جدا، إن لم يكن مستحيلا.

لماذا؟.. لأن كلفة التخلي عن العملة الأوروبية مرتفعة جدا بالنسبة للدول الفقيرة وكذلك بالنسبة للدول الغنية. فالخروج من اليورو والعودة إلى العملة الوطنية للدول الأوروبية يعني بالنسبة للدول الفقيرة هامش حرية على صعيد السياسة النقدية، حيث تستطيع الدول الفقيرة تخفيض قيمة عملاتها لرفع تنافسية صادراتها، لكن هذا يمثل جزءا ضئيلا، مقارنة بالكلفة المرتفعة التي ستتكبدها على صعيد هجرة الثروات الوطنية إلى دول أوروبا الغنية مثل ألمانيا ومراكز الثروة الأخرى في لندن وسويسرا. يضاف إلى ذلك كلف الاستدانة العالية التي ستدفعها لخدمة الديون (سعر الفائدة على القروض) وكلفة تأمين القروض، وفوق ذلك فقدان المصداقية الائتمانية التي ستحرم الدول الأوروبية الفقيرة من الحصول على تمويلات جديدة من البنوك.

هذا بالنسبة للدول الفقيرة، أما بالنسبة للدول الغنية، في حال خروجها من اليورو والعودة إلى عملاتها، فصحيح أنها ستتخلص من تبعات كلفة إنقاذ دول منطقة اليورو الفقيرة، لكن هذا المكسب تقابله خسائر كبرى، وربما ستدفع دول مثل ألمانيا وفرنسا والنمسا ثمنا باهظا لإنقاذ مصارفها وحماية قدرة التنافسية في معترك الصادرات. بالتأكيد ستضطر هذه الدول إلى إنقاذ بنوكها التي أقرضت دول أوروبا الفقيرة نحو 1.9 تريليون دولار خلال العقد الماضي، لأن هذه الديون ستصبح شبه معدومة، حينما تترك هذه الدول للإفلاس. يضاف إلى ذلك أن قدرتها التنافسية عالميا على صعيد الصادرات ستنخفض بسبب ارتفاع سعر عملتها الوطنية. إذا أخذنا دولة مثل ألمانيا مثلا، ألمانيا لديها اقتصاد قوي قائم على الصادرات، لكن كلفة الإنتاج مرتفعة، وإذا أضيف للكلفة الإنتاجية المرتفعة ارتفاع سعر صرف المارك، ستكون قدرتها التنافسية ضعيفة مقابل الصناعات الآسيوية المنافسة.

بناء على ما تقدم يمكن القول إن المظاهرات والاحتجاجات القائمة ضد السياسات الأوروبية ستتواصل في أوروبا، لكن قافلة «منطقة اليورو ستواصل السير رغم الألم الممض». هذه الفرضية باتت تتجلى في اليونان، التي أصبحت «كعب أخيل الجسد الأوروبي». فرغم المظاهرات العارمة والحرائق ومحاصرة البرلمان الذي يجرى فيه التصويت على حزمة التقشف وحزمة تخصيص بعض من جواهر القطاع العام اليوناني في المزاد لتفادي الإفلاس، لا بد أن تكون نتيجة التصويت لصالح الخطة. لماذا؟.. لأن اليونان ليس أمامها طريق آخر، إما التصويت والحصول على أموال الإنقاذ، وإما الإفلاس الذي سيبدأ بعدم القدرة على دفع المعاشات ومرتبات التعاقد وينتهي بعدم القدرة على تسديد فوائد الديون. الاحتمال الأكبر أن البرلمان اليوناني سيجيز الشروط التي وضعها كل من الاتحاد الأوروبي والبنك المركزي الأوروبي وصندوق النقد في ما يعرف بـ«الترويكا».

ويبقى السؤال: هل هنالك ضمان لنجاح خطة الإنقاذ الثانية لليونان؟

هنالك شكوك واسعة حول نجاح خطة الإنقاذ الثانية لليونان. لماذا؟.. لأن شروط التقشف ستعني أن الحكومة اليونانية ستضطر إلى خفض النفقات والتخلص من عشرات آلاف الوظائف، وربما ينتهي ذلك إلى انكماش النمو الاقتصادي وتقلص إيرادات الدولة من الضرائب. من هذا المنطلق عومت خلال الأسبوع الماضي مجموعة من المقترحات التي يرى أصحابها أنها يجب أن تصاحب خطة الإنقاذ الثانية، من بين هذه المقترحات السماح للدول الأوروبية الضعيفة بالخروج مؤقتا من منطقة اليورو، حتى تستطيع استخدام آليات نقدية تمكنها من تجاوز أزمة الديون.

لقد طرحت فكرة آلية الخروج المؤقت من اليورو في نقاش في فيينا، يوم الأحد الماضي، تناول المخاطر المحدقة بالديمقراطيات الغربية، اشترك فيه مجموعة من كبار المستثمرين، من بينهم الملياردير سورس ومسؤولون أوروبيون. أما الفكرة الثانية فهي إقناع البنوك والدائنين عموما من شركات ومستثمرين بتمديد آجال الديون، ويتبنى هذه الفكرة الرئيس الفرنسي ساركوزي. وقد تمكن الرئيس الفرنسي عمليا من إقناع بنوك بلاده.. وقال الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي في باريس يوم الاثنين الماضي إن البنوك الفرنسية وافقت على تمديد أجل حيازاتها من الديون اليونانية 30 عاما، لكن السؤال: هل توافق البنوك الأوروبية والبنوك العالمية الأخرى؟

هذه المقترحات ربما تكون مهمة لدعم خطة الإنقاذ الثانية لليونان، لأن الأموال التي ستدفع لليونان سيتم استخدام معظمها لتسديد فوائد الديون. في هذا الصدد يقول كريس ووكر، محلل سوق الصرف لدى مصرف «يو بي إس» السويسري، إن التمويل الذي ستحصل عليه أثينا قد لا يكفي إلا لفترة محدودة. وقال «إذا أقروا الإجراءات فسيكون كل شيء على ما يرام، لكن المشكلة ستكون في تطبيق السياسة، وإن كان كل ما نقوم به عبر هذه الخطة هو ترحيل المشكلة لشهرين أو ثلاثة، فسنجد أنفسنا في الوضع نفسه بالضبط بعد مرور الوقت». وفي تحذير خطير أمس، قال نائب وزير المالية الألماني إن اليورو يواجه خطر فقدان مصداقيته. وفي ألمانيا، أظهر استطلاع أجراه معهد «ألينسباخ» لحساب صحيفة «فرانكفورتر ألجماينه زونتاغ تسايتونغ» الألمانية، ونشرت نتائجه أمس، إن نحو 71 في المائة من المشاركين أبدوا تشككا في العملة الموحدة، وذلك بارتفاع خمسة في المائة عن نسبتهم في أبريل (نيسان) الماضي.

كل هذه النتائج تشير إلى المخاطر التي تحيط بخطة الإنقاذ الثانية وإمكانية ألا تنجح الحلول التقليدية وحدها في معالجة ديون اليونان. وحسب الخطة الثانية، ربما تقرض اليونان مبالغ تتراوح بين 120 و150 مليار يورو جديدة، لترفع ديون اليونان إلى 300 مليار يورو، وهو ما يعادل 150 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي لليونان. وإذا أخذ في الحساب أن خدمة هذه الديون فقط وسط المعدلات السائدة «فوق 4 في المائة في الظروف العادية وتصل إلى أكثر من 6 في المائة في لحظات الاضطراب»، فإن هذا يشكل مبلغا كبيرا على الحكومة اليونانية. ووصف المسؤولون خطة الإنقاذ الثانية بأنها لا تعدو أن تكون مسألة تأجيل للأزمة.

من هذا المنطلق تصبح مسألة دعم خطة الإنقاذ بفترة سماح طويلة من قبل الدائنين والسماح بالانسحاب المؤقت من منطقة اليورو لليونان قضايا مهمة لدعم نجاح خطة الإنقاذ. وفي هذا الصدد يقول الملياردير الأميركي جورج سورس، الذي كسب في السابق مليار دولار، عبر المضاربة على خروج الإسترليني من نظام الوحدة النقدية الأوروبية إن منطقة اليورو ربما لا تستطيع أن تتفادى مسألة البحث عن آلية تسمح للدول الضعيفة بالخروج من اليورو. ويضيف سورس في النقاش الذي جرى في فيينا يوم الاثنين حول ما إذا كانت الديمقراطيات الليبرالية في أوروبا باتت في خطر، أنه لا توجد ترتيبات حتى الآن لأي دولة من الدول الـ17 الأعضاء في منطقة اليورو تسمح لها بالخروج من اليورو. لكنه قال إن إيجاد مثل هذه الآلية ربما يصبح حتميا في ظل أزمة اليونان. وقال «إننا الآن أمام انهيار اقتصادي في اليونان، لكن من السهل أن ينتشر هذا الانهيار إلى باقي أوروبا، لأن النظام المالي العالمي لا يزال ضعيفا جدا». وقال سورس إن مشكلة أوروبا هي اليورو وهي مشكلة متطورة، وقال إن الخطورة في أن السلطات الأوروبية تلعب لكسب الوقت، لكن الزمن يلعب ضدها. وهذه ملاحظة مهمة لأن فوائد الديون تتراكم كلما عجزت أوروبا عن إيجاد حل حاسم للأزمة الأوروبية، كما أن هذا العجز يعطي إشارات للأسواق والمستثمرين برفع قيمة التأمين على الديون السيادية الأوروبية، ويرفع نسبة الفائدة على السندات.