روسيا تبدي سعادة بالغة لبيع الذهب بدلا من اكتنازه

في الوقت الذي يسعى فيه المزيد من المستثمرين إلى ملاذ المعدن الثمين الآمن

رئيس الوزراء الروسي فلاديمير بوتين وفي يده سبيكة من الذهب («نيويورك تايمز»)
TT

خلال فترة الكساد الاقتصادي التي عصفت بالعالم قبل عامين، تابع المتحمسون للذهب اقتراح الرئيس الروسي ديمتري ميدفيديف، نتيجة لأزمة الدولار الأميركي، أن تحتفظ البنوك المركزية بما سيكون عملة دولية جديدة مدعومة بالذهب.

غير أن أسعار الذهب شهدت ارتفاعا في الآونة الأخيرة - بناء على توقعات السوق بأن تبدأ المصارف المركزية في الإضافة إلى احتياطيات الذهب كمنطقة عازلة ضد الشكوك التي تنتاب الأسواق العالمية - ولم تلتزم روسيا بالنصيحة التي قدمتها.

فبدلا من اكتناز الذهب، تقوم روسيا ببيعه. وواصلت صناعة تعدين الذهب المحلية بيع الذهب إلى الأسواق العالمية، كما خففت روسيا من قوانين تجارة الذهب للسماح بمزيد من عمليات التعدين في قطاع الذهب وتصدير المزيد في وقت أسرع.

في الوقت ذاته، يقوم البنك المركزي الروسي بشراء الذهب بوتيرة عشوائية في محاولة للحفاظ على المجموع الإجمالي لاحتياطياتها من العملات الأجنبية.

وباختصار فإن روسيا تبيع الذهب لأن هذا سوق البائع - والدولة بحاجة إلى المال. فبعد سنوات من الفوائض المالية قبل الركود الاقتصادي تراجعت الميزانية الفيدرالية الروسية إلى العجز. وتوقع الاقتصاديون أن تتمكن روسيا من إدارة العجز التجاري خلال سنوات قليلة، وهو الأمر الذي يمكن معالجته عبر تصدير الذهب.

الذهب الذي يرى الكثير من المستثمرين أنه الملاذ الآمن الأخير، تراجع عن أعلى معدل وصل إليه في شهر أبريل (نيسان)، لكن الأسعار لا تزال أعلى بنسبة 62 في المائة عن العامين الماضيين. كما ارتفعت العقود الآجلة للذهب خلال الأسبوع ردا على الشكوك المتتالية بشأن أزمة الديون الأوروبية. وارتفعت يوم الخميس عقود الذهب إلى 1.530.20 للأوقية بارتفاع بلغ 3 في المائة خلال الأسبوع حتى الآن.

وقد جاءت روسيا العام الماضي كرابع أكبر منتج للذهب على مستوى العالم في أعقاب الصين وأستراليا والولايات المتحدة (حيث أنتجت الصين في عام 2010، 351 طنا متريا من الذهب، وأستراليا 261 طنا، والولايات المتحدة 234 طنا، وروسيا 203 أطنان).

ولدى طرح التساؤل حول الالتزام المفترض للمسؤولين الروس بشأن الاحتفاظ بالذهب، أصدر البنك المركزي الروسي ردودا مكتوبة.

فقال البنك: «بنك روسيا غير ملتزم بشراء أي كمية محددة من الذهب، أو أن هناك أي هدف رسمي لشراء الذهب، فالبنك يشتري الذهب بسعر السوق، وشراؤه بالأساس يعتمد على ظروف السوق».

ورغم الانتقادات الروسية المتتالية لوضع الدولار كعملة دولية، فإن بيان البنك قال إن «السياسات الذهبية مبنية بشكل رئيسي على حكم استثماراتها لقيمة الذهب كاحتياطي. فهي لا تنتج من رغبة في التنويع بعيدا عن أصل أو عملة محددة».

وقد تضاعفت احتياطيات حصة الذهب في المصرف المركزي الروسي بصورة فعلية، من 5.3 في يناير (كانون الثاني) 2010 إلى 7.8 في المائة هذا العام، لكن هذه المكاسب تعود بالأساس إلى القيمة المرتفعة للذهب خلال تلك الفترة.

وتعتبر احتياطيات البنك المركزي الروسي أدنى بكثير من المستويات العالمية، التي تبلغ 12.1 في المائة بحسب صندوق النقد الدولي. كما يعتبر نصيب روسيا ضئيلا للغاية مقارنة بالولايات المتحدة التي تملك 74 في المائة من احتياطياتها من الذهب، بحسب وزارة الخزانة.

ولا يزال البنك المركزي الروسي يحتفظ بنصف احتياطاته بالدولار الأميركي، كما كان الحال قبيل الأزمة العالمية. وهو بحاجة إلى تلك الأصول من أجل التعاملات يومية للتدخل في أسواق العملات للتخفيف من التقلبات في التدفقات النقدية من الصادرات الرئيسية لروسيا من النفط والغاز الطبيعي، والتي يتم تسعيرها بالدولار.

ويبدو أن سلوك الذهب الروسي يقوم في البلاد على الدروس القاسية الخاصة بأسواق السلع. فمنذ أزمتها المالية عام 1998 سنت روسيا سياسات تهدف إلى موازنة الدورات التاريخية لأسعار السلع لحماية الاقتصاد أثناء الركود. فعلى سبيل المثال، تفرض روسيا، أكبر منتج للنفط في العالم ضرائب هامشية مرتفعة على الصادرات النفطية خلال ارتفاع الأسعار، وذهاب تلك العائدات إلى صناديق الثروات السيادية. وخلال الركود الاقتصادي، الذي شهد تراجع أسعار النفط، أفرجت الحكومة الروسية عن جزء من هذه الصناديق في محاولة الامتصاص الصدمة التي أصابت اقتصادها الداخلي.

لكن على عكس النفط، يأتي الذهب بصورة طبيعية مغايرا للتقلبات الدورية. ففي أوقات المخاوف الاقتصادية يميل المستثمرون إلى شراء الذهب، وهكذا بالنسبة للاقتصاد الروسي، فإن وقت الأزمة الاقتصادية ربما يكون الوقت الأنسب للبيع لا لتخزين الذهب.

وفي مقابل السيطرة المحكمة للدولة على صناعة النفط المربحة، قامت السلطات الروسية بتحرير تجارة وتعدين الذهب في روسيا ولم تفرض قيودا تصديرية أو تعريفات على الذهب.

من ناحية أخرى، حافظت روسيا على سياساتها السوفياتية السابقة مشددة بفرض نوع من السرية الشديدة حول احتياطياتها من الذهب. فبدأت سياسة الانفتاح في بيع الذهب في عام 1992، عندما أصدر إيغور غايدار، رئيس الوزراء آنذاك، تعليمات إلى البنك المركزي التي تم إنشاؤه حديثا أن يعلن على الملأ ودائعه، والتي بلغت في تلك الفترة نحو 300 ألف طن متري. وقد أعلن البنك المركزي الشهر الماضي عن امتلاكه 854 طنا متريا من الذهب، في الوقت الذي أعلنت فيه الخزانة الأميركية بصفتها أكبر اقتصاد، عن امتلاكها 8133 طنا متريا.

تم تخفيف القيود بصورة أكبر في عام 1996 عندما اضطلعت وكالة «غوخران»، التابعة للدولة، التي كانت تحتكر في السابق شراء الذهب، بهذا الدور. فازدهر هذا القطاع الذي تحرر إلى حد كبير وهناك الآن ما يقرب من 30 مصرفا خاصا يحمل ترخيصا بشراء الذهب.

ويقول يوري كيريلوف، مدير «إيرميتا كونسالت»، شركة استشارات في مقابلة معه: «قادتنا لا يولون الذهب ذات الأهمية التي يولونها للنفط».

يذكر أن وكالة «غوخران»، البالغة السرية سابقا، أحد مستودعين للذهب في الدولة إلى جانب المصرف المركزي، وتقوم الآن بنشر أرصدتها من سبائك الذهب. فأعلنت في يونيو (حزيران) عن امتلاكها 12.3 طن من الذهب. وكما هو الحال مع البنك المركزي، فهي لا تعمل على زيادة أرصدتها من الذهب، وبلغت مشتريات الوكالة حتى الآن 375 كيلوغراما من الذهب فقط، بحسب وكالة «برايم تاس».

تأسست وكالة «غوخران» عام 1920 كمستودع للمجوهرات المصادرة من الطبقة البرجوازية ومن ملايين الناس الذين أرسلوا إلى معسكرات العمل في ظل عهد ستالين، وجسدت السرية التي غلفت سياسة الذهب السوفياتية ثم الروسية فيما بعد.

وفي واحدة من المناطق السرية المتبقية من سياسة الذهب الروسية، لم يكشف بعد عن حجم المجوهرات الذهبية من نزلاء معسكرات السجن وما يسمى ذهب الجائزة الذي تم الحصول عليه من دول أوروبا الشرقية في أعقاب الحرب العالمية الثانية.

*خدمة «نيويورك تايمز»