«التعويض عن سنوات الحرب والاحتلال».. أحدث دعوات المصريين لإنقاذ اقتصاد بلادهم

الخبراء يؤيدون الفكرة.. لكنهم يرون أن طرحها غير مناسب في الوقت الحالي

يقدر إجمالي خسائر مصر الاقتصادية منذ اندلاع ثورة 25 يناير وحتى منتصف مارس بقرابة 37 مليار دولار (أ.ف.ب)
TT

بمرور الوقت، تتزايد المخاوف من تردي الاقتصاد المصري جراء استمرار غياب الاستقرار، مع تفشي المظاهرات والإضرابات الفئوية. وطبقا لدراسة أصدرها معهد التخطيط القومي، تقدر إجمالي خسائر مصر الاقتصادية منذ اندلاع ثورة 25 يناير (كانون الثاني) وحتى منتصف مارس (آذار) بقرابة 37 مليار دولار. ودفعت هذه الأوضاع الاقتصادية المنذرة بالخطر إلى تبني المصريين والخبراء المتخصصين عدة مبادرات من شأنها دعم الاقتصاد خلال الفترة الحالية، بدأت بصندوق لدعم الاقتصاد المصري وآخر لدعم البورصة، ثم دعوات لتحصيل رسوم قناة السويس بالجنيه المصري، ومؤخرا دعوات للحصول على تعويضات من بريطانيا عن سنوات الاحتلال التي امتدت إلى قرابة 75 عاما، بين عامي 1882 و1954.

وربما تعد «مذبحة دنشواي» عام 1906 التي راح ضحيتها 4 قرويين صدرت ضدهم أحكام جائرة بالإعدام هي الأشهر، رغم أنها ليست الأبشع، من بين جرائم الاحتلال البريطاني بمصر.

ولم تقتصر الدعوة على طلب تعويضات من بريطانيا فحسب، وإنما شملت أيضا المطالبة بإعادة الأخيرة مبلغ 3 ملايين جنيه إسترليني كانت قد اقترضتها من مصر أثناء الحرب العالمية الأولى ولم ترد إلى الآن. وتقدر قيمة هذا القرض حاليا بنحو 28 مليار جنيه إسترليني. إلا أن تاريخ إثارة هذه القضية يعود إلى عام 2008 عندما تقدم النائب محمد خليل قويطة بطلب إحاطة حول أسباب عدم مطالبة الحكومة البريطانية برد المبلغ.

يرى الدكتور إبراهيم العيسوي الخبير الاقتصادي، أنه من حق مصر، الحصول على معونات أو تعويضات من أي دولة سبق لها احتلال مصر، وقال: «هذه قضية شديدة التعقيد، فمثلا، كيف يمكن تقدير التعويضات المناسبة لحقوق الشهداء؟ أعتقد أن سعي الحكومة نحو المطالبة بمثل هذه التعويضات أمر وارد، والمحتمل أن يستغرق إنجاز ذلك الأمر والحصول على تعويضات بالفعل سنوات».

وتوقع العيسوي يبدو في محله تماما، بالنظر إلى تاريخ قضايا التعويضات الدولية، فمثلا، انتهت ألمانيا العام الماضي فقط من دفع التعويضات المرتبطة بجرائمها أثناء الحرب العالمية الأولى.

اللافت أن الدعوات في الداخل المصري تزامنت مع إثارة الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد القضية أمام مؤتمر الأمم المتحدة للدول الأقل نموا الذي استضافته إسطنبول مطلع الشهر الجاري، باقتراحه تشكيل لجنة مستقلة لتقييم خسائر حقب الاستعمار وتجارة العبيد التي منيت بها دول العالم الثالث.

وهذه ليست المرة الأولى التي يثير فيها أحمدي نجاد هذه المسألة، ففي يناير 2010، دعا الغرب لدفع تعويضات لإيران عن معاملته لها أثناء الحرب العالمية الثانية، عندما تعرضت للاستغلال الشديد من قبل بريطانيا والاتحاد السوفياتي وجرى استخدامها كمصدر للنفط وطريق لنقل مواد أميركية وبريطانية إلى الاتحاد السوفياتي حتى باتت تعرف بـ«جسر النصر»، وفي أواخر عام 2009 طالب الرئيس الإيراني بريطانيا بتعويضات عما ألحقته ببلاده أثناء الحرب العالمية الأولى.

الملاحظ أن السنوات الأخيرة شهدت اهتماما متزايدا من قبل دول العالم الثالث بوجه عام بقضية التعويضات، ربما لأنها رأت فيها طوق نجاة محتملا من ظروف اقتصادية طاحنة تعانيها. فخلال العام الماضي، طالبت كوريا الشمالية بالحصول على تعويضات من اليابان عن فترة احتلالها شبه الجزيرة الكورية بين عامي 1910 و1945 وإجبارها أكثر من 8.4 مليون كوري على الاضطلاع بأعمال شاقة داخل اليابان والعمل كجنود في الخطوط الأمامية في غزواتها العسكرية في الصين وجنوب شرقي آسيا، مما أسفر عن مقتل أكثر من مليون كوري، علاوة على إجبارها أكثر من 200 ألف امرأة كورية وصينية على العمل في البغاء للترفيه عن الجنود اليابانيين. جدير بالذكر أن اليابان اعتذرت رسميا لكوريا الجنوبية فقط، الأمر الذي أثار غضب الشطر الكوري الشمالي بشدة.

أيضا، بدأت كينيا بالفعل هذا العام في التحرك نحو مطالبة بريطانيا بتعويضات عن عشرات الآلاف الذين سقطوا في خمسينات القرن الماضي من أبنائها على أيدي قوات الاحتلال البريطانية لمطالبتهم بالاستقلال.

أما الدول العربية، فلا تزال خطواتها على هذا الطريق محدودة للغاية، وتكمن المفارقة في أن يدشن الزعيم الليبي العقيد معمر القذافي، في واحد من إنجازاته الدبلوماسية النادرة، هذا التوجه عربيا بتوقيع ليبيا «اتفاقية صداقة» مع إيطاليا عام 2008 وافقت الأخيرة بمقتضاها على استثمار 200 مليون دولار سنويا في ليبيا على مدار 25 عاما.

من ناحية أخرى، أعلن الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي عام 2007، عزم بلاده دفع تعويضات لـ«الحركي»، وهم مقاتلون جزائريون حاربوا لصالح فرنسا ضد حركة الاستقلال. وكان عددهم قرابة 200 ألف، وتعرض من فر منهم إلى فرنسا للتمييز ضدهم، بينما عانى من بقي منهم في الجزائر من اضطهادهم كخونة.

وعام 2010، أطلقت مجموعة من الجزائريين مبادرة للسعي لمطالبة فرنسا بتعويضات عن الاختبارات النووية التي أجرتها في منطقة الصحراء الكبرى في ستينات القرن الماضي.

الملاحظ أن مصر شهدت منذ ما قبل الثورة أيضا ظهور دعوات من حين إلى آخر بمطالبة إسرائيل بتعويض عن الحروب التي خاضتها ضد مصر واحتلالها سيناء بين عامي 1967 و1973، لكنها تصاعدت بشدة عام 2007 في أعقاب بث التلفزيون الإسرائيلي الفيلم الوثائقي «روح شاكيد» الذي تناول قتل 250 أسيرا مصريا في حرب 1967. وبالفعل، تقدمت مجموعة من أسر 15 من الشهداء بدعوى قضائية تطالب الحكومة الإسرائيلية بتعويض قدره 10 ملايين جنيه ولا تزال تلك الدعاوى تنظر أمام المحكمة.

وقال خالد سعيد الباحث في الشؤون الإسرائيلية: «أؤيد الفكرة من حيث المبدأ لكن اعتراضي على التوقيت. أعتقد أن الأولوية الأولى أمام الحكومة المصرية حاليا ينبغي أن تتركز في القضايا الداخلية وعلى رأسها القضاء على الفتنة الطائفية واستعادة الأمن وإنقاذ الاقتصاد، وأرى أنه عند الشروع في هذا الأمر، ينبغي السير في قضيتي طلب تعويضات من بريطانيا وإسرائيل بالتوازي».

ويرى أن السعي في طلب التعويضات ليس بالأمر الهين، خاصة من إسرائيل التي ربما تعد الدولة الأكثر خبرة في العالم في هذا المجال، بدءا من عام 1965 عندما وقعت مع ألمانيا اتفاقا وافقت الأخيرة بمقتضاه على سداد تعويضات لضحايا المحارق النازية (الهولوكوست). ودفعت ألمانيا لإسرائيل منذ ذلك الحين أكثر من 63.2 مليار يورو، منها 1.5 مليار يورو في صورة مدفوعات مباشرة للحكومة الإسرائيلية.

وتابع: «نزيف التعويضات الألمانية لإسرائيل تقف خلفه عوامل عدة، ربما من أهمها الحملات الدعائية الإسرائيلية الناجحة التي تمكنت من كسب تعاطف الرأي العام على الصعيد العالمي، خاصة الغربي، مما جعل مجرد التشكيك في أعداد ضحايا (الهولوكوست) جريمة يعاقب عليها القانون في الدول الغربية». ولهذا يشدد سعيد على أنه «يجب أن تتولى مسؤولية قضايا التعويض لجنة رفيعة المستوى من خبراء قانونيين وسياسيين، مع ضرورة الاهتمام بالجانب الإعلامي لكسب الرأي العام الدولي لصف مصر».

أما بريطانيا، فتبدو مهمة مطالبتها بتعويضات أيسر نسبيا لما تبديه علانية من أسفها عما ألحقته بكثير من دول العالم كما يقول سعيد، مثلما جاء على لسان رئيس وزرائها ديفيد كاميرون الذي أثار عاصفة من الانتقادات الداخلية ضده باعترافه الشهر الماضي بأن الكثير من المشكلات التي تعصف الآن بالعالم تعود جذورها إلى حقبة الاستعمار البريطاني للمناطق المنكوبة.

الطريف أن ائتلافا يطلق على نفسه «الائتلاف الدولي للتعويضات البريطانية»، ويتخذ من الولايات المتحدة مقرا له، أطلق حملة عالمية لجمع توقيعات لمطالبة بريطانيا بتعويضات باعتبارها المسؤولة عن النصيب الأكبر من المشكلات التي يعانيها العالم حاليا. وقدر الائتلاف مبلغ التعويض المطلوب بـ31 تريليون جنيه إسترليني، ويغري الائتلاف عبر موقعه على الإنترنت الزائرين من شتى أرجاء العالم بالتوقيع على طلب التعويض كي يضمنوا لأنفسهم نصيبا من كعكة التعويضات البريطانية.

ويرى الدكتور عبد الله الأشعل خبير القانون الدولي، أن التوقيت غير مناسب للتحرك في هذا الاتجاه الآن، وقال: «على الرغم من تأييدي للفكرة، ولكني لا أفضل طرح هذا الأمر قضائيا، وإنما أؤيد تناوله على غرار ما فعلت ليبيا مع إيطاليا حيث سوّى البلدان هذه المسألة عبر اتفاقية بينهما وافقت الأخيرة بمقتضاها على دفع تعويضات عن سنوات الاحتلال في صورة استثمارات. وهذا هو السبيل الأمثل للحفاظ على استقرار علاقاتنا الأجنبية. لكن هذا الأمر ينطبق على بريطانيا وليس على إسرائيل، لأن اتفاقية كامب ديفيد سوت تلك المسألة مع إسرائيل، وأنشئت لجنة للنظر في الدعاوى المتبادلة يمكن لأي طرف التقدم بالشكوى إليها».

وقال إن ذلك لا ينطبق على قتلى الأسرى المصريين عام 1967 وجنود الأمن المركزي الثلاثة الذين قتلتهم إسرائيل وتعامل معهم نظام مبارك كأنهم إرهابيون ورضخ أمام العدوان الإسرائيلي عليهم، إلى جانب الضباط الذين قتلتهم إسرائيل أثناء عدوانها على رفح عام 2009 ولم يحرك النظام القديم ساكنا.. هذه هي أولى الجرائم التي يجب محاكمة الرئيس السابق عليها.