كيف وقعت الولايات المتحدة في فخ الديون؟

تحولت خلال عقد من الفائض إلى العجز بسبب الخصومات الضريبية وفاتورة الدفاع

الرئيس الأميركي باراك أوباما
TT

بدأ تحول أميركا المخيف إلى الاستدانة قبل عقد من الزمان بمحض اختيارها، وليس بسبب أزمة.

في يناير (كانون الثاني) عام 2001، عندما كانت الميزانية متوازنة وتتحرك للأمام في طريق واضح، توقع مكتب الميزانية التابع للكونغرس حدوث فوائض سنوية بصورة مطردة لأجل غير مسمى. وقال مكتب الميزانية إن المستقبل وردي بدرجة كبيرة، وسيكون لدى واشنطن بنهاية العقد المال الكافي لدفع كل ما تستدين به.

وفي غمرة الاندفاع للاستفادة من ذلك الوضع، علت أصوات البعض بالتحذير ولكن دون جدوى. واختار قادة سياسيون تخفيض الضرائب ورفع معدلات النفقات بدرجة كبيرة، وللمرة الأولى في تاريخ الولايات المتحدة، شنت حربين بأموال مقترضة فقط. «وفي النهاية، فتحت بوابات السد»، على حد تعبير السيناتور السابق بيتي دومينيسي (الجمهوري من ولاية نيومكسيكو)، الذي كان يرأس لجنة الميزانية بمجلس الشيوخ عندما وصل أول مشروع قانون لتخفيض الضرائب إلى الكونغرس في مطلع 2001.

والآن، بدلا من امتلاك أكثر من تريليوني دولار، تتوقع الحكومة الفيدرالية أن تكون مدينة بأكثر من 10 تريليونات دولار لمستثمرين أجانب بنهاية العام الحالي. وبلغ الدين الوطني أكبر المعدلات، كنسبة من الاقتصاد، مقارنة بأي وقت آخر في التاريخ الأميركي باستثناء الفترة التي تلت الحرب العالمية الثانية مباشرة.

وتظهر استطلاعات الرأي أن أغلبية الأميركيين يرون أن مشاكل الميزانية التي تعاني منها البلاد تعود إلى برامج فيدرالية غير ضرورية أو بددت أموالا. ولكن الزيادات الروتينية في نفقات محلية ونفقات الدفاع تمثل 15 في المائة من التدهور المالي، وذلك وفقا لتحليل جديد لبيانات مكتب الميزانية التابع للكونغرس.

وقد كان السبب الأكبر، بهامش كبير، هو تراجع في عوائد الضرائب بسبب فترتي ركود وعدة خصومات ضريبية. وأدت الظروف الاقتصادية ومشروعات قوانين ضريبية أقرب إبان رئاسة جورج دبليو بوش، وبدرجة أقل خلال ولاية الرئيس أوباما، إلى القضاء على 6.3 تريليون دولار في صورة عوائد متوقعة. ويمثل ذلك تقريبا تحول 12.7 تريليون دولار من فوائض متوقعة إلى دين حقيقي. وتقف عوائد الضرائب الفيدرالية حاليا عند أقل معدلات لها كنسبة من الاقتصاد على مدار 60 عاما.

وتمثل النفقات الكبيرة التي بدأتها إدارة بوش 12 في المائة من هذا التحول. وأضافت حربا العراق وأفغانستان 1.3 تريليون دولار في صورة دين جديد. وتبلغ قيمة مساعدات علاجية جديدة للمستفيدين من برنامج «ميدي كير» للرعاية الطبية 272 مليار دولار أخرى. وأضافت حزم إنقاذ المصارف في إطار برنامج إغاثة الأصول المتعثرة، الذي أثار غضب الناخبين وأدى إلى هزيمة العديد من المشرعين خلال الانتخابات عام 2010، 16 مليار دولار فقط – وربما لا يتكلف البرنامج شيئا حال قيام المؤسسات المالية برد الأموال إلى وزارة الخزانة. وأضافت حزم التحفيز الاقتصادي، التي اعتمدها أوباما خلال 2009، وهي هدف مفضل لجمهوريين يقولون إن الديمقراطيين مسؤولين عن الدين المتنامي، 719 مليار دولار أخرى – أي 6 في المائة من إجمالي التحول، وذلك وفقا لتحليل جديد لبيانات مكتب الميزانية التابع للكونغرس أجرته «مبادرة بيو للتحليل المالي»، وهي مؤسسة غير ربحية. وبصورة مجملة، فإن الخيارات خلال حقبة أوباما تمثل نحو 1.7 تريليون في شكل ديون جديدة، وفقا لتحليل منفصل أجرته صحيفة «واشنطن بوست» لبيانات مكتب الميزانية على مدار العقد الماضي. وفي المقابل تمثل سياسات حقبة بوش أكثر من 7 تريليونات دولار، وتعد عنصرا مساهما مهما في العجز السنوي في الموازنة البالغ تريليون دولار، والذي يسيطر على النقاش السياسي. ومع استعداد الكونغرس الأسبوع الحالي لبدء معركة بشأن زيادة الحد القانوني للاقتراض، تظهر التحليلات رؤية أوضح لمسببات الدين – ولصعوبة استعادة توازن الموازنة من دون عوائد ضريبة جديدة. ويعارض معظم الجمهوريين زيادة الضرائب كجزء من الحل، ووصفها رئيس مجلس النواب جون بوينر (أوهايو) بأنها «فكرة محكوم عليها بالفشل». ولكن لن يقبل الديمقراطيون مقترحا يعتمد فقط على خصومات في النفقات. ومن المتوقع أن تكشف «مجموعة الستة»، وهي مجموعة داخل مجلس الشيوخ تضم أفرادا من كلا الحزبين تكرس جهودها لتخفيض الدين، عن استراتيجية جديدة خلال الأسبوع الحالي تجمع بين خصومات حادة في النفقات مع إعادة صياغة قانون الضرائب، يحتمل أن تجمع عوائد إضافية.

(ويغطي سقف الدين، المحدد بـ14.3 تريليون دولار، كافة الدين الفيدرالي، بما في ذلك الأموال التي تدين بها وزارة الخزانة لكيانات فيدرالية أخرى، مثل صندوق ائتمان التضامن الاجتماعي. وتركز بيانات مكتب الميزانية التابع للكونغرس على حصة الدين المقترضة من مستثمرين أجانب. والدين عبارة عن تراكم لعجز سنوي، وإذا كان هناك فائض في الميزانية السنوية، يمكن أن تدفع الدولة الدين).

وبدأت الفوائض السنوية التي وضعت البلاد في هذا المسار خلال الأعوام الأخيرة من إدارة كلينتون. وفي المعتاد يمثل الفائض خبرا سارا داخل الأسر الأميركية. ولكن لا يعد البيت الأبيض أسرة عادية. وعندما رأى وزير الخزانة روبرت روبين التحول في الميزانية عام 1998، حذر على الفور الرئيس بيل كلينتون من أن ذلك يكتنفه ميزات وعيوب، من الناحية السياسية. وكان روبين يريد استخدام الفائض لبدء إعادة دفع الدين، الذي كان يبلغ حينها أكثر من 3 تريليونات دولار. وسماه البيت الأبيض حينها «إنقاذ التضامن الاجتماعي أولا» معتبرا الفائض فرصة لدعم مصادر تمويل البلاد قبل بدء استحقاق أعداد ضخمة من جيل طفرة المواليد لمساعدات تقاعد فيدرالية. وقال روبين في مقابلة أجريت معه: «كانت المشكلة أن جزءا آخر بالكامل من الطيف السياسي كان يريد استخدام الفائض في خصومات ضريبية، وقالوا إنهم يريدون إعادة الأموال إلى المواطنين. وبالطبع، كان ذلك دين الشعب أيضا».

وكان التصرف مع الفائض قضية مهمة في الحملة الانتخابية الرئاسية عام 2000، حيث قال نائب الرئيس آل جور إن الكثير منه يجب وضعه في «صندوق أمانات» لحماية التضامن الاجتماعي وبرنامج «ميدي كير». ودعا بوش إلى خصومات واسعة في الضرائب، وقال إن دافعي الضرائب في كل مستويات الدخل يستحقون استرداد الأموال. وقال بوش عند قبول ترشيح الحزب الجمهوري في أغسطس (آب) 2000: «يقول البعض إن الفائض الفيدرالي المتنامي يعني أن واشنطن لديها الكثير من المال لتنفقه، ولكنهم يقلبون بذلك الأمور، فالفائض ليس مال الحكومة ولكن الفائض مال الشعب». وبمجرد أن تولى مهام منصبه، ضغط بوش على الكونغرس ليحقق نتائج طيبة فيما يتعلق بتعهده الانتخابي. وبعد أقل من أسبوع على تنصيبه رئيسا للولايات المتحدة، حصل على دفعة من رئيس الاحتياطي الفيدرالي آلان غرينسبان، الذي قال أمام لجنة الميزانية بمجلس الشيوخ إن «التخفيض الضريبي يبدو مطلبا» لمنع الحكومة الفيدرالية من مراكمة المال بصورة مبالغ فيها. وكان غرينسبان يخشى من أن الفوائض الكبيرة ستجعل الحكومة أكبر مستثمر داخل البلاد، مما يحدث تشوهات في الأسواق. وحذر جمع من المتشككين من إنفاق الفائض، وأكد البعض على الشكوك المتأصلة في توقعات مكتب الميزانية التابع للكونغرس. وقال آخرون إن الخصومات الكبيرة في الضرائب ستطلق عنان رغبة داخل كلا الحزبين للسعي من أجل أولويات مكلفة من دون القيود التي ساعدت على وجود الفائض. ووافق الكونغرس على خصومات ضريبية قيمتها 1.35 تريليون دولار، وتبعتها حزمة ثانية قيمتها 350 مليار دولار عام 2003. وكانت الحزمتان تمثلان أحد أكبر الخصومات الضريبية منذ الحرب العالمية الثانية، وفقا لـ«مؤسسة الضرائب» المحافظة. وقال أول وزير خزانة لبوش، بول أونيل، بعد أن قرر البيت الأبيض السعي من أجل مشروع قانون 2003، في مقابلة أجريت معه: «رأيت أننا في حاجة إلى المال من أجل تسهيل إصلاح ضريبي أساسي وبدء العمل على التزامات ليس لديها تمويل من أجل الضمان الاجتماعي وبرنامج (ميدي كير)». وأضاف أن البيت الأبيض كان يركز على تعزيز النمو الاقتصادي للربع الرابع من 2004. وقال: «كانوا يريدون التأكد من أن الظروف الاقتصادية جيدة وقت انتخابات الرئاسة». ويقول أنصار الخصومات الضريبية إن التشريع أعاد الضرائب إلى معدلاتها المناسبة. ويشيرون إلى أن توقع مكتب الميزانية التابع للكونغرس عام 2001 افترض أن عوائد الضرائب ستبقى فوق 20 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي للبلاد. ولكن يقول بعض المناصرين البارزين للخصومات الضريبية إن هذه الخصومات ربما كانت سيئة التخطيط. ويقول دومينيسي: «لم يفكر أحد في كل الأشياء التي يحتمل حدوثها حال تخفيض الضرائب. وأنه ستكون هناك حربان ولا نستطيع توفير تكاليفها، وأنه سيحدث ركود ثان، ونفقات كبيرة على الجيش والأمن الداخلي بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر (أيلول)».

* خدمة «واشنطن بوست خاص بـ«الشرق الأوسط»