هل العالم مقبل على كارثة تخلف أميركا عن سداد خدمة ديونها؟

بعد كارثة ديون منطقة اليورو وتبعاتها

نواب الكونغرس في تجمع أمام البيت الأبيض وسط أجواء مأزق الدين الأميركي (أ.ب)
TT

ربما تكون تداعيات ديون منطقة اليورو قد هزت الثقة في مستقبل النمو العالمي وزرعت الخوف في أوصال المستثمرين في الأسواق العالمية التي باتت تتذبذب تبعا لسقوط الدول الأوروبية واحدة تلو الأخرى. ولكن هل العالم قادر على تحمل تبعات تخلف أميركا عن سداد التزامات خدمة واستحقاقات ديونها البالغة 14.3 تريليون دولار. وما هي التبعات التي ستترتب على تخلف أميركا عن السداد وسط تعنت الحزب الجمهوري في تقديم الموافقة على خطة الرئيس الأميركي باراك أوباما لخفض العجز في الميزانية بمقدار 4 تريليونات دولار خلال الأعوام العشر المقبلة؟. سؤال صعب الإجابة عنه، ولكن العديد من كبار رجالات المال ومسؤولي الاقتصاد في أميركا وخارجها يتفقون على أن الأسواق العالمية ستصاب بذعر يفوق الذعر الذي حدث إبان كارثة المال العالمية في عام 2008. ورغم أن هناك اتفاقا بين الجميع أن الكونغرس سيوافق أخيرا على رفع سقف الدين قبل حلول الموعد النهائي في 2 أغسطس (آب)، فإن احتمالات عدم الموافقة تظل قائمة، وتحسب الأسواق لتداعياتها ألف حساب. في هذا التحليل تحاول «الشرق الأوسط» الإجابة عن العديد من الأسئلة المتعلقة بالدين الأميركي وتبعاته.

ويطلق على الدين الأميركي البالغ 14.29 تريليون دولار اعدة أسماء من بينها اسم الدين القومي، أو الدين العام، أو الدين السيادي. وهو عبارة عن تراكم الأموال التي اقترضتها الحكومة الأميركية عاما بعد عام؛ لتغطية العجز في الميزانية، الناتج عن تجاوز الصرف على بنود الإنفاق، أي أن الدخل الحكومي المتحقق من الضرائب التي تجبيها الحكومة من دخل الأفراد والشركات، الذي يمثل المورد الرئيسي للتمويل في أميركا، يقل عن الإنفاق على الميزانية. وعادة ما تلجأ الحكومة الأميركية لتمويل العجز في الميزانية، إلى إصدار سندات خزانة بالدولار لتمويل هذا العجز. ويشتري هذه السندات في الغالب مستثمرون أميركيون، أو مستثمرون أجانب، بغرض الحصول على عائد مالي سنوي ثابت، وهذا العائد على السندات يتحدد وفقا لسعر الفائدة على الدولار.

وتعد سندات الخزانة الأميركية من أكثر السندات المضمونة في العالم، لأن أميركا لم تتخلف عن السداد في تاريخها، ولذلك تحسب سندات الخزانة الأميركية، بالمعايير المحاسبية، من ضمن نوعية الرساميل المصرفية ذات النوعية الممتازة. وعادة ما يلجأ المستثمرون الأميركيون والأجانب من الدول والمصارف وكبار المستثمرين، وحتى الأفراد العاديين، إلى شراء سندات الخزانة الأميركية في أوقات الأزمات المالية، كأحد الملاذات الأكثر أمانا، مثلما حدث في الأزمة المالية الأخيرة التي هزت العالم في عام 2008. ويلاحظ أن المستثمرين من أنحاء العالم من شركات وأفراد وحكومات اتجهت لشراء السندات الأميركية والدولار في عام 2008، على الرغم من أن شرارة الأزمة المالية انطلقت من أميركا، وأن أكثر البنوك والموجودات والأسواق التي تأثرت بالأزمة المالية كانت أميركية وعاملة في الأسواق الأميركية. وهذا يعكس مدى الثقة التي يوليها العالم للقوة المالية والمصداقية الائتمانية للولايات المتحدة.

* كيف تراكم الدين الأميركي؟

كما يلاحظ، فإن الدين ينتج من الفجوة التمويلية بين الإنفاق والدخل الذي تحصله أميركا من الضرائب. وكلما تفاقم العجز في الميزانيات المتعاقبة، تفاقم الدين وتراكمت قيمته. وكانت أميركا تمول حتى القرن التاسع عشر العجز في الميزانية عبر الاستدانة المباشرة من الأفراد الأثرياء، مثل عائلة روتشيلد الشهيرة في القرن التاسع عشر. ولكن ابتدعت لاحقا وسيلة الاستدانة عبر إصدار سندات حكومية من قبل وزارة الخزانة، وعرضها للبيع للمستثمرين الأجانب والمحليين، مقابل فائدة سنوية، وآجال محددة لاستحقاق قيمة السندات. وحتى عام 1991، وهي السنوات الأخيرة من حكم الرئيس جورج بوش الأب، الذي ينتمي إلى الحزب الجمهوري، كان العجز في الميزانية الأميركية يبلغ 300 مليار دولار، وعندما جاء الرئيس الديمقراطي بيل كلينتون، تحول هذا العجز في الميزانية الأميركية إلى فائض، وبحلول عام 2001 بلغ فائض الميزانية الأميركية 300 مليار دولار. وكان يمكن أن تحقق أميركا فوائض ضخمة، لو استمرت على مستويات الإنفاق والضرائب المتحصلة على عهد الرئيس كلينتون، بنهاية العقد الماضي، المنتهي في عام 2010، ولكن الولايات المتحدة على عهد الرئيس جورج بوش الابن قررت طريقا آخر، وهو طريق زيادة الإنفاق وخفض الضرائب، حيث دخلت في حروب تم تمويلها بالاقتراض، كما قررت خفض الضرائب، ومنح مزايا للأثرياء، وإعفاءات ضريبية. أدت هذه السياسة المالية إلى اختلال في الموازنات المتعاقبة، حيث تحول هذا الفائض إلى عجز، ولكن هذا العجز لم يكن كبيرا على الرغم من الحرب التي خاضتها أميركا على عهد الرئيس جورج بوش الابن، حيث لم يفق مبلغ 400 مليار دولار في عام 2003، ثم انخفض هذا العجز إلى 200 مليار دولار في عام 2006. وتحول التراكم في هذا العجز إلى زيادة في المديونية وخدمة فوائدها، مما أدى بالمديونية الهائلة إلى أن تتفاقم في نهاية مايو (أيار) الماضي لتصل إلى 14.3 تريليون، وهو أقصى حد للدين المسموح به دستوريا، الذي يحتاج معه الرئيس باراك أوباما، إلى موافقة من الكونغرس لزيادته إلى مستويات أعلى تسمح للولايات المتحدة بدفع التزاماتها الإنفاقية محليا، على صعيد دفع المرتبات وميزانيات الوزارات، وخدمة فوائد السندات واستحقاقاتها. ويلاحظ أن الدين الأميركي، وفقا لأرقام وزارة الخزانة الأميركية، كان يبلغ في عام 1977 حوالي 698.8 مليار دولار، ولا تفوق خدمته السنوية 40 مليار دولار. ولكنه ارتفع على عهد الرئيس ريغان، الذي صرف بكثافة على الدفاع، وخفض الضرائب على الأثرياء، وكذلك على عهد الرئيس جورج بوش الأب، ليصل إلى 3.66 تريليون دولار، وترتفع خدمته السنوية إلى 286 مليار دولار. ثم ارتفع هذا الدين إلى 13.56 تريليون دولار في عام 2010 على عهد الرئيس أوباما، الذي أنفق بكثافة على إنقاذ الاقتصاد الأميركي من الكساد، في أعقاب الأزمة المالية العالمية في 2008.. وتطورت خدمة هذا الدين لتصل إلى 413.9 مليار دولار في نهاية العام الماضي 2010.

ويلاحظ أن أميركا تورطت في هذه الديون بمحض إرادتها، حيث إنها أنفقت بسخاء خلال العقد الماضي، وخفضت الضرائب على الأثرياء، ومنحت الكثير من الميزات الضريبية التي أدت إلى خفض كبير في الضرائب، وبالتالي في الدخل المتحصل للخزانة. وكان يمكن للولايات المتحدة إذا استمرت في الفائض الذي حققته في عام 1991، البالغ 300 مليار دولار، أن تقضي على الديون بحلول القرن الجديد، لأنها بعملية حسابية بسيطة، فإن الفائض في عشر سنوات بحساب «300 مليار دولار × 10 + الفوائد»، كان سيحول الولايات المتحدة من الدين إلى الفائض بنهاية العقد الماضي.

وفي غمرة الاندفاع للاستفادة من ذلك الوضع، علت أصوات البعض بالتحذير، ولكن دون جدوى. واختار قادة سياسيون تخفيض الضرائب ورفع معدلات النفقات بدرجة كبيرة، وللمرة الأولى في تاريخ الولايات المتحدة، شنت حربين بأموال مقترضة فقط. «وفي النهاية، فتحت بوابات السد»، على حد تعبير السيناتور السابق، بيتي دومينيسي (الجمهوري من ولاية نيومكسيكو)، الذي كان يرأس لجنة الميزانية بمجلس الشيوخ، عندما وصل أول مشروع قانون لتخفيض الضرائب إلى الكونغرس في مطلع 2001.

والآن، بدلا من امتلاك أكثر من تريليوني دولار، تتوقع الحكومة الفيدرالية أن تكون مدينة بأكثر من 10 تريليونات دولار لمستثمرين أجانب بنهاية العام الحالي. وبلغ الدين الوطني أكبر المعدلات، كنسبة من الاقتصاد، مقارنة بأي وقت آخر في التاريخ الأميركي، باستثناء الفترة التي تلت الحرب العالمية الثانية مباشرة.

* ولكن ماذا يعني التخلف من الناحية الفنية؟

التخلف عن السداد من الناحية الفنية، يعرف اقتصاديا بأنه يحدث حينما تفشل الولايات عن تسديد فوائد أي سند من سندات الدين المستحقة في موعدها، أو تفشل في دفع أي استحقاق من استحقاقات السندات التي حان أجل استردادها. في هذه الحال تعد وكالات التصنيف الدولية الولايات المتحدة على قائمة الدول غير الموثوق في مصداقيتها الائتمانية في الإيفاء بالتزاماتها المالية بالقيمة والوقت المحدد، وربما تقوم وفقا للتحذيرات التي أصدرتها بخفض تصنيفها الائتماني الممتاز «تريبل إيه» نقطة واحدة أو نقطتين. ولكن على الرغم من كل الزخم الإعلامي المصاحب لاحتمال التخلف، فمن غير المحتمل أن تتخلف أميركا فنيا عن السداد؛ لأن ذلك مكلف للخزانة الأميركية، كما أنه سيسبب صدمة في الأسواق العالمية وداخل أميركا. ولكنه على الرغم من ذلك، فإنه احتمال بات واردا في حال استمر عناد نواب الحزب الجمهوري، الذين يملكون الأغلبية في الكونغرس، على عدم الموافقة على خطة الرئيس أوباما لمعالجة العجز في الميزانية، عبر خفض الإنفاق، وزيادة الموارد الضريبية.

* ولكن ما هي الخيارات المتاحة في حال رفض الكونغرس رفع السقف؟

حتى الآن لم تكشف الولايات المتحدة عن الكثير من البدائل المطروحة، ولكن المتحدث باسم البيت الأبيض، جاي كارتر، كشف الأسبوع الماضي عن أن هنالك خطة وضعها البيت الأبيض للتعامل مع أسوأ الاحتمالات، وقد رفض الجمهوريون الموافقة على رفع سقف الدين. وقال جاي كارتر في رد على سؤال لصحيفة «واشنطن بوست» بهذا الصدد: «سيكون من قبيل عدم المسؤولية أن لا تضع الولايات المتحدة خطة». وحسب ما كشفت صحيفة «واشنطن بوست»، فإن مسؤولي الإدارة الأميركية «تشاوروا سرا» مع مجموعة من البنوك الكبرى والمستثمرين الكبار في سندات الخزانة الأميركية، داخل أميركا وخارجها، حول الخيارات المتاحة أمام الحكومة الأميركية؛ لتفادي التخلف عن التزاماتها المالية، إذا لم يرفع سقف الديون قبل الوقت المحدد في 2 أغسطس (آب) المقبل. وحسب المصادر المطلعة، فإن الخيارات المتاحة شملت «تعليقا مؤقتا» لبعض الدفعات الداخلية في بنود الإنفاق المحلية، حتى تتمكن أميركا من الإيفاء بالتزامات خدمة الديون، وتفادي الوقوع في فخ التخلف عن السداد. كما تناولت الخيارات بيع بعض الموجودات الحكومية، مثل الرصيد الأميركي من الذهب وسندات قروض الإسكان. ولكن وفقا للمصادر التي تحدثت مع «واشنطن بوست»، فإن البنوك والمستثمرين الذين تشاور معهم مسؤولو الإدارة، نصحوا بعدم جدوى مثل هذا الخيار؛ لأسباب، أهمها أن بيع أي موجودات في مثل هذا الوقت سيبعث رسالة خاطئة إلى الأسواق ترفع من حالة الذعر والاضطراب السائدة. كما أن المستثمرين سيعرضون أثمانا بخسة للموجودات الأميركية؛ لأنهم يعلمون أن أميركا مضطرة. وهي أسباب وجيهة جعلت إدارة أوباما تضغط على النواب الجمهوريين للموافقة على رفع سقف الدين، قبل الموعد المحدد في 2 أغسطس المقبل، كما أن الإدارة الأميركية وضعت خطة كذلك للتعامل مع الالتزامات المالية حتى يوم 22 من شهر أغسطس، في حال لم تتوصل إلى اتفاق قبل الثاني من أغسطس. ولكن في كل الأحوال فإن الولايات المتحدة ستفعل كل ما بوسعها؛ لتفادي التخلف الفني عن دفع استحقاقات الدائنين في الوقت المحدد.

* ولكن ما هي العواقب إذا حدث تخلف أميركا عن السداد؟ ما هي العواقب المترتبة على صعيد الأسواق العالمية والاقتصاد الأميركي؟

حذر كل من الرئيس أوباما ووزير الخزانة الأميركي، تيموثي غايتنر، من مغبة تخلف أميركا عن السداد، ومن جانبه حذر لورانس سمرز، وزير الخزانة في عهد الرئيس كلينتون، من العواقب الوخيمة المترتبة. قال لورنس، في لقاء تلفزيوني يوم الأحد الماضي، إن العواقب المترتبة على الأسواق ستكون أسوأ من كارثة انهيار مصرف «ليمان براذرز» في عام 2008.

من جانبها، استقصت «الشرق الأوسط» العواقب المترتبة على التخلف حسب دراسة نشرها مصرف «جى بي مورغان» الأميركي مؤخرا. يقول مصرف «جى بي مورغان» إن مخاطر تخلف الولايات المتحدة، فنيا، عن السداد، سيقود إلى كارثة على ثلاثة جبهات محلية، وهي:

أولا: سيقود إلى هروب السيولة من الصناديق الأميركية، وسيؤدي إلى بيع المستثمرين لسندات الخزانة الأميركية، وبالتأكيد سيقود ذلك إلى زيادة نفقات الحكومة الأميركية واحتياجاتها للتمويل، ويحرمها من الحصول على تمويلات جديدة عبر بيع السندات.

وثانيا: سيقود التخلف إلى زيادة أسعار الفائدة على الدولار والأدوات الدولارية، ويرفع من تكلفة تأمين هذه الأدوات المالية، سواء كانت سندات أو أدوات مالية أخرى.

ثالثا: سيقود مثل هذا الإجراء إلى عزوف الأجانب عن شراء السندات الأميركية. وتوقع أن تنخفض مشتريات الأجانب للسندات الأميركية بمعدل يتراوح بين 40 في المائة في أسوأ الحالات إلى 20 في المائة. وقال إن حدوث مثل هذا السيناريو، سيؤدي إلى رفع تكلفة الاستدانة بالنسبة للخزانة الأميركية، ويرفع سعر العائد على السندات بحوالي 50 نقطة مئوية «أي نصف نقطة». ويذكر أن الصين تعد أكبر مستثمر في السندات الأميركية، ويقدر حجم استثماراتها بحوالي 1.5 تريليون دولار. وتليها المصارف الأوروبية التي يقدر حجم استثمارها بحوالي نصف تريليون دولار. وذلك حسب إحصائيات بنك التسويات الدولية حتى نهاية عام 2010، التي قدرها بحوالي 479 مليار دولار. وأكبر المصارف المستثمرة في السندات الأميركية، المصارف السويسرية والمصارف البريطانية، تليها البنوك الفرنسية باستثمارات 65 مليار دولار، ثم الإسبانية بحوالى 27 مليار دولار، ثم الألمانية بحوالي 18 مليار دولار.

وعلى صعيد الأسواق، ففي حال تخلف الولايات المتحدة عن السداد، فإن الأسواق المالية ستتعرض لهزة مالية كبرى، حيث من المتوقع أن تهتز ثقة المستثمرين في معظم الأدوات المقيمة بالدولار، وكذلك في الدولار نفسه كعملة احتياط عالمية. وستضاف هذه الهزة إلى اهتزاز الثقة في منطقة اليورو. وبالتأكيد فإن كثيرا من البنوك ستتعرض للإفلاس.