القصة الكاملة لـ«الأربعاء الأسود» في بورصة باريس والتهافت على أسهم بنك «سوسيتيه جنرال»

إشاعتان وترتا أعصاب المتعاملين واجتماع مفاجئ في القصر الرئاسي زاد من حدة المخاوف

إشاعة كادت تطيح بمصرف «سوسيتيه جنرال»، ثاني أكبر المصارف الفرنسية (أ.ف.ب)
TT

الإشاعة التي كادت تطيح، يوم الأربعاء، أول من أمس، بمصرف «سوسيتيه جنرال»، ثاني أكبر المصارف الفرنسية، ومعه النظام المصرفي والبورصات العالمية، انطلقت من لندن، وتحديدا من صحيفة «ديلي ميل» في مقال لها يوم الأحد. وكشفت الصحيفة البريطانية عن معلومات تقول إن المصرف المذكور يعاني من «صعوبات» تمويلية، لا بل إنه مهدد بالإفلاس، وعلى غرار ما أصاب المصرف الأميركي الشهير «ليمان براذرز» الذي كان نقطة الانطلاق للأزمة المالية العالمية عام 2008.

الأمر المدهش أن «مفعول» مقال الـ«ديلي ميل» لم يكن فوريا، بل جاء تأثيره بعد أربعة أيام على صدوره، في اليوم الذي عمدت فيه الصحيفة إلى تكذيب الخبر المنشور والاعتذار «من غير تحفظ» من المصرف الفرنسي. لكن هذه الخطوة لم تنفع، وتدهور سهم المصرف بشكل مخيف، إذ هبطت قيمته في جلسة الأربعاء بنسبة 22.5 في المائة ليقفل بعدها بخسارة 14.7 في المائة.

غير أن مسؤولية الهزة المصرفية لا تقع فقط على الصحيفة البريطانية التي كان خبرها بمثابة الصاعقة. المسؤولية تعود بداية للنتائج الكارثية التي أعلن عنها المصرف، حيث تبين أن أرباحه للفصل الثاني من عام 2011 تراجعت بنسبة 31 في المائة. وهبطت أرباح «سوسيتيه جنرال» المترتبة على نشاطاته عبر العالم، بنسبة أكبر، إذ وصلت إلى 61 في المائة بسبب «الربيع العربي» في تونس ومصر من جهة، والأزمة الرومانية من جهة ثانية، حيث تملك بوخارست فرعا كبيرا اسمه المحلي «بي آر دي». غير أن السبب الأكبر يعود للخسائر التي مني بها في اليونان، إن عبر مصرفه المسمى «جينيكي»، أو بسبب ما يمتلكه من سندات خزينة يونانية. وشارك المصرف المذكور في الخطة الأوروبية لإنقاذ اليونان، مما زاد من التزاماته هناك وأضعف وضعه المالي. وجاءت أزمة المديونية السيادية الإيطالية لتزيد وضعه هشاشة؛ إذ يمتلك مصرف «سوسيتيه جنرال» ما تزيد قيمته على خمسة مليارات من سندات الخزينة الإيطالية. وكانت نتيجة التداخل بين كل هذه العوامل، أن أسهم البنك هبطت بمعدل 45 في المائة خلال أسبوعين ونصف، بمعدل خمسين في المائة خلال شهر واحد، وهو أمر استثنائي في القطاع المصرفي الفرنسي. وسارع حملة أسهم البنك إلى بيع أسهمهم، مما أسهم في زيادة الضغوط على المصرف، وعلى كل القطاع المصرفي الفرنسي. وما أصاب المصرف الفرنسي هذا الأسبوع ذكر بالأزمة التي مر بها بداية عام 2008 مع فضيحة المتعامل جيروم كيرفيل، الذي أصابت عملياته الضخمة شراء وبيعا (خمسين مليار يورو) البنك بخسائر جاوزت المليارات الخمسة.

إزاء هذا الوضع المأساوي، سارع رئيس ومدير عام المصرف، فريدريك أوديا، إلى تقديم شكوى إلى سلطة الأسواق المالية التي يرأسها الوزير السابق، جان بيار جوييه، طالبا فتح تحقيق رسمي للتحقق من مصدر الإشاعات وملاحقة مروجيها. لكن هذه البادرة والتطمينات التي أكثر منها يومي الأربعاء والخميس لم تكن كافية للحد من الخسائر التي كادت تجر كل القطاع المصرفي، ومعه البورصات، إلى الهاوية.

والواقع أن ما ضاعف من فداحة الوضع، إشاعة ثانية زعمت أن وكالات التصنيف الدولية ستخفض مرتبة فرنسا على غرار ما فعلت وكالة «ستاندرد آند بورز» مع الولايات المتحدة الأميركية. وجاء الاجتماع الاستثنائي الذي دعا إليه الرئيس الفرنسي، الذي قطع عطلته الصيفية، مع رئيس الحكومة، فرنسوا فيون، ووزراء الاقتصاد والخزانة والخارجية، والمسؤولين الماليين، ليعطي بعض الصدقية للإشاعة الثانية، بحيث إن ما سعت إليه الدولة «إظهار اهتمامها بالوضعين الاقتصادي والمالي وطمأنة المواطنين والأسواق»، جاء بمفعول عكسي. ومرة ثانية، كانت وكالة «ستاندرد آند بورز» مسؤولة عن حالة الهلع التي ضربت الفرنسيين. وأشار جاك أتالي، وهو خبير اقتصادي مرموق ومدير عام سابق لبنك «الاستثمار الأوروبي»، إلى فقرة وردت في تقرير الوكالة المذكورة عن الولايات المتحدة الأميركية، جاء فيها أن بلدا واحدا سيكون في الوضع نفسه للولايات المتحدة الأميركية في عام 2015 لجهة نسبة الديون إلى الناتج الداخلي الخام هو فرنسا. ثم إن الأخبار التي تواترت عن ترجيح خفض مرتبة الديون السيادية الإيطالية جاء بدوره ليزيد السماء اكفهرارا وإقناع المتعاملين بأسواق الأسهم والسندات، بأن الوضع خطير ويتعين عليهم التخلص مما قد يصبح عبئا عليهم. وإزاء هذا الوضع، لم تنفع تطمينات المسؤولين الفرنسيين، ولا تلك الصادرة عن وكالتي «فيتش» و«موديز» للتصنيف، اللتين أكدتا أن لا جديد في وضع فرنسا.

هكذا، عاشت باريس على وقع الإشاعات ساعات عصيبة برزت آثارها على بيانات البورصة المتأرجحة صعودا وهبوطا، حتى بات أي تصريح أو توقع يلعب بالمؤشرات البورصية. ويتوقع الخبراء أن يستمر الوضع على حاله لأسابيع طويلة، بانتظار أن تنجلي الحركة عن توجه عام مدعم بالأرقام والحقائق الاقتصادية.