الأزمة المالية العالمية.. هل يكرر التاريخ نفسه؟

أوجه تشابه بين الأزمة الحالية وأزمة ثلاثينات القرن الماضي

TT

مثل الزلازل، يبدو أن الأزمات المالية تجر وراءها صدمات لاحقة لها، مثل تلك التي عشناها مؤخرا. وتبدو هذه الصدمات بنفس سوء الأزمة ذاتها، لكن التاريخ الاقتصادي والبحث الأكاديمي يوحيان بأن مثل هذه الصدمات بإمكانها تمهيد الساحة أمام استعادة الاقتصاد عافيته على نحو دائم، وجني سوق الأسهم مكاسب هائلة في نهاية الأمر.

تحمل أحداث الأسابيع الماضية في واشنطن، والمناورات السياسية حول مسألة رفع سقف الدين، وخفض «ستاندارد آند بورز» مستوى تصنيفها لسندات الخزانة طويلة الأجل، وتجدد المخاوف حيال الديون الأوروبية، والتراجع الشديد لسوق الأسهم.. تشابها لافتا ببعض أحداث عامي 1937 و1938، التي أطلق عليها «كساد في قلب الركود». إلا أنه ينبغي هنا التأكيد على أمر مهم؛ أن الواضع في ما مضى كان أسوأ بكثير، حيث تراجع مؤشر «داو جونز» الصناعي بنسبة 79 في المائة عن ذروته عام 1937، وانخفض الإنتاج الصناعي بنسبة 37 في المائة، وهو انخفاض أكبر مما وقع بين عامي 1929 و1933. أما البطالة، التي انحسرت ببطء من 25 في المائة إلى 14 في المائة، فارتفعت بشدة إلى 19 في المائة. وتسبب تراجع الأسعار في حدوث انكماش.

في هذا الصدد، أكد روبرت مكيلفين، مؤلف كتاب «الكساد الكبير: أميركا 1929 - 1941» وأستاذ التاريخ لدى كيلسابس كوليدج، هذا الأسبوع أن: «هناك أوجه تشابه قوي بين ما حدث آنذاك وما يحدث الآن». آنذاك، مثلما هو الحال الآن، كان صانعو القرار يناضلون للتوصل إلى الكيفية والتوقيت المناسبين لوقف التحفيز المالي وإجراءات التخفيف من حدة الأوضاع المالية التي جرى استغلالها في التصدي للأزمة الأولية.

والتساؤل الآن: هل نتعرض لخطر مشابه اليوم؟ أخبرني ديفيد بيانكو، رئيس شؤون الاستراتيجيات الاستثمارية لدى «ميريل لنتش بانك أوف أميركا»، هذا الأسبوع أن «السوق تنهار بمعدل أسرع مما توحي به أي عوامل أساسية». وتبقى احتمالية تعرض الولايات المتحدة لركود بنفس درجة سوء الركود الذي تعرضت له عام 1937 بعيدة.

ومع ذلك، أشار بيانكو إلى أن أسعار السوق الراهنة تواجه احتمالية التعرض لركود بنسبة 80 في المائة، ومن المحتمل أن يتسم هذا الركود بحدة أكبر مما كان عليه عام 1991. (ونوه بأن «ميريل لنتش» تقدر الاحتمالية بـ35 في المائة)، وأضاف أن هناك 3 حالات لم يتبع خلالها مثل هذا الانحسار القوي للسوق فترة ركود: 1966، و1987 (في أعقاب انهيار البورصة في أكتوبر/ تشرين الأول)، وعام 1998 (بعد انهيار مؤسسة «لونغ تيرم كابيتال منيدجمنت»)، وأوضح أن: «الثقة اهتزت وتنحسر سريعا»، وهي مشكلة تتفاقم جراء تراجع أسعار الأسهم.

بحلول عام 1937، بدا أن حركة الاقتصاد نحو استعادة عافيته في كامل قوتها، مما أعطى صناع السياسات مبررا للاعتقاد بأن الاقتصاد قوي بما يكفي لسحب المحفزات الحكومية. قدر متوسط النمو بين عامي 1933 و1936 بمعدل قوي بلغ 9 في المائة سنويا (ينافس النمو الصيني حاليا)، وإن كان من قاعدة بالغة الانخفاض. وتفاقم الدين الفيدرالي إلى 40 في المائة من إجمالي الناتج الداخلي عام 1936 (من 16 في المائة عام 1929). وفي مواجهة دعوات قوية من جانب كل من الجمهوريين وأعضاء حزبه لتحقيق توازن في الميزانية الفيدرالية، رفع الرئيس فرانكلين دي روزفلت والكونغرس ضرائب الدخول، وفرض ضريبة ضمان اجتماعي (التي سبقت بسنوات عدة أي مدفوعات من الإعانات)، وقلص الإنفاق الفيدرالي في محاولة لتحقيق توازن في الميزانية الفيدرالية. وارتفعت العائدات من ضرائب الدخول بنسبة 66 في المائة بين عامي 1936 و1937، وتضاعف معدل الضريبة الهامشي على الدخول فوق 4.000 دولار، إلى 11.6 في المائة من معدل هامشي بلغ 6.4 في المائة. (ارتفع معدل الضريبة الهامشي على الأثرياء - الذين تتجاوز دخولهم مليون دولار - إلى 75 في المائة من 59 في المائة).

من جانبه، اطلع مصرف الاحتياطي الفيدرالي بدوره المطلوب لدفع الاقتصاد لحالة ركود عبر تقليص الائتمان. وارتفعت أسعار الجملة عام 1936، مما أثار مخاوف من حدوث تضخم. وثار قلق من أن تكون السياسات المالية التوفيقية التي انتهجها مصرف الاحتياطي الفيدرالي في عشرينات القرن الماضي هي التي تسببت في المضاربة في الأصول التي سبقت الانهيار الاقتصادي عام 1929 وأسقطت البلاد في الكساد. واستجاب المصرف بزيادة متطلبات الاحتياطي لدى المصارف في العديد من المراحل، مما أدى إلى انخفاض المعروض المالي.

الملاحظ أن الأسباب المحتملة لتراجع سوق الأسهم والانكماش الشديد في الاقتصاد توفر حججا يمكن لجميع الأطراف المشاركة في النقاش استخدامها. يمكن أن يشير الجمهوريون إلى الزيادات الضريبية التي أقرها روزفلت، بينما يمكن للديمقراطيين الإشارة إلى إجراءات خفض الإنفاقات، التي تتوافق مع وجهة نظر مكيلفين الذي علق بقوله: «يبدو واضحا لي أن السبب هو السياسات التي أقرت عامي 1936 و1936، بصورة أساسية تقليص الإنفاقات في وقت رأى روزفلت أنه ضمن إعادة انتخابه».

أما العالم الاقتصادي الحائز على جائزة نوبل، ميلتون فريدمان، فألقى باللوم على مصرف الاحتياطي الفيدرالي والانكماش الذي أصاب المعروض المالي، وذلك في كتابه «التاريخ المالي للولايات المتحدة». ويرى أن سوق الأسهم ربما تقع في دائرة الاتهام أيضا، بالنظر إلى تراجعها الشديد لدرجة محت تأثير الثروة المترتب على الأسعار المرتفعة، وقوض الثقة وأحيا ذكريات الانهيار المالي المؤلمة. إلا أنه عند النظر إلى هذه العوامل معا نجد أنها توحي بأن صانعي السياسة تحركوا بسرعة مفرطة نحو سحب الدعم الحكومي للاقتصاد.

في ظل الإطار الراهن، من العسير إلقاء اللوم على مصرف الاحتياطي الفيدرالي لفرضه قيود سياسته المالية الشديدة، مثلما سبق وأن فعل عام 1937. لقد درس بين إس بيرنانكي، رئيس مصرف الاحتياطي الفيدرالي، تاريخ الكساد جيدا، ويدرك تماما التحليل المالي الذي يطرحه فريدمان. وأعرب جيرمي سيغيل، بروفسور التمويل في كلية وارتون بجامعة بنسلفانيا، عن اعتقاده بأن بيرنانكي: «لن يكرر الخطأ ذاته».

وكان من شأن تعهد مصرف الاحتياطي الفيدرالي بالإبقاء على معدلات الفائدة قرب المستوى الصفري، ليس «لفترة ممتدة» من دون تحديدها، وإنما لعامين كاملين، جعل سندات الخزانة التي تغطي عامين خالية من المخاطر فعليا وخفض عائداتها لمستوى قياسي بلغ 0.19 في المائة. وينبغي أن يدفع هذا المستثمرين نحو الأصول التي تحمل مخاطرة أكبر، مما يؤدي إلى تراجع معدلات الفائدة على المستويات كافة، بما في ذلك معدلات الرهن العقاري.

رغم استعادة أسواق الأسهم عافيتها لفترة قصيرة في أعقاب الإعلان الصادر عن مصرف الاحتياطي الفيدرالي، أبدى بيانكو اعتقاده بأن المستثمرين ربما يقللون من أهمية الخطوة التي اتخذها المصرف. وقال: «سنعاين تراجع تكاليف نفقات الأسر. وسيكون هذا أمرا مفيدا وينبغي أن يعزز الثقة. على الأقل، لم يتخل مصرف الاحتياطي الفيدرالي عنا. إنه يفعل كل ما بوسعه».

منذ عامين عندما كانت رئيس مجلس المستشارين الاقتصاديين المعاونين للرئيس أوباما، أعلنت كريستينا رومر، بروفسورة بجامعة كاليفورنيا في بيركلي، التي تناولت باستفاضة في كتاباتها الكساد الكبير، أن «هناك دافعا قويا لإعلان النصر والعودة إلى النهج الطبيعي للحياة بعد التعرض لأزمة اقتصادية. ويجب مقاومة هذا الدافع».

إلا أن الأحزاب السياسية ربطت نفسها بتقليص العجز، واحد عبر تقليص الإنفاقات وآخر من خلال الزيادات الضريبية. وربما يعكس التراجع الأخير للأسواق الإجراء الرمزي في معظمه الذي اتخذته «ستاندارد آند بورز» بخفض مستوى تصنيف سندات الخزانة الأميركية أو مشاعر القلق حيال التأزم السياسي في البلاد، لكن المستثمرين العاملين على نطاق واسع يخشون من أن يتسبب كلا التوجهان في تجدد الركود عبر سحب المحفزات من اقتصاد هش بسرعة مفرطة. وليس هناك من يعارض فكرة ضرورة تناول عجز الميزانية، من خلال إما تقليص الإنفاقات أو زيادة الضرائب أو مزيج من الاثنين، لكن التساؤل الأكبر يبقى: متى؟

تتمثل الأنباء السارة المرتبطة بركود 1937 - 1938، رغم قسوته، في أنه دام لعام واحد، من مايو (أيار) 1937 حتى يونيو (حزيران) 1938 تبعا لمعظم التقديرات. وقد دفع انحسار سوق الأسهم عام 1937 وتفاقم معدلات البطالة واشنطن نحو العمل. وحول مصرف الاحتياطي الفيدرالي سياسته المتعلقة احتفاظ المصارف باحتياطيات أعلى إلى العكس، وقلص معدل الخصم إلى واحد في المائة. في أبريل (نيسان)، أعلن الرئيس روزفلت عن برنامج «الإنفاق - الإقراض» بقيمة ملياري دولار، لكن الزيادات الضريبية ظلت سارية. واستعاد النمو الاقتصادي صعوده في يونيو 1938 وكان أقوى مما كان عليه بين عامي 1933 و1937. وارتفعت أسعار الأسهم بشدة.

بالطبع، التاريخ لا يكرر نفسه حرفيا، ومن سوء حظ صانعي السياسات في العصر الحاضر أن أسباب استعادة الاقتصاد عافيته عام 1938 تبدو أقل وضوحا عن أسباب الركود. وبينما أقر أنصار الفكر الكينزي الاقتصادي حزمة المحفزات التي أقرها روزفلت لدعم حجتهم المناصرة لضرورة التدخل الحكومي، رأى آخرون أنها جاءت متأخرة للغاية وقليلة للغاية على نحو لا يسمح لها بأن تكون تفسيرا لاستعادة الاقتصاد عافيته. وخلص الخبير الاقتصادي فرنسوا فيلد، الذي يعمل لدى مصرف شيكاغو الفيدرالي إلى أنه بينما تميل التحليلات المالية والنقدية التقليدية لتفسير أسباب حدة التراجع الاقتصادي عام 1937، فإن هناك عوامل أخرى لم تحدد بعد تفسر استعادة الاقتصاد عافيته بهذه القوة.

ومع ذلك، فإن مجرد الشعور بأن واشنطن كانت تذبل جهودا لتناول المشكلات القائمة ربما لعب دورا محوريا في تعزيز الثقة، الأمر الذي عززه ارتفاع أسعار الأسهم.

وليس بمقدور المؤرخين معرفة ما إذا كانت استعادة الاقتصاد لعافيته عام 1938 كان كافيا لإنهاء الكساد الكبير. وقد تدخلت الحرب العالمية الثانية في هذه الفترة، لكن لا يبدو اليوم أن هناك مشكلات بنفس القسوة التي كانت عليها مشكلات العالم عام 1938. إن الصدمات اللاحقة التي وقعت عام 1937 دفعت صانعي السياسات إلى الشعور بالرضا إزاء تحرك الاقتصاد نحو استعادة عافيته. وتمخض ذلك عن تجدد النمو الاقتصادي وارتفاع معدلات التوظيف وزيادة الأجور والإنتاجية، وارتفاع أسعار الأسهم. وكأن المستثمرين الذين واتتهم الشجاعة لشراء أسهم عند مستوياتها المنخفضة عام 1937 كانوا يتطلعون نحو تحقيق مكسب بنسبة 60 في المائة في غضون أقل من عام.

* خدمة «نيويورك تايمز»