«وول ستريت» فشلت في تفسير أو توقع تقلبات السوق الحادة

نمط التقلب اليومي الشهر الماضي لا يتكرر إلا مرة كل 5 سنوات على الأقل

TT

لا يمكن تفسير الزيادة الاستثنائية الهائلة في درجة تقلب سوق الأوراق المالية خلال الشهر الماضي اعتمادا على أساليب تقليدية. حقيقة، حاولت مئات الصحف المتخصصة التنبؤ بحجم تلك التقلبات، وتحقق أسواق كاملة - مثل أسواق العقود المستقبلية وعقود الخيار - معدلات نمو كبيرة من هذه التقلبات. غير أننا ما زلنا نفتقر إلى تفسير واضح لمصدر التقلب.

في الشهر الماضي، ربما اعتقد مراقبو السوق أنهم كانوا يشهدون تدفقا لأشعة «غاما» قادما من الفضاء الخارجي، مع موجات من الفوضى المفاجئة الجنونية: في يوم الخميس 4 أغسطس (آب)، شهدت السوق، بحسب تقدير من قبل مؤشر «ستاندارد آند بورز 500»، هبوطا بلغت نسبته نحو 5 في المائة. وكان اليوم التالي هادئا، غير أنه في يوم الاثنين اللاحق، هبط المؤشر بنحو 7 في المائة. وفي الأيام التالية، سجل المؤشر ارتفاعا نسبته 4.7 في المائة، ثم هبط بنسبة 4.4 في المائة، وما لبث أن ارتفع مجددا بنسبة 4.3 في المائة. وقد استمر حدوث تقلبات تفوق المستوى المعتاد، على الرغم من أنها لم تكن ذات تأثير مدمر.

لنضع الأمر في سياقه. منذ عام 1928، لم تكن نسبة التقلب اليومي في السوق تتجاوز فعليا في المعتاد 0.5 في المائة. ونمط التقلب الذي شهدناه للتو يحدث فقط كل 5 سنوات أو نحو ذلك، مع أنه كانت هناك حادثة أشد تأثيرا في أوج الأزمة المالية عام 2008.

لكي نكون على يقين، فقد ارتبطت على الأقل بعض صور التقلب الأخيرة بأحداث إخبارية. فقد أتى معظم التقلبات بعد أن قامت مؤسسة «ستاندارد آند بورز»، مدفوعة بعدم رضاها عن صفقة اللحظة الأخيرة التي تم إبرامها في الكونغرس، بخفض تصنيف الدين طويل المدى للولايات المتحدة عقب إغلاق السوق يوم الجمعة، 5 أغسطس. وفعليا، ربطت هذه الخطوة غير المسبوقة الولايات المتحدة بأزمة الدين التي ألمت بالفعل بعدد من الدول الأوروبية الصغيرة نسبيا. وبعد 4 أيام، وفي خطوة مهمة، وعد مصرف الاحتياطي الفيدرالي بإبقاء أسعار الفائدة قصيرة الأجل قرب صفر لعامين إضافيين.

ربما يغرينا التفكير في أن السوق قد بدأت تستجيب بعقلانية لهذه التطويرات. غير أن هذه ليست إجابة كافية. فثمة أسئلة على السطح أهمها: لماذا اتخذ المستثمرون رد فعل قويا جدا تجاه تغير التصنيف، الذي لم يكن، قبل كل شيء، سوى رأي عدد محدود من المحللين في إحدى اللجان؟ ولماذا تشهد السوق تقلبات حادة كل يوم، حتى في حالة عدم وجود أنباء مهمة؟

قدم الاقتصادي جون ماينارد كينز الإجابة في عام 1936، في كتاب «النظرية العامة للتشغيل والفائدة والنقود»، من خلال مقارنة سوق الأوراق بمسابقة جمال. ففي هذا الكتاب، يصف مسابقة جمال في صحيفة نشرت فيها 100 صورة فوتوغرافية لوجوه جميلات. وطلب من القراء اختيار أجمل 6 صور منها. وكان من المفترض أن يكون الفائز هو القارئ الذي تكون اختياراته الـ6 هي الأقرب للأكثر تكرارا في مجموعات الصور التي اختارها جميع القراء المشاركين في المسابقة. وأشار كينز إلى أن أفضل استراتيجية لا تتمثل في انتقاء الوجوه التي تعبر عن تفضيلاتك الشخصية. فهي تتمثل في اختيار تلك الوجوه التي ترى أن الآخرين سيرون أنها الأجمل. وأشار إلى أن الأفضل هو الانتقال إلى «المستوى الثالث» بانتقاء الوجوه التي ترى أن آخرين يعتقدون أن غيرهم يعدونها الأجمل. وقال إنه بالمثل، في أسواق المضاربة، لا تحقق الفوز بانتقاء أفضل الاستثمارات، بل بانتقاء الاستثمار الذي سرعان ما سيعرض المستثمرون الآخرون أعلى سعر مقابل الحصول عليه. إن كينز لم يذكر أين ومتى رأى مسابقة الجمال هذه.

يذكر أن صحيفة «نيويورك تايمز» كانت قد أجرت مسابقة جمال شبيهة جدا بها في عام 1913. وحملت عنوان «مسابقة فتاة اليوم»، وطلب من القراء إرسال صورة لامرأة شابة يرون أنها «نموذج مثالي للفتاة الأميركية». وطلب من مجموعة فنانين انتقاء الصورة الفائزة من تلك الصور.

وأشارت صحيفة «نيويورك تايمز» إلى «الحيرة» التي واجهت لجنة التحكيم بسبب صعوبة مهمة الاختيار. تم تسجيل مقاطع من المحادثة التي جرت بين أعضاء اللجنة: «لسنا هنا لاختيار أجمل فتاة في مجموعة الصور»، عبارة قالها أحد المحكمين. وقال محكم آخر: «هذا وجه سيروق للنساء، وهن لن يرونه وجها لشخصية خطيرة».

نحن نرى مثل هذه الحالة من الحيرة بين المستثمرين في سوق الأوراق المالية اليوم. فالمستثمرون يحاولون تخمين ما إذا كان مستثمرون آخرون يرون أن غيرهم يعتقدون أن سوق الأوراق المالية «محفوفة بالمخاطر» أو ما إذا كان هذا هو أفضل وقت للاستثمار أم لا. وفي هذه الحالة من الغموض والحيرة، يكون على المستثمرين اتخاذ قراراتهم في ظل عدم امتلاكهم هذا الكم الكبير من المعلومات التي توفر للمحكمين في مسابقة «فتاة اليوم».

حينما تسمع محادثة بين مستثمرين محترفين - من بينهم هؤلاء الذين يديرون أموالا لمؤسسات كبرى مثل منح جامعية وصناديق معاشات - عادة ما يبدو أنهم منغمسون في هذا النوع من الحدس وإعمال البديهة. أنت تتساءل عن عدد الأشخاص الذين يعتمدون فعليا في اتخاذ قراراتهم على ما تعلموه في كليات التجارة وإدارة الأعمال، على سبيل المثال اختيار المحفظة المثلى بناء على تحليل إحصائي عقلاني لبيانات اقتصادية أساسية. إذا كنت تؤمن بالأسواق ذات الكفاءة، فعليك أن تستخلص أن بعض المستثمرين الآخرين يجرون مثل تلك الحسابات اليوم، لأنها لا تبدو النشاط الأساسي للأشخاص الذين أسمعهم.

في واقع الأمر، يتمثل أفضل تفسير لتقلبات السوق، الممثلة في تأرجح الأسعار بين الارتفاع والهبوط، في أنه في كل يوم نجري مسابقة جمال على طريقة كينز، ونعيد تقييم ما يعتقد الآخرون أنه رأي غيرهم. وفي الأيام التي تخلو من أنباء مهمة، تستجيب السوق لنفسها. ونظرا لأن القلق متصاعد، فإن المستثمرين يتخذون ردود فعل سريعة، وأحيانا مندفعة، تجاه أحداث غير مؤثرة نسبيا.

عبر ألان غرينسبان، رئيس مجلس الإدارة السابق لمصرف الاحتياطي الفيدرالي، عن مخاوف متعلقة بمستثمرين آخرين في «ميت ذي بريس» في 7 أغسطس، في يوم الأحد الذي سبق الهبوط الحاد في السوق الذي بلغت نسبته نحو 7 في المائة. وقال: «أرى أن ما فعلته مؤسسة (ستاندارد آند بورز) هو أنها قد أثارت انطباعا بأن ثمة شيئا سيئا بالأساس يجري مجراه، الأمر الذي أثر بشكل سلبي على كبرياء الولايات المتحدة وروحها المعنوية». وأضاف: «كما أن لهذا تأثيرا أعمق مما تخيلت أنه يمكن أن يحدث». كان يتحدث عما كان يعتقده مستثمرون آخرون، لا عن صميم قرار مؤسسة «ستاندارد آند بورز» بخفض التصنيف الائتماني لدين الولايات المتحدة طويل الأمد.

وخلال نهاية هذا الأسبوع، كان هناك تكهن شائع مفاده أن خفض التصنيف الائتماني سيرفع أسعار الفائدة. لكن في يوم 8 أغسطس، حتى قبل أن يصدر مصرف الاحتياطي الفيدرالي بيانه، بدأت عائدات سندات الخزانة التي أجلها 10 سنوات في الهبوط، لا الارتفاع، وشرع كثيرون في إعادة تقييم ما كان يعتقده آخرون، وما كان يعتقد آخرون أن غيرهم يعتقدونه، وهكذا.

وتولد هذه العملية حالة من الشك، ليس فقط بالنسبة لسوق الأوراق المالية، وإنما أيضا بالنسبة للاقتصاد ككل. «الشيء الوحيد المثير للخوف هو الخوف ذاته»، هكذا قال فرانكلين روزفلت عن الكساد العظيم، وكان محقا. نحن نحاول بشكل دائم إعادة تقييم مخاوف الآخرين، ومخاوف الآخرين من مخاوف غيرهم أيضا.

ربما يبدو الأمر أشبه بلعبة مجنونة، لكن إذا كان آخرون يلعبونها، فعلينا بالضرورة أن نلعبها نحن أيضا. إن النظرة المستقبلية للاقتصاد تعتمد على مدى انطباق قواعد مسابقة الجمال المعقدة المذكورة بشكل فعلي.

* خدمة «نيويورك تايمز»