هل انزلقت الصناعة في أميركا عن بؤرة الاهتمام؟

المصنعون يعتمدون على استيراد المكونات مما يهمش عبارة «صنع في أميركا»

TT

في محيط هذه المدينة التي تشتهر بالمروج تصطف سبعة مبانٍ كبيرة، كل منها مطلي باللون الأحمر على طول طريق سريع تحيط به حقول الحبوب. لا تشتمل هذه المباني ذات الطابق الواحد على مدخنة أو أي إشارة تدل على أنها مصانع تعمل. يُنتج خلال ثلاث مناوبات آلات لتجميع القش وحفر خنادق وتحويل فروع الأشجار إلى قطع من الأخشاب وجذوع الشجر إلى نشارة خشب وحفر أنفاق لتركيب الأسلاك الكهربائية والأنابيب تحت الأرض. فضل إنشاء هذه المصانع يعود إلى المزارع والمصلح والمخترع غاري فيرمير الذي توفي منذ عامين عن عمر يناهز 91 عاما.

الشركة التي أسسها تحمل اسمه، لكن رغم جذورها الأميركية تفتتح أحدث مصانعها في العاصمة الصينية بكين. وتشرف ماري، ابنة فيرمير، والرئيسة التنفيذية للمؤسسة، على عملية التصنيع التي تعتمد على دعم الحكومة بشكل متنامٍ.

في الوقت الذي يحثّ فيه الرئيس أوباما الكونغرس على سَنّ حزمة جديدة من القوانين الخاصة بالخفض الضريبي والإنفاق الحكومي بهدف إنعاش النمو وتوفير فرص عمل، يغيب التصنيع الذي يعد أحد أركان الاقتصاد الأميركي عن اهتمام واشنطن. وتحصل «فيرمير» على ثلث العائدات السنوية من التصدير وتعتمد على الحكومة الأميركية في الصفقات التجارية والترتيبات الجيدة الخاصة بالعملة وحتى الدبلوماسية الخشنة للتصدير. لكن لم يكن ذلك كافيا في الصين، حيث دخلت لعدة سنوات في منافسة مع المصنعين الصينيين للحفارات الاتجاهية الأفقية الذين حصلوا على دعم من حكومتهم من خلال منح أراضٍ دون مقابل وإعفاءات ضريبية وقروض بفوائد منخفضة، فضلا عن أشكال أخرى من الدعم.

ومع انخفاض حصتها من السوق بشكل كبير، افتتحت «فيرمير» مصنعا في بكين عام 2008 وحظيت بشريك صيني واستعانت بالصينيين في المشروع. تقول ماري البالغة من العمر 61 عاما ورئيسة الاتحاد القومي للمصنعين: «أنا من أنصار جعل الولايات المتحدة من أكبر المصدرين»، لكنها أضافت: «يجب أن نفعل ذلك إذا أردنا الصمود في السوق الصينية. هذا هو الواقع».

التصنيع ليس مجرد نشاط في السوق، خصوصا في القرن الواحد والعشرين، حيث يعتمد المصنعون بشكل متزايد على الحكومات هنا وفي البلاد الأخرى من أجل تحقيق الازدهار والتوسع. وتزدهر مؤسسة «فيرمير» التي تمتلكها الأسرة بفضل هذا النوع من المساعدة مثلما هو الحال في مؤسسات متعددة الجنسيات مثل «داو كيميكال». الجزء الأكبر من إنتاج المؤسسات متعددة الجنسيات في كل منطقة حول العالم محلي. وتدعم حكومات الدول الأوروبية والآسيوية هذه الاستراتيجية وتتخذ الحكومة الأميركية هذا المنحى لكن بحذر، فقد أشار الرئيس إلى ذلك خلال خطابه الذي ألقاه يوم الخميس الماضي. وصرح خلال جلسة مشتركة في الكونغرس قائلا: «سنعمل على التأكد من أن لا تكون جذور الجيل القادم من الصناعة في الصين أو أوروبا، بل هنا في الولايات المتحدة».

وتحاول ماري أن تتبنى هذا التوجه، حيث يعمل لديها 140 مهندسا، وهو ما يمثل 7 في المائة من العاملين في محاولة مستمرة لتطوير الآلات والماكينات التي تصدرها. لكن يمثل هذا عائقا، ففي الوقت الذي تسود فيه الرغبة في تصنيع كل المكونات في أميركا، يزيد المصنعون من اعتمادهم على المكونات المستوردة مما يجعل عبارة «صنع في أميركا» على هامش المشهد. وتقول ماري: «نفضل شراء كل المكونات من الولايات المتحدة، لكن بعض ناقلات الحركة تأتي من أوروبا، فهي لا تصنع هنا بالأحجام والقدرات التي نريدها». تنتج «داو كيميكال» ألواح الأسطح التي تولد طاقة شمسية في إطار مصنع تجريبي بالقرب من مقر «داو» في ميدلاند بولاية ميتشيغان بفضل منحة الحكومة الفيدرالية التي تبلغ 141 مليون دولار. وهناك مصنع قريب تحت الإنشاء. وتتحمل الحكومة نحو نصف تكلفة إنشاء المصنع الذي يقع في ميدلاند، وهي تبلغ 362 مليون دولار. ومن المنتظر أن ينتج بطاريات للسيارات الكهربائية.

يقول أندرو ليفريس، رئيس مجلس إدارة والرئيس التنفيذي لـ«داو كيميكال»: «سياسة التصنيع المتقدم هو ما يحتاج إليه هذا البلد»، مشيرا إلى أن التصنيع يتطلب دعما حكوميا لزيادة الحصة المتناقصة من اقتصاد الدولة. ويحدث هذا بشكل خاص عندما لا يكون الطلب على المنتجات الجديدة مثل ألواح الأسطح التي تولد طاقة شمسية والبطاريات كبيرا على نحو يشجع على الاستثمار. والجدير بالذكر أن ثلاث شركات تعمل في مجال الطاقة الشمسية أشهرت إفلاسها مؤخرا.

يعمل ليفريس البالغ من العمر 57 عاما مهندس كيميائي ويشارك في الإشراف على مجموعة «أدفانسيد مانيفاكتشرينغ بارتنرشيب» التي شكلها الرئيس أوباما مؤخرا، والتي تضم مجموعة من المستشارين المستقلين. ويتعين على ليفريس اختيار بعض المصنعين الذين سيتم استمرار دعمهم.

ويقول: «لن أسمح للأسواق الحرة بالسيطرة على الوضع دون استهداف الحال التي أتمنى أن يكون عليها التصنيع بعد عشرين أو ثلاثين عاما». ولم تحاول إدارة أوباما وضع سياسة تصل إلى هذا المدى، لكن دعا الرئيس العام الماضي إلى مضاعفة الصادرات بحلول عام 2015، وهو ما يتطلب زيادة إجمالي مخرج المصانع في أميركا على نحو أسرع كثيرا عنه في السنوات الماضية. من وسائل تحقيق ذلك إجبار المؤسسات متعددة الجنسيات على إعادة بعض إنتاجها من الخارج، وهو ما لا تنتويه ماري.

رغم استهداف الإدارة للتصنيع تعوزها خطة واضحة الملامح لتحقيق ذلك. يقول توماس كوكان، خبير الاقتصاد الصناعي في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا: «الولايات المتحدة اليوم من القوى الصناعية التي ليست لديها استراتيجية واضحة أو حتى طريقة تفكير محددة بشأن ما يمكن القيام به في ما يتعلق بالتصنيع».

ساعدت قوة التصنيع في جعل الولايات المتحدة قوة عالمية، لكن إسهامه في الدخل القومي يتراجع. في الوقت الذي يبدأ فيه قادة مؤسسات مثل ليفريس وجيفري إيمليت، رئيس «جنرال إلكتريكس» ورئيس مجلس الرئيس للوظائف والتنافسية، التعبير عن قلقهم حيال الانخفاض النسبي للتصنيع، زساهمت المؤسسات متعددة الجنسيات التي أمروها في حدوث المشكلة من خلال تحويل الإنتاج تدريجيا إلى الخارج. وحققت مؤسسة «داو كيميكال» العام الماضي نحو نصف أرباحها التي تبلغ 58 مليار دولار من عملها خارج الولايات المتحدة.

ربما نكون قد وصلنا إلى نقطة اللاعودة، فقد تراجعت مساهمة التصنيع في إجمالي الناتج المحلي إلى ما يعادل بالكاد الدخل القومي، حيث وصلت إلى 11.7 في المائة العام الماضي بعد أن كانت 28 في المائة خلال الخمسينات بحسب مكتب التحليل الاقتصادي. لا ينخفض عدد السيارات أو المنتجات البلاستيكية أو الصلب أو الإلكترونيات التي تنتجها مصانع أميركية، بل على العكس تزداد، حيث وصل حجم المخرج من المصانع الأميركية إلى 1.95 تريليون دولار العام الماضي. لكن شهدت القطاعات الاقتصادية الأخرى نموا سريعا خلال العقود الماضية مما أثر سلبا على حصة التصنيع. وشهدت قطاعات المال والتأمين والعقارات بوجه خاص نموا من نحو 12 في المائة من إجمالي الناتج المحلي خلال منتصف الخمسينات إلى أكثر من 20 في المائة بفضل المصارف الاستثمارية ومبيعات المنازل قبل حدوث الأزمة المالية. ومع ذلك ما زالت تحافظ على نموها.

على الجانب الآخر تبلغ حصة التصنيع من المخرج القومي في الصين أكثر من 25 في المائة، رغم أن حجم الاقتصاد الأميركي أكبر من الاقتصاد الصيني، حيث يبلغ 14 تريليون دولار في إجمالي الناتج المحلي مقابل 6 تريليونات دولار هي حجم الاقتصاد الصيني، إنتاج المصانع الأميركية أقل. عندما تتصدر الصين المشهد وتزيح الولايات المتحدة من الموقع التي سيطرت عليه لما يزيد عن قرن يكون من الصعب التأثير على اتخاذها للقرار. ويشير المكتب إلى أن ذلك ربما بدأ عام 2009 عندما بلغت القيمة المضافة للمصنعين الصينيين 1.7 تريليون دولار مقابل القيمة المضافة الأميركية التي تبلغ 1.6 تريليون دولار. وعندما يتحول لوح الصلب الذي يبلغ سعره 100 دولار إلى حاجز اصطدام قيمته 125 دولار تصبح القيمة المضافة 25 دولار.

يشير بعض خبراء الاقتصاد استنادا إلى أرقام البنك الدولي إلى أن الصين انتقلت إلى المركز الأول في التصنيع العام الماضي، بينما يقول البعض إن اللحظة لم تحِن بعد لكنها قريبة استنادا إلى أرقام القوة الشرائية الحقيقية.

ربما لا يبدو تراجع أميركا الملحوظ أو القريب عن المركز الأول بهذا القدر من الأهمية، خصوصا عند مقارنته بالجدل الدائر حول الديون الأميركية أو البطالة المستمرة. ولعل من أسباب ذلك عدم رؤية القادة السياسيين للدولة للتصنيع باعتباره مشكلة، بمعنى أنهم لا يرون أن لتصنيع محرك بالضرورة أهمية كبيرة تضاهي أهمية المصارف الاستثمارية أو قطاع التجزئة أو ربما حتى أهمية موقع إلكتروني هام.

يقول رونيل هيرا، الأستاذ المساعد في السياسات العامة في معهد روشستر للتكنولوجيا: «تسود ثقافة بين أوساط النخبة السياسية من الحزبين تقول بعدم أهمية التصنيع وبأن السياسة الصناعية ضررها أكثر من نفعها».

لكن الواقع الذي يشهد تراجع حصة التصنيع من المخرج القومي بدأ يثير أسئلة مثل: هل التصنيع يهم؟ هل يصلح القطاع المالي أن يكون بديلا للتصنيع المتراجع؟ ربما تستطيع الأزمة المالية أن تقدم إجابة بالنفي عن السؤال الأخير. يرى الكثير من الخبراء أن التصنيع لا يحظى بالتقدير الكافي بالنظر إلى مساهمته في صحة البلاد.

ويقولون إن التعافي من الركود لن يتوقف إذا كان هناك ما يكفي من المصنعين الذين يحدثون طفرة من خلال إعادة إحياء الإنتاج وإعادة توظيف العاملين فور حدوث تحسن في الوضع الاقتصادي. وتوفر كل وظيفة جديدة في مصنع خمس وظائف أخرى في الاقتصاد، وقد محا حجم التصنيع الآخذ في الانكماش هذا التأثير.

لكن حجم الدمار لا يقف عند هذا الحد، فالعجز التجاري الخارج عن السيطرة يعود بوجه من الأوجه على اهتزاز وضع التصنيع. تتراجع المهارات اليدوية في الكثير من الأماكن في الولايات المتحدة. على سبيل المثال يعمل 40 في المائة من المهندسين في التصنيع، وهذا العدد في تراجع. ويمثل هذا مشكلة لأن الإبداع كثيرا ما يتولد من خلال التصنيع والمراكز البحثية التي تقع بالقرب من المصانع التي تساعد في إخراج المنتجات وتعديلها في خطوط التجميع.

وفي الوقت الذي تفتتح فيه المؤسسات متعددة الجنسيات مصانعها خارج الولايات المتحدة تقيم المراكز البحثية بالقرب منها مما يؤدي إلى عواقب لا يمكن تحديدها. يفند هذا التوجه على الأقل القول بأن الولايات المتحدة لديها أفضل علماء ومراكز بحثية، لذا فهي تحدد مسار البحث والتنمية.

يقول رون بلوم الذي عمل كبير المستشارين لشؤون التصنيع لصالح الإدارة الأميركية: «إذا جعلت التصنيع يستمر، سيكون هناك قوة سلبية جاذبة على الإبداع بمرور الوقت». واستقال بلوم في أغسطس (آب) ولم يحل أحد محله حتى هذه اللحظة.

في الوقت الذي تصبح فيه المؤسسات متعددة الجنسيات أكثر عالمية، تنشأ مراكز البحث المتطورة بالقرب من مصانعها بالخارج حتى تصبح مراكز البحث والتطوير بالقرب من خطوط التجميع وأيضا للاستفادة من الحوافز التي تقدمها الحكومة. وتصدر مؤسسة «داو كيميكال» من الصين حاليا منتجات تم اختراعها في مركزها البحثي الذي يقع بالقرب من شنغهاي.

وتقول ماري: «أحصل في الخارج على حوافز ضريبية لبناء مصانع في مناطق محددة، حيث يوفرون لنا المرافق والبنية التحتية والأرض. أحصل كذلك على الموارد البشرية وكل أنواع الدعم للمساعدة في تدريبهم».

*خدمة «نيويورك تايمز»