«إيطاليا التقشف» تضحي بالحاضر في سبيل الإفلات من مشنقة الديون

مئات آلاف الوظائف ستلغى وربما تخفض المرتبات

عشرات الوظائف ستفقد في قرية كوميتيني الهادئة بجزيرة صقلية بايطاليا («نيويورك تايمز»)
TT

تضم قرية كوموتيني، التي تقع على قمة تل صغير من التلال القاحلة في جنوب جزيرة صقلية 960 شخصا فقط ومجموعة صغيرة للغاية من الطرق، ولذا لا يبدو أنها تعاني من مشكلات مرورية كبيرة، ومع ذلك هناك شرطي مرور يعمل بدوام كامل، بالإضافة إلى ثمانية مساعدين له.

وقد تم تعيين هؤلاء المساعدين الذين يحصلون على أجر شهري كبير يبلغ 800 يورو أو 1.100 دولار مقابل العمل لمدة 20 ساعة أسبوعيا، ضمن 64 فردا من سكان القرية، في إطار نظام الوظائف مقابل الأصوات، وهو النظام السائد في كافة مستويات السياسة الإيطالية.

وتقول كاتيرينا فالينتي (41 عاما)، وهي إحدى المساعدات وترتدي زيا أزرق أنيقا وتجلس مع اثنتين من زميلاتها يشربن القهوة في أحد مقاهي المدينة بعد ظهر يوم حار: «إن هذه الوظائف هي التي أبقت المدينة على قيد الحياة. وكما ترون، نحن هنا في إحدى الحانات ونقوم بدعم الاقتصاد بهذه الطريقة».

ولكن السبب في إنقاذ اقتصاد مدينة مثل كوموتيني هو بالضبط السبب في خنق اقتصاد إيطاليا وغيرها من الاقتصادات المتعثرة في جميع أنحاء أوروبا، حيث رفع الإنفاق العام الدين العام إلى 120 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، وهي أعلى نسبة في منطقة اليورو بعد اليونان. وخلال الأسابيع الأخيرة، أدت المخاوف المثارة بشأن الملاءة المالية لإيطاليا والاقتصاد الهش للدول الأوروبية الأخرى المثقلة بالديون إلى تقويض الثقة في السوق وانتشار المخاوف بشأن استقرار عملة اليورو نفسها.

ويوم الأربعاء الماضي، صادق مجلس النواب الإيطالي على خطة تقشف مالية بقيمة 74 مليار دولار. وتهدف الخطة إلى القضاء على عجز الميزانية في إيطاليا بحلول عام 2013، غير أن المحللين يشكون في قدرة هذه التدابير - زيادة الضرائب في المقام الأول ولكن أيضا وجود تخفيضات في المساعدات المقدمة للحكومات المحلية، ورفع سن التقاعد للمرأة في القطاع الخاص، وحدوث تغيير في قانون العمل الإيطالي حتى تصبح الشركات قادرة على توظيف العاملين وفصلهم بصورة أسهل - على تحقيق أهدافها المعلنة.

وربما يتم إلغاء الكثير من التخفيضات في التمويل المقدم للحكومات المحلية خلال المفاوضات التي ستعقد خلال العام الحالي فيما يتعلق بالميزانية السنوية، ولا يوجد أي تشريع ينص على أي تدابير لخفض الرواتب أو عدد العاملين في القطاع العام، ولكن هؤلاء العمال سوف يفقدون بعضا من استحقاقات التقاعد، كما تم تجميد عملية التوظيف بالفعل.

وما زالت الأسواق المالية تعاني من التوتر، مع ارتفاع عائدات السندات الإيطالية إلى مستوى قياسي بلغ 5.7 في المائة خلال الأسبوع الماضي، قبل أن تستجمع بضعا من قواها بعد تمرير الحكومة لتدابير التقشف. ورغم ذلك، لا يزال المستثمرون غير مقتنعين ويتملكهم الخوف من احتمال خفض مستوى التصنيف الائتماني لإيطاليا، وهو ما قد يؤدي إلى تخفيض سعر اليورو. وهناك حديث بالفعل حول قيام الحكومة باتخاذ تدابير تقشفية إضافية.

وقال ستيفانو ميكوسي، وهو خبير اقتصادي ومدير مجموعة «آسونيم الإيطالية للأبحاث التجارية»: «لدي شكوك كبيرة فيما إذا كانت هذه التدابير كافية، حيث لم تتغير الآليات التي أدت إلى مثل هذا الإنفاق».

وأضاف ميكوسي أن نقطة الخلاف كانت تدور حول القطاع العام، حيث «تكمن المشكلة الكبرى في الإدارة العامة التي تعاني من عدم الفاعلية والفساد. توغل الفساد في السياسة، ولا توجد رغبة من السياسيين في تغيير ذلك».

وتحاول إيطاليا التغلب على مشكلة الدين العام الذي تراكم بفعل سلسلة من الحكومات المتتابعة للحزب الديمقراطي المسيحي الإيطالي، والتي ساعدت البلاد على الخروج من الفقر المدقع بعد الحرب العالمية الثانية لتصبح إيطاليا ثالث أكبر اقتصاد صناعي في أوروبا بأكملها.

ويقوم الحزب الديمقراطي المسيحي، ولا سيما في الجنوب الإيطالي الأكثر فقرا، بوضع ملايين الأشخاص على قائمة كشوف الرواتب للدولة في إطار نظام الوظائف مقابل الأصوات والذي، حسب رأي الكثيرين، استمر في عهد رئيس الوزراء سلفيو برلسكوني. وكان هذا النظام متبعا ما دام الاقتصاد ينمو، ولكنه يعد الآن واحدا من التهديدات الرئيسية للملاءة المالية في إيطاليا.

وفي عام 2009، وهو العام الأخير الذي تتوفر فيه البيانات، كان هناك ما يقدر بـ3.5 مليون إيطالي في كشوف الرواتب للدولة من أصل قوة العمل التي تصل إلى 23 مليون نسمة، وفقا لوزارة الإدارة العامة والابتكار. وعلى مرأى من رئيس الوزراء برلسكوني، قفز الإنفاق الحكومي - بما في ذلك تكاليف الإدارة العامة والدفاع - إلى أكثر من تريليون دولار في عام 2010 مقابل 753 مليار دولار في عام 2000. ويرجع المحللون بعضا من الارتفاع إلى اعتماد البلاد لعملة اليورو في عام 2001 وارتفاع تكلفة الإنفاق على المعاشات في دولة سوف يتعدي فيها عدد المتقاعدين عدد العمال في وقت قريب، فضلا عن ارتفاع تكاليف الرعاية الصحية.

كما يرجع المحللون هذه الزيادة إلى الصفقات التي أبرمها برلسكوني مع السياسيين الذين يتمتعون بالنفوذ من الشمال والجنوب على حد سواء بهدف الحصول على الأصوات اللازمة للحفاظ على تماسك حكومته. وتعني تلك الأصوات أن الحكومة لا تفكر في وقف تدفق الأموال. وحتى في ضوء تدابير التقشف الجديدة «لم يقوموا بغلق الصنابير التي تضخ الأموال»، على حد قول ميكوسي. ويقول البعض إن نظام الوظائف مقابل الأصوات هو عقلية مستمدة من التراث الإقطاعي الإيطالي. وكانت إيطاليا عبارة عن خليط من الإقطاعيين المتحاربين قبل الاتحاد منذ أكثر من 150 عاما من الآن، وغالبا ما تكون الشبكات الشخصية أقوى من المؤسسات.

وقال لويجي موسيلا، وهو مؤرخ في جامعة نابولي ومؤلف كتاب «المحسوبية»: «وحتى يومنا هذا، هناك مفهوم عام يقول أنا أتفهم موقف الدولة ما دمت أستفيد منها شخصيا أنا وعائلتي وأعمالي التجارية».

ومن جانبه، أعرب نينو كونتينو، وهو رئيس بلدية كوموتيني منذ عام 2002، عن فخره لأنه يستخدم المال العام في خلق فرص عمل. وأضاف كونتينو (49 عاما): «أعتقد أن عمل 60 شخصا في بلدة يوجد بها 1000 شخص هو عدد لا بأس به. ولكن لو لم أسمح لهم بالعمل، سوف يضطر هؤلاء الأشخاص للذهاب للعمل في الولايات المتحدة».

وأضاف: «وعلاوة على ذلك، لا يتسلم هؤلاء العاملون رواتبهم من المدينة، ولكن من الدولة والإقليم. في الواقع، يحصل العاملون في المدينة على 90 في المائة من رواتبهم من الحكومة الإقليمية و10 في المائة من المدينة نفسها».

«هذه البلدة لا تفتقر لشيء»، كانت هذه هي كلمات كونتينو وهو يستعرض مكتبة المدينة وإحدى المناطق المخصصة لألعاب الأطفال ومجموعة كبيرة من كتب التاريخ الصقلي، بما في ذلك موسوعة نادرة من عشرة مجلدات عن «تاريخ الإقطاع».

وفي الطابق العلوي، هناك متحف صغير للفخار العربي النورماندي ومعرض عن مناجم الكبريت القريبة التي كان يعمل بها نحو 10.000 شخص قبل أن يتم إغلاقها في الخمسينات والستينات من القرن الماضي، وهو ما أجبر الكثير من السكان على التقاعد المبكر أو الهجرة.

وقال كونتينو، وهو يعمل في إحدى الشركات في مجال الحد من السيلوليت، إنه بالإضافة إلى عدد سكان المدينة، والذي يبلغ 960 شخصا، هناك 3000 مهاجر مسجلين في المدينة في عملية التصويت. ويشعر بعض السكان بالقلق من أن تؤدي تدابير التقشف الجديدة إلى عدم إرسال الأموال للموظفين المحليين، ولكن كونتينو لم يكن قلقا، وقال: «أنا لا أعتقد أن هناك مخاطر، حيث تسود هنا ثقافة الحفاظ على فرص العمل. إن الإرادة السياسية هنا هي عملية نسبية».

ومع ذلك، اشتملت تدابير التقشف على تخفيضات حقيقية في الإنفاق الإقليمي، حتى لو كان تطبيق التغييرات التي ستحدث في الحكومة المحلية سيستغرق سنوات كثيرة. وفي مقابلة عبر الهاتف، قال رافاييل لومباردو، وهو رئيس منطقة صقلية: «لا يمكننا المساس بالرواتب، ولكن من الواضح الآن أن عملية التوظيف سوف تتوقف لسنوات كثيرة».

* أسهم في كتابة التقرير غايا بيانيجياني من روما

* خدمة: «نيويورك تايمز»