التوترات بين شمال السودان وجنوبه تعطل التجارة عبر النيل

طرحت كل من الدولتين عملة جديدة دون أي تنسيق بينهما

تفريغ بضاعة في ميناء كوستي، وهي بلدة على الضفة الغربية لنهر النيل على مسافة 300 كيلومتر جنوب الخرطوم عاصمة شمال السودان (رويترز)
TT

يأمل التاجر السوداني عمر الشيخ الواقف بجوار شاحنته المحملة بالبصل في ميناء كوستي على النيل بأن يشحن بضاعته إلى جنوب السودان المستقل حديثا، مبررا مصاعب الإجراءات البيروقراطية التي واجهها.

وبحسب تحقيق لـ«رويترز»، فبعد مرور نحو ثلاثة أشهر على انفصال جنوب السودان عن شماله بعد عقود من الحرب الأهلية لا توجد اتفاقية تجارية شاملة بين البلدين مما يعطل تدفق البضائع إلى الجنوب الفقير المعزول الذي يفتقر للتنمية والذي لا يملك سوى ما يزيد قليلا على 50 كيلومترا من الطرق الممهدة.

وقال الشيخ وهو ينتظر فحص أوراق الجمارك «الطلب كبير في الجنوب على جميع أنواع البضائع.. لكننا نحتاج إلى اتفاقيات بين الحكومتين لتسهيل التجارة. بدون هذه الاتفاقيات لن تكون هناك تجارة».

وتعطلت التجارة في المنطقة الجنوبية من جنوب السودان بسبب العنف القبلي وتضطر أحدث دولة في العالم للاعتماد على واحد من أقدم الطرق التجارية وهو النيل كحلقة الوصل الرئيسية مع الأسواق الأجنبية.

ويضطرها ذلك للتعامل مع الشمال لكن العلاقات متوترة منذ الانفصال في التاسع من يوليو (تموز) الماضي. وأدت الخلافات على إيرادات النفط والحدود المشتركة إلى تراجع أولوية التجارة على جدول الأعمال.

وطرحت كل من الدولتين عملة جديدة دون أي تنسيق بينهما. فأصدر الجنوب عملته في يوليو مما أجبر الشمال على طرح عملة جديدة خوفا من أن تغمر أسواقه بالعملة القديمة التي يجري التخلي عنها في الجنوب.

ويجري تحميل الصنادل النهرية التي تسافر إلى النيل الأبيض في كوستي، وهي بلدة متربة على الضفة الغربية للنهر على مسافة 300 كيلومتر جنوب الخرطوم عاصمة شمال السودان. وتبحر القوارب المسطحة الصدئة بتكاسل في مياه النيل محملة بالمواد الغذائية والسلع الاستهلاكية والأمتعة والمعدات لطاقم الأمم المتحدة الذي يعمل في الجنوب. وقال بابكر الساير أحد المصدرين في ميناء كوستي «عادت حركة التجارة لتوها. في الجنوب هناك حاجة للعديد من المنتجات مثل الغذاء والعصائر والعدس وغيرها».

وتبلغ المسافة برا نحو ألف كيلومتر من كوستي إلى جوبا عاصمة الجنوب. لكن النيل يتعرج وسط الأراضي القاحلة في طريقه إلى الجنوب مما يطيل الرحلة النهرية لتستغرق نحو أسبوعين.

وتوقفت التجارة تقريبا في إطار الاستعداد للاستقلال مع اندلاع العنف على امتداد الحدود غير المرسومة جيدا مما قطع إمدادات المواد الغذائية عن الجنوب. وارتفع التضخم في الجنوب إلى 57 في المائة في أغسطس (آب) نتيجة لذلك.

ويقول مسؤولون من موانئ الشمال إن التجارة الثنائية نمت منذ أن وقعت الدولتان اتفاقا محدودا الشهر الماضي لتسهيل التجارة والسفر. وقال مسؤولون من الميناء وتجار إنه منذ ذلك الحين تصل نحو 10 شاحنات أو أكثر يوميا إلى كوستي.

ويعيد الافتقار إلى الطرق البرية للنيل أهميته التاريخية للمناطق الواقعة على ضفتيه. لكن التجار الذين يبحرون في النيل يقولون إنهم يتحملون مخاطر كبيرة بسبب العوامل الكثيرة التي تعوق التجارة مما يرفع التكاليف على المشترين في الجنوب. وقال تاجر عرف نفسه باسم مالك «سأشحن بضائعي في صندل ثم أبيعها في الأسواق المحلية وسأحصل قيمتها بالجنيه الجنوبي».

وبما أنه من المستحيل تقريبا تحويل الجنيه الجنوبي في الشمال يتعين على مالك أولا تحويله إلى الدولار وهي مهمة صعبة حيث يعاني البلدان من شح الدولار الذي يقول التجار إنه لا يتوافر سوى في السوق السوداء بأسعار شديدة الارتفاع. ويقولون إن بعض المتعاملين في الجنوب يطلبون 5 جنيهات أو أكثر مقابل الدولار، أي أعلى بكثير من سعره الرسمي البالغ 3 جنيهات للدولار، وأعلى كذلك من سعره في السوق السوداء في الشمال.

ويسمح البنك المركزي في الشمال للتجار بتحويل كميات صغيرة فقط من الجنيهات الشمالية للدولار في الخرطوم مما يجعل من الصعب عليهم شراء بضائع مستوردة لشحنها إلى الجنوب.

وقال أحد التجار وهو يعرض خطابا من البنك المركزي في الخرطوم «يتعين علي إعادة الدولارات التي حولتها في البنك المركزي خلال 45 يوما. اضطررت لترك شيك كضمان».

ويواجه التجار صعوبات في توصيل بضائعهم إلى كوستي ثم عبر النيل ثم بيعها ثم تحويل الحصيلة بالجنيه الجنوبي إلى الدولار وإعادة الدولارات إلى الخرطوم قبل الموعد النهائي الذي يحدده البنك المركزي.

وقال التاجر «نحتاج لتنسيق حكومي بشأن التبادل التجاري مع الجنوب. هناك فرص لأعمال كبيرة هناك لكننا نحتاج لاتفاقات».

ولم يتسن الحصول على بيانات يعتد بها عن حجم التجارة الثنائية، لكن بعض المحللين يقول إن الحجم المحتمل يمكن تقديره على أساس حقيقة أن صادرات السودان غير النفطية قبل الانقسام كانت تبلغ 1.7 مليار دولار سنويا - ويمكن للتجارة بين الشمال والجنوب أن تنمو إلى نسبة كبيرة من هذا الإجمالي. ويبلغ عدد السكان الإجمالي للشمال والجنوب نحو 41 مليون نسمة، 80 في المائة منهم في الشمال.

ويقول خبراء إن التجارة النيلية مهمة كذلك لمصر التي صدرت ما قيمته 274 مليون دولار إلى السودان في النصف الأول من 2011، وهو ما قد يزيد مع تنامي الطلب من الجنوب لمواجهة نقص الغذاء بعد موسم الأمطار والعنف القبلي.

وسيتعين على جنوب السودان الاعتماد على الشمال في تصدير نفطه على مدى السنوات المقبلة، إذ إن خط الأنابيب الوحيد من الحقول الجنوبية يمتد إلى ميناء بورسودان على ساحل البحر الأحمر في شمال السودان. وقال وكيل وزارة المالية الأسبوع الماضي إن الجنوب الذي ينتج نحو 300 ألف برميل يوميا من الخام حقق إيرادات بلغت 500 مليون دولار من أول شحنة نفط تصدر عبر بورسودان. ويقول دبلوماسيون إن الدولتين تبديان استعدادا لتحسين العلاقات الاقتصادية.

وقال معتصم مطاوع رئيس إدارة التصدير بوزارة التجارة الخارجية في الخرطوم «نتوقع زيادة كبيرة في التجارة مع الجنوب. يوجد طلب كبير من تجار هنا للتصدير للجنوب».

وأضاف «نعلم أن الوضع ليس مثاليا. شكلنا لجنة مع الجنوب لتنظيم التجارة».

وسيتعين على جنوب السودان زيادة وارداته الغذائية بنسبة كبيرة في الأشهر المقبلة لأن إنتاجه هذا العام سيكون أقل بمقدار 500 ألف طن عن الاحتياجات وفقا لتقديرات الأمم المتحدة. وستأتي بعض إمدادات الغذاء على طائرات مساعدات تابعة للأمم المتحدة لكن الكثير منها سينقل عبر النيل.

وقال سامسون واسارا المحلل في جوبا إن جنوب السودان يريد تطوير التجارة عبر كينيا إلى مناطق الجنوب الشرقي باستخدام ميناء مومباسا على المحيط الهندي للتجارة مع آسيا. وحتى الآن تصل البضائع القادمة من آسيا إلى جنوب السودان لميناء بورسودان ثم يجري نقلها بصنادل نيلية.

وقال واسارا «يحاولون فتح طرق جديدة للتجارة من جوبا إلى مومباسا، والميناء في مومباسا قريب نسبيا من جوبا بالمقارنة مع بورسودان». غير أن مومباسا يصعب الوصول إليه الآن بسبب العنف القبلي والضرائب المفروضة بشكل غير مشروع على الطرق المؤدية إلى كينيا. ويقول مسؤولون في كوستي إن ميناءهم سيظل هو الخيار الأرخص والأسهل.

وقال مسؤول بالميناء «بعض التجار لا يتحدثون الإنجليزية جيدا لذلك يفضلون التعامل معنا بدلا من المرور عبر كينيا».