أزمة السيولة تحولت إلى أزمة ثقة.. هل تتمكن أوروبا من إنقاذ بنوكها؟

البنوك ترفض إقراض بعضها البعض.. وتعجز عن بيع سنداتها

TT

أدرك القادة الأوروبيون مؤخرا أن البنوك يجب أن تجبر على سد العجز في احتياطاتها الرأسمالية إذا ما كتب لمنطقة اليورو أن تخرج من أزمة الدين. لكن ثمة سؤالا آخر، ألا وهو ما إذا كان بمقدور الساسة تحقيق ذلك على أرض الواقع بأسلوب مقنع، خصوصا في ظل الخلاف الفعلي القائم بين ألمانيا وفرنسا.

ترى ألمانيا أن على كل دولة من دول منطقة اليورو إعادة رسملة بنوكها منفردة، بينما ترى فرنسا أن إعادة رسملة البنوك يجب أن تتم بشكل منسق من دول اليورو. ورغم أن اجتماع المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل مع الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي الذي تم في عطلة الأسبوع أشار إلى أن لدى البلدين خطة مشتركة لإعادة رسملة البنوك، ولكن لم يتحدث البيان عن تفاصيل هذه الخطة. وهو ما حدا بالمحللين الماليين والمستثمرين إلى قراءة أن الدولتين ليس لديهما خطة لإعادة رسملة البنوك وإنما أطلقا التصريح لتهدئة الأسواق. وما زاد في الشكوك تأجيل القمة الأوروبية أسبوعا آخر.

وتحدو المحللين شكوك في أنه حتى إذا كان في استطاعة أغنى الدول الاتفاق على توجهات عامة لجهد منسق واسع النطاق في هذا الشأن، يكون مؤثرا بالدرجة الكافية لإزالة كل الشكوك المتعلقة بالملاءة في حالة عجز اليونان أو أي دولة أخرى لديها ديون سيادية عن السداد. ومع البوادر الأولى لخلاف بين فرنسا وألمانيا، ترغب فرنسا في الاعتماد على حزمة إنقاذ أوروبية مقدمة من آلية تسهيل الاستقرار المالي الأوروبي، لإعادة رسملة بنوكها، بينما يرى قادة ألمان أن الحكومات الوطنية يجب أن تأخذ المبادرة.

وقالت المستشارة أنجيلا ميركل يوم الجمعة: «لا يجب اللجوء إلى آلية تسهيل الاستقرار المالي الأوروبي، إلا إذا عجزت الدولة عن علاج أزمتها بنفسها». غير أن المبالغ المطلوبة لتأمين البنوك ضد الخسائر على السندات الحكومية - التي تصل إلى 300 مليار يورو أو نحو 400 مليار دولار، وفقا لبعض التقديرات - يمكن أن تهدد تصنيف فرنسا الائتماني الممتاز. وسيشكل ذلك عقبة سياسية كبيرة بالنسبة للرئيس نيكولا ساركوزي قبل الانتخابات المقرر إجراؤها في شهر مايو (أيار) المقبل.

ومثل هذه الأنواع من المناقشات هي ما يخشاه الاقتصاديون. ومن شأن أسلوب ينم عن ضيق أفق أن يؤدي بالدول لمحاولة السعي وراء مصالح مؤسساتها، مثلما كان النمط المعتاد في الماضي، بحسب نقاد. فضلا عن ذلك، يرى هؤلاء النقاد أن معظم البنوك الكبرى تمتلك عمليات ضخمة، ومن ثم، تحتاج إلى إشراف أوروبي شامل.

في هذا الصدد يقول نيكولاس فيرون، زميل رفيع المستوى في مؤسسة «بروغل» البحثية الكائنة في بروكسل: «تحتاج إلى أن يكون لديك أسلوب أوروبي، وهو الأمر الذي يشكل صعوبة كبيرة على المستوى السياسي». واستطرد قائلا: «إذا لم يحدث ذلك، فلست متفائلا بدرجة كبيرة بشأن قدرة السلطات الأوروبية على إبقاء الأزمة تحت السيطرة». وحينما قامت مؤسسة «فيتش ريتينغ» بخفض التصنيف الائتماني لإسبانيا يوم الجمعة بمقدار مستويين، من «AA-» إلى «AA+»، أشارت إلى «احتدام» أزمة الدين، إلى جانب تباطؤ النمو وعدم ثبات التمويل الإقليمي، بحسب «بلومبرغ نيوز». وذكرت مؤسسة «فيتش ريتينغ» أسبابا مماثلة تدفع لخفض التصنيف الائتماني لإيطاليا لمستوى واحد، ليصل إلى «A+»، مع تثبيت التصنيف الائتماني للبرتغال عند «BBB-»، مشيرة إلى أنها سوف تنتهي من مراجعة ذلك التصنيف في الربع الرابع.

في الوقت نفسه، بددت المشكلات الخطيرة التي عصفت ببنك «ديكسيا» الفرنسي - البلجيكي الأوهام المتعلقة بتعافي البنوك الأوروبية. فقط في شهر يوليو (تموز)، تمكن بنك «ديكسيا» من اجتياز اختبار ضغط رسمي كان من المفترض أن يكشف عن البنوك المعرضة للمخاطر. وحصل بنك «ديكسيا» على حزمة إنقاذ ممولة من دافعي الضرائب خلال 3 سنوات في شكل ضمانات قيمتها 123 مليار دولار. لقد بات من الواضح أن استعادة البنوك الأوروبية استقرارها أمر لا غنى عنه لحل أزمة الدين والقضاء على الخطر الحقيقي الذي يهدد الاقتصاد العالمي. بدأت كريستين لاغارد، المدير العام لصندوق النقد الدولي، تحث على القيام بعملية إعادة رسملة شاملة منذ عدة أشهر. وفي الولايات المتحدة، حذر الرئيس أوباما يوم الخميس من أن «المشكلات التي تواجهها أوروبا الآن قد يكون لها تأثير حقيقي واضح على اقتصادنا».

لكن لم يقدم أحد أي تفاصيل، ولو مبدئية، حول كيفية إجبار البنوك على جمع أموال من الأسواق المفتوحة إذا استطاعت، أو تزويدها بتمويل حكومي، في حالة عدم استطاعتها القيام بذلك.

في هذا الصعيد قال كارل واينبرغ، كبير الاقتصاديين في مؤسسة «هاي فريكونسي إكونوميكس» للتحليلات الاقتصادية، في ملاحظة موجهة للعملاء يوم الجمعة: «خبرتنا تدلنا على أنه إذا لم يتحدث أحد عن تفاصيل أمر ما، فإن ذلك يرجع إلى عدم وجوده من الأساس». واستكمل: «فلنتفق على أنه لا توجد خطة».

وحتى إذا ثبت أن بنك «ديكسيا» حالة مستقلة بذاتها، فإن من الواضح أن ثقة المستثمر في ملاءة البنوك الأوروبية بدأت تتداعى. فالبنوك الأوروبية ترفض إقراض بعضها البعض، كما يرفض المقرضون في الولايات المتحدة إقراض المؤسسات الأوروبية. وقد عجزت البنوك عن بيع ما تمتلكه من سندات لجمع أموال. ويكمن الخطر في أن البنوك الأوروبية ستعاني من نفاد السيولة النقدية اللازمة لإقراض الشركات والمؤسسات والعملاء، مما يضخم حالة الكساد التي ربما تكون قد بدأت بالفعل. وفي ما يشكل حلقة مفرغة، يسهم خطر الركود في زعزعة الثقة في البنوك. فالمستثمرون يدركون أن حدوث ركود سيؤدي إلى زيادة في القروض المعدومة، مما يضيف إلى الضرر المحتمل حدوثه في حالة عجز اليونان عن سداد الديون على سنداتها.

ويقول معهد التمويل الدولي، الذي يوجد مقره في واشنطن ويرصد أداء مؤسسات الصناعة المصرفية، في تقييمه الشهري لأسواق رأس المال العالمية، إن حصص البنوك الأميركية قد بدأت في التأثر بسبب آراء مفادها أنها عرضة للتأثر بنظرائها من البنوك الأوروبية، «المشكلة لا تتعلق برأسمال البنوك فحسب، وإنما في المقام الأول بأزمة الدين السيادي المرتبطة بتباطؤ النمو». وفي يوم الخميس، وسع البنك المركزي الأوروبي نطاق مساعداته المقدمة للبنوك التي تعاني من مشكلات في الحصول على التمويل اللازم. وقال إنه سيسمح للبنوك باقتراض المبالغ التي تحتاجها لمدة نحو سنة بسعر الفائدة المعياري، البالغ حاليا 1.5 في المائة. وذكر أنه سينفق مبلغا قيمته 40 مليار يورو على نوع منخفض المخاطر من ديون البنوك معروف باسم السندات المؤمنة.

لكن، مثلما حذر جون كلود تريشيه، رئيس البنك المركزي الأوروبي، الذي يعتزم ترك منصبه في نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل، فليس بمقدور البنك المركزي سوى أن يقدم مساعدات مؤقتة فقط. البنك المركزي يخاطب مشكلات السيولة التي تواجهها البنوك، حاجتها لسيولة نقدية يوميا. غير أنه لا يمكن أن يعالج مشكلات ملاءة البنوك أو فقد الاحتياطات الكافية لامتصاص صدمة قوية تتعلق بممتلكاتها من السندات الحكومية أو الخسائر الناتجة عن القروض غير العاملة. وقبل أن تجازف صناديق الاستثمار في الأصول السائلة، والمستثمرون الآخرون بإيداع أموال في البنوك الأوروبية مجددا، يجب أن يثقوا في أن البنوك قد اتخذت إجراءاتها الوقائية.

وتعتمد الحسابات الهادفة لتحديد مقدار رأس المال الإضافي الذي تحتاجه البنوك على تقديرات متعلقة بمدى التدهور الذي يمكن أن تصل إليه الأزمة التي تمر بها. ويشير جون بيس، محلل مصرفي في بنك «نومورا» إلى أن هناك 25 بنكا لها أسهم متداولة في السوق بشكل معلن، ستحتاج إلى رأسمال إضافي، إذا ما تكبدت خسائر بالفعل في قيمة ما تمتلكه من سندات حكومية أوروبية. وتضم القائمة أسماء كبرى مثل: «كوميرز بنك»، و«دويتشه بنك» في ألمانيا، و«يوني كريديت» في إيطاليا، و«سوسيتيه جنرال»، و«بي إن بي باريباس» في فرنسا. فضلا عن ذلك، ربما يكون هناك عشرات، إن لم يكن مئات، من البنوك الأخرى التي لا تمتلك رأس المال الكافي، والتي لم يلاحظها المحللون، إما لأنها ليست لديها أسهم متداولة معلن عنها، مثل البنوك الحكومية الألمانية، أو لأنها صغيرة جدا.

وربما تكون مؤسسات أكبر مثل «دويتشه بنك» أو «يوني كريديت» قادرة على بيع أسهم جديدة. ولكن مع انخفاض أسعار أسهم البنوك، فليس الوقت الحالي مناسبا حتى بالنسبة لأكثر البنوك الموثوق فيها لطرح أسهمها للتداول في الأسواق. ويخطط القادة الأوروبيون لمناقشة الموضوع يومي 17 و18 أكتوبر (تشرين الأول) في بروكسل. كذلك، طلبت الحكومات من الهيئة المصرفية الأوروبية إعداد تقديراتها الخاصة لمتطلبات رأس المال الخاصة بالبنوك. وقد اتفق وزراء المالية على مشاركة المعلومات الخاصة بقدرتهم على تمويل المساعدات المقدمة للبنوك لدى اجتماعهم الشهر المقبل.

ونظرا لثقل الآراء في منطقة اليورو، من المحتمل أن تنحاز المفوضية الأوروبية إلى جانب ميركل وتؤيد فكرة أن أموال الإنقاذ يجب استخدامها في إعادة رسملة البنوك كملاذ أخير فقط، ما لم يتمكن ساركوزي من إقناع المستشارة الألمانية بخلاف ذلك. وعلى الرغم من ذلك، فإن موقف ألمانيا يضع فرنسا في موقف حرج؛ فالبنوك الفرنسية تعتبر من بين البنوك الأكثر عرضة لمخاطر الدين الحكومي. وليس من المرجح أن تكون الزيادات الضئيلة نسبيا في احتياطات رأس المال كافية لإقناع أسواق المال باستقرار أوضاع البنوك. لكن إذا خسرت فرنسا تصنيفها الممتاز، فسيسبب ذلك مشكلات أيضا بالنسبة لحزم الإنقاذ، نظرا لأن فرنسا هي ثاني أكبر ضامن لأموال الإنقاذ بعد ألمانيا.

«لقد أوضحت ميركل أنها لا تجد مبررا لضرورة استخدام الأموال المقدمة من دافعي الضرائب الألمان في إنقاذ البنوك الفرنسية المنافسة للبنوك الألمانية»، هذا ما قاله مسؤول في بروكسل لصحيفة «نيويورك تايمز»، رفض ذكر اسمه. وأضاف: «فرنسا تقول إنها قد منحت ضمانات كبيرة للتمويل وتعتقد أنها يجب أن تكون قادرة على الاستفادة منها».