بعد الاضطرابات السياسية.. مصر تواجه اضطرابات نقدية

الجنيه المصري يواجه احتمالات التراجع الحاد.. والبنك المركزي لا يملك الدولارات الكافية لدعمه

الاقتصاد المصري يدخل مرحلة خطرة مع تواصل الاضطرابات السياسية (أ.ب)
TT

يهدد العنف والاضطرابات في مصر بانزلاق البلاد إلى أزمة عملة، وهو ما قد يؤدي إلى تراجع حاد في قيمة الجنيه المصري في الأشهر القليلة المقبلة ويدفع البلاد إلى فرض قيود على رؤوس الأموال. وحتى قبل الاشتباكات التي اندلعت هذا الشهر بين قوات الأمن والمتظاهرين، والتي سقط فيها 36 قتيلا على الأقل منذ يوم السبت الماضي، كانت مصر تتجه إلى اضطرابات نقدية، فالبنك المركزي يجاهد للحفاظ على استقرار الجنيه باستخدام احتياطياته من النقد الأجنبي التي تتراجع بحدة.

ومن المرجح أن تزيد هذه الاضطرابات التي تثير الشكوك بشأن قدرة مصر على إدارة الانتخابات البرلمانية المقررة الأسبوع المقبل بسلاسة، من الضغوط على الاحتياطيات، وقد تقرب البلاد من أزمة شاملة في الأشهر القليلة المقبلة، بدلا من أواخر عام 2012، وهو الموعد الذي تنبأ بعض المحللين من قبل بأن يشهد ذروة الأزمة المتوقعة.

وقال فاروق سوسة، كبير الاقتصاديين المختصين بالشرق الأوسط في مجموعة «سيتي غروب»، لـ«رويترز»: «حتى قبل هذه الأحداث كنا قلقين للغاية بشأن ميزان المدفوعات وتبدد الاحتياطيات». وأضاف «العنف والضجيج السياسي سيبدد أي ثقة متبقية في الاقتصاد المصري، وقد يؤدي في ظل الأوضاع الراهنة لتسارع خروج رؤوس الأموال». وهبطت احتياطيات مصر الصافية بالعملة الأجنبية من نحو 36 مليار دولار في بداية العام إلى 22.1 مليار في أكتوبر (تشرين الأول)، إذ أثار العنف وعدم التيقن السياسي اللذان صاحبا الإطاحة بالرئيس حسني مبارك موجة خروج جماعي للمستثمرين الأجانب والسياح. وتراجعت الاحتياطيات 1.93 مليار دولار الشهر الماضي، وهو أكبر تراجع منذ أبريل (نيسان) وفقا لبيانات البنك المركزي.

وتمكن البنك المركزي حتى الآن عن طريق إمداد السوق بالعملة الأجنبية من الحفاظ على القوة الشرائية للجنيه والحد من الضغوط التضخمية في مواجهة فرار رؤوس الأموال. وأبقى البنك المركزي الجنيه مستقرا بشكل ملحوظ في نطاق بين 5.92 و5.99 جنيه للدولار منذ الإطاحة بمبارك. لكن الضغوط على الجنيه تتزايد بوضوح وسط تكهنات في السوق بشأن متى ستنفد أموال البنك المركزي التي يستخدمها لمواصلة دفاعه. وتراجع الجنيه أمس (الثلاثاء) إلى أدنى مستوى أمام الدولار منذ يناير (كانون الثاني) 2005.

ويرى رضا أغا، الاقتصادي المختص بالشرق الأوسط وشمال أفريقيا في بنك «آر بي إس» أن الاحتياطيات كافية لتغطية الواردات المصرية لمدة أربعة أشهر ونصف الشهر، لكن الاحتياطيات السائلة، وهي العملات والودائع والأوراق المالية التي يمكن تعبئتها بسرعة لحماية الجنيه، تبلغ نحو 16.1 مليار دولار، أي ما يغطي الواردات لمدة 3.2 شهر وفقا لحساباته. وكتب أغا في تقرير الأسبوع الماضي يقول «الاحتياطيات المصرية لم تصل بعد إلى المستويات المفزعة، لكنها معرضة بشدة لخطر خروج رؤوس الأموال». ويرى بعض المتعاملين أن السوق قد تشهد حالة فزع، إذ إن التوقعات بانخفاض قيمة العملة تدفع رؤوس الأموال للخروج بما يفوق تحمل البنك المركزي، إذا وصلت الاحتياطيات السائلة إلى ما دون تغطية الواردات لمدة شهرين.

وإذا تسببت الاضطرابات في تسارع تراجع الاحتياطيات عن معدله في أكتوبر(تشرين الأول)، نظرا لأن الاضطرابات تؤثر سلبا على إيرادات السياحة وتدفع المستثمرين الأجانب لبيع ما تبقى بحوزتهم من أذون الخزانة المصرية، فمن المحتمل أن تحدث الأزمة بعد ثلاثة أشهر أو نحو ذلك. وتخشى السوق الآجلة التي تستخدمها البنوك للتحوط ضد تقلبات العملة من الوصول إلى هذه المرحلة العام المقبل، فالأسعار هناك تشير إلى سعر صرف عند 6.15 جنيه للدولار خلال ثلاثة أشهر وإلى 6.62 جنيه للدولار خلال عام.

وتعكس سوق الأسهم كذلك الحالة القاتمة. فالمؤشر الرئيسي للبورصة الذي نزل 46 في المائة هذا العام ارتفع 17 في المائة في أكتوبر، لكنه تخلى عن أغلب هذه المكاسب في الأسبوعين الماضيين. والمساعدات الدولية لمصر يمكن أن تكسبها وقتا غاليا وتبقيها في حالة جيدة حتى تجرى الانتخابات ويعود الاستقرار السياسي.

لكن مصر رفضت عرضا ببرنامج تمويل بقيمة 3.2 مليار دولار من صندوق النقد الدولي الصيف الماضي، بينما يرجع جزئيا بحسب ما قاله مسؤولون في أحاديث خاصة إلى الكرامة الوطنية. وقال وزير المالية في ذلك الوقت، إن المجلس العسكري الحاكم في مصر لا يريد مراكمة الدين.

لكن التراجع الحاد في الاحتياطات أدى إلى إعادة النظر، فقال وزير المالية حازم الببلاوي هذا الأسبوع، إن مصر ستطلب رسميا من صندوق النقد البدء في التفاوض على برنامج يشبه الذي رفضته من قبل. وأشار الصندوق إلى أنه لن يفرض شروطا مشددة على القروض.

ولدى الحكومات الغنية في الخليج وفي المجتمع الدولي بشكل عام دوافع سياسية قوية للمحافظة على الاستقرار في مصر، فقد تلقت البلاد من حيث المبدأ عروض مساعدات تفوق قيمتها الإجمالية عشرة مليارات دولار من قطر والسعودية والإمارات العربية المتحدة ومصادر أخرى، لكن التدفقات الفعلية للمساعدات تصل ببطء فيما يرجع جزئيا بحسب تكهنات المحللين للتوترات السياسية بين الحكومات في مصر ودول الخليج. وتلقت مصر حتى الآن مليار دولار لدعم الميزانية من السعودية وقطر، وقالت الإمارات الشهر الماضي، إنها تعتزم تقديم ثلاثة مليارات دولار، لكنها ما زالت تناقش آليات التسليم.

ومن ناحية أخرى، قد تحد أزمة الديون في منطقة اليورو وتباطؤ الاقتصاد العالمي من قدرة الصندوق والدول الغربية على مساعدة القاهرة. كما أن إراقة الدماء في مصر أو تأجيل الانتخابات قد يجعل من الصعب على الغرب من الناحية السياسية مساعدة الحكومة المصرية. وقال أنجوس بلير مدير البحوث في «بلتون فايننشال» في القاهرة، إن هناك بعض العوامل الإيجابية في مصر، منها إيرادات قناة السويس وأعداد السياح وتحويلات العاملين بالخارج ساعدت البلاد كثيرا في ظل هذه الظروف. لكنه قال إن الدولة مهددة على عدة جبهات، منها ارتفاع أسعار الغذاء وعجز الميزانية وعجز الميزان التجاري وميزان المعاملات الجارية. وتابع بلير «من الصعب على مصر معالجة كل هذه القضايا في وقت واحد، لأنها في مناخ عالمي غير موات.. ليس لأن العالم لا يريد مساعدة مصر، لكن لأن هناك الكثير من المشكلات الأخرى في العالم التي يتعين علاجها الآن».

وأي تراجع حاد في قيمة العملة قد يرفع التضخم وهو أحد العوامل التي فجرت الاحتجاجات التي أطاحت بمبارك. وقال سوسة، إن البنك المركزي يبدو عازما على الدفاع عن العملة على الأقل حتى نهاية يناير، وهو الموعد المقرر لنهاية انتخابات مجلس الشعب. وقال بلير، إنه إذا استمرت الضغوط على الجنيه في التزايد قد تفرض السلطات قيودا على رأس المال، غير أن مسؤولين نفوا أي نية لذلك. وإذا لم ينجح ذلك قد تضطر مصر لترك الجنيه يتهاوى. ويتوقع «سيتي غروب» أن ينخفض الجنيه ما بين 20 و25 في المائة في 2012.

وسعى البنك المركز المصري للدفاع عن العملة خلال الاضطرابات التي بدأت قبل نحو تسعة أشهر منذ الإطاحة بالرئيس السابق حسني مبارك، لكن متعاملين يقولون حاليا إن الجنيه يمكن أن ينزل قريبا عن حاجز ستة جنيهات للدولار مع بحث المستثمرين عن ملاذ آمن. وأضافوا أن الطلب على الدولار من جانب الشركات المحلية والأفراد زاد في ظل الاشتباكات بالشوارع بين الشرطة ومحتجين والتي خلفت 36 قتيلا منذ يوم السبت. ومن المقرر بدء المرحلة الأولى من الانتخابات البرلمانية في 28 نوفمبر (تشرين الثاني) الحالي. وقال متعامل مقيم في القاهرة «يواجه الجنيه ضغطا كبيرا بسبب الاضطرابات السياسية. لا يزال البنك المركزي حتى الآن يدافع عن الجنيه لكنني أسأل نفسي.. إلى أي مدى وبأي تكلفة.. ستكشف الأيام والأسابيع القادمة الإجابة». ولامس الجنيه مستوى 5.992 مقابل الدولار، مقارنة مع 5.8 قبل الانتفاضة الشعبية في يناير (كانون الثاني) ضد مبارك. وهوت الاحتياطيات الأجنبية للبنك المركزي إلى 22.1 مليار دولار في الشهر الماضي من 36 مليار دولار في يناير (كانون الثاني).

وفي سوق المال انخفض المؤشر الرئيسي للبورصة المصرية «إي جي إكس» بنسبة 4.77 في المائة عند الإغلاق بعد ظهر أمس على خلفية التظاهرات في ميدان التحرير وحالة عدم الاستقرار السياسي التي تشهدها البلاد. ويعد هذا أدني مستوى للمؤشر منذ الأول من مارس (آذار) 2009.

وكانت إدارة البورصة المصرية قد قررت تعليق التداول بعد ظهر الثلاثاء لمدة ساعة للحد من عمليات البيع العشوائي. وقال وليد عابدين، المحلل المالي، إن «معظم الأسهم القيادية هوت بالحد الأقصى المسموح به تحت ضغط البيع المكثف من قبل صناديق الاستثمار الأجنبية». وفقد رأس المال السوقي للبورصة المصرية أكثر من ملياري دولار أمس لترتفع محصلة الخسائر لأكثر من خمسة مليارات دولار خلال الأيام الثلاثة الأخيرة بسبب عدم الاستقرار السياسي.

واحتشد عشرات الآلاف من المصريين عصر أمس في ميدان التحرير لمطالبة المجلس الأعلى للقوات المسلحة بتسليم الحكم إلى سلطة مدنية فورا. وأعلنت وزارة الصحة بعد ظهر الثلاثاء ارتفاع عدد ضحايا المواجهات بين الشرطة والمتظاهرين إلى 28 قتيلا إضافة إلى مئات الجرحى.