حي المال البريطاني ينتعش وسط محيط اقتصادي مضطرب

ثبات الإسترليني وعراقة لندن جذبت مليارديرات العالم الفارين من جحيم اليورو وتذبذب الدولار

جانب من حي المال في لندن
TT

ينتعش حي المال في لندن وسط محيط مضطرب ماليا واقتصاديا في أوروبا وأميركا والكثير من أجزاء العالم. وبالتالي فإن حي المال البريطاني الذي يسهم بدرجة كبيرة في التوظيف ومد الخزينة البريطانية بالدخل، يحكي قصة دولة داخل دولة. فبينما يعاني الاقتصاد البريطاني أزمة في النمو وترتفع فيه معدلات البطالة، ينتعش حي المال البريطاني وتزداد فيه الحاجة إلى الخبرات المالية والقانونية والمحاسبية. ويحدث هذا الانتعاش بسبب تدفق أثرياء العالم الهاربين من جحيم اليورو وتذبذب الدولار والمطاردات الدولية لسويسرا والإجراءات التي تبنتها أخيرا لوضع حد أدنى للفرنك السويسري، إلى لندن التي تتميز عملتها بالاستقرار وتمتاز عقاراتها التجارية والسكنية بمستويات ذهبية من حيث الارتفاع أو على الأقل حفظ القيمة الاستثمارية، مقارنة بالمراكز التجارية الأخرى في أوروبا وأميركا. في هذا الصدد يقول المصرفي والمحامي الأميركي لويد شولتز بحي المال البريطاني لـ« الشرق الأوسط» إن جاذبية لندن كمركز عالمي للمال والتجارة تنبع من أنها مدينة مالية عريقة توجد بها مؤسسات مالية كبرى تعد ملتقى للعلاقات في صناعة الصفقات، كما تتوفر بها شبكة عالية الخبرة في مجالات الخدمات المالية، كما تتميز على المراكز المالية الأخرى بوجود مدارس خاصة عالية التأهيل مقارنة بالمراكز المالية العالمية الأخرى. ولكن شولتز المدير التنفيذي والشريك بشركة «إيميرجنغ غروث إنفستمنت بارتنرز» نبه على ضرورة أن تعمل مدينة لندن على المحافظة على هذا الموقع عبر إجراء تحديث على البنية الأساسية وتسهيل الإجراءات للمستثمرين الأجانب وخفض معدل الضرائب.

وحسب التقرير الذي كتبه البروفسور كولن ليزيري من جامعة كمبردج البريطانية لصالح شركة «ديفلوبمنت سيكيورتيز» وصدر قبل يومين فإن حجم الأموال التي توظف في حي المال بلندن ارتفع إلى 4.1 تريليون جنيه إسترليني (نحو 6.5 تريليون دولار)، كما أن حي المال يشارك بحصة 18% من ترتيبات القروض العالمية البينية «عبر الدول»، كما تستوطن في حي المال 19% من أصول صناديق التحوط وسوق الأسهم الخاصة في أوروبا. ووفقا للدراسة ارتفع دخل التأمين الصافي في حي المال إلى 200 مليار جنيه إسترليني (300 مليار دولار). وتعد لندن المركز المالي الأول في أوروبا والمركز المالي الثاني في العالم بعد نيويورك. وتشير إحصائيات صدرت عن «سيتي أوف لندن» شهر يوليو (تموز) الماضي وحصلت «الشرق الأوسط» على نسخة منها أن صناديق الاستثمار العالمية المتواجدة في لندن تدير 11% من الأموال العالمية الموظفة استثماريا. وتستضيف لندن 3 بورصات لتجارة مشتقات السلع من بينها بورصة البترول وبورصة الذهب والمعادن. وتنفذ هذه البورصات 15% من صفقات السلع العالمية. كما تعد لندن من أكبر أسواق التأمين وإعادة التأمين، حيث تستضيف أكبر وأعرق شركة تأمين في العالم وهي شركة «لويدز أوف لندن». وتتخصص لندن في تجارة تأمين السفن وتمويل صفقات شراء الأساطيل التجارية، إضافة إلى تخصصها في الخدمات المالية والقانونية والمحاسبية ومحاكم النزاعات التجارية.

ولاحظ البروفسور كولن ليزيري في الدراسة أن قطاع الخدمات المالية وحده جذب استثمارات مالية قدرها 36 مليار جنيه إسترليني (نحو 55 مليار دولار) منذ الأزمة المالية العالمية وحتى نهاية عام 2010. وخلافا للمخاوف التي أبداها المستثمرون البريطانيون وأصحاب الأعمال التجارية خلال الأعوام التي تلت أزمة المال من هروب المستثمرين الأجانب من حي المال البريطاني إلى مراكز تجارية عالمية أخرى، فإن الدراسة لاحظت تدفق أموال الأثرياء من أنحاء العالم إلى لندن، خاصة من الصين والشرق الأقصى والولايات المتحدة وأوروبا ودول الخليج وأثرياء الشرق الأوسط. وعن أسباب تدفق الأثرياء إلى لندن قال المصرفي شولتز «في زمان الاضطراب المالي يلجأ أصحاب الثروات إلى المراكز المالية التي تحفظ قيمة ثرواتهم ولو بتحقيق ربح بسيط بدلا من المخاطرة بضياعها في المراكز المالية التي تعيش الاضطراب.. ولندن تحقق ذلك». وبالتالي فإن عدم الاستقرار النقدي والاضطراب الشديد في أسواق المال العالمية، خاصة في أوروبا التي تعيش فترة شكوك عميقة حول مستقبل اليورو ومخاوف تآكل الأصول في أميركا التي تعمل على خفض سعر صرف الدولار تعد من العوامل الرئيسية التي جذبت أصحاب الثروات إلى لندن.

وذكرت الدراسة الصادرة عن شركة «ديفلوبمنت سيكيورتيز» البريطانية أن ملكية الأجانب في مكاتب لندن بحي المال ارتفعت من 8% في عام 1980 إلى 50% في عام 2010 إلى 52% في عام 2011. وحسب الدراسة، خلال الثلاث سنوات الماضية، ارتفعت حصة المستثمرين الأجانب من صفقات المكاتب التي نفذت في لندن إلى 66% من حيث القيمة. وتركزت هذه الصفقات في مكاتب حي المال والمواقع الاستراتيجية في لندن. واستفاد المستثمرون الأجانب من انخفاض الأسعار في هذه الفترة وكذلك من حاجة المصارف الأوروبية وعلى رأسها المصارف الآيرلندية للسيولة النقدية، مما دفعها لبيع الكثير من أصولها العقارية التي اشترتها في فترة الازدهار التي سبقت الأزمة المالية. وكانت المصارف الآيرلندية التي شارفت على الإفلاس، لولا تدخل المفوضية الأوروبية وصندوق النقد الدولي لإنقاذها وإنقاذ اقتصاد آيرلندا، قد أجبرت على تسييل الكثير من استثماراتها العقارية الذهبية في حي المال البريطاني وفي المواقع الاستراتيجية وسط وغرب لندن.

وحسب الدراسة فإن قيمة العقارات في لندن انخفضت بنسبة 50% بين عامي 2007 و2009 كما انخفضت بمعدل 37% في عام 2010، مقارنة بمستوياتها قبل أزمة المال العالمية، وهو الأمر الذي أغرى أصحاب المال الأجانب بالاستثمار فيها، إضافة إلى ثبات الإسترليني وتذبذبه في حاجز ضيق «بين 165 و150 مقابل الدولار» مقارنة بمعدل التذبذب العالي للعملات الرئيسية. وهنالك الكثير من الصفقات العقارية التي وقعها أثرياء أجانب هذا العام بعضها سكنية ولكن أغلبها عقارات تجارية وهنالك صفقات تحت التفاوض تفوق قيمتها مليار دولار في لندن حسب ما علمت «الشرق الأوسط».

ففي الأسبوع الماضي قالت مصادر عقارية إن الملياردير الجنوب أفريقي ناثان كيرش الذي يملك مجموعة «كيرش غروب» يجري محادثات لشراء ناطحة السحاب «تاور 42» في حي المال التي تعد أول ناطحة سحاب في لندن. وقالت المصادر إن المبلغ المطلوب 280 مليون جنيه إسترليني (نحو 438 مليون دولار). ومن بين الصفقات التي نفذت خلال العام الجاري، الصفقة التي نفذها الملياردير جوزيف لو من هونغ كونغ لشراء جزء من مبنى مجموعة «غولدمان ساكس» المصرفية الأميركية. كما اشترى المليارديران، خون هونغ ومارتوا سيتورس من سنغافورة مبنى أفيفا في حي المال مقابل 288 مليون جنيه إسترليني (قرابة 440 مليون دولار). وبلغ سعر بنايات المكاتب التي اشتراها المستثمرون الأجانب بين أعوام 2008 و2011، نحو 91 مليون جنيه إسترليني (142 مليون دولار) في المتوسط للبناية الواحدة، فيما بلغ السعر المتوسط للبنايات التي اشتراها المستثمرون البريطانيون في نفس الفترة 27 مليون جنيه إسترليني (نحو 40 مليون دولار).

ولاحظت الدراسة أن المستثمرين الأثرياء الألمان احتلوا المرتبة الأولى من بين الأجانب الذين استثمروا في المكاتب التجارية بحي المال، حيث بلغت حصة مشترياتهم 16%، تلاهم المستثمرون الأميركيون بنسبة 10%، حيث ارتفعت حصة تملكهم من المكاتب من 8% إلى 10% ثم تلاهم المستثمرون من منطقة الشرق الأوسط الذين ارتفعت مشترياتهم إلى 6%.