الأزمة الأوروبية تزيد من القيود الائتمانية حول العالم

أدت إلى تقليص الإقراض لشركات تمتد من برلين إلى بكين

TT

تجاوزت أزمة الديون الأوروبية التي ما زالت تراوح مكانها حدود المصارف الأوروبية وباتت تهدد الشركات في أوروبا وخارجها. وتشعر كل الشركات، من الخطوط الجوية العالمية وشركات الشحن العملاقة إلى صغار المستثمرين، بالتوتر في ظل عزوف المصارف الأوروبية عن منح قروض في محاولة لتوفير رأس المال ودعم الميزانيات. النتيجة هي تقييد الإقراض لشركات تمتد من برلين إلى بكين مما يدفع بالاقتصاد العالمي إلى مستنقع آخر. ودفع الموقف المتدهور في منطقة اليورو منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية يوم الاثنين إلى توقع نمو الاقتصاد الأميركي بنسبة 2 في المائة العام المقبل، خلافا لتوقعاتها الماضية بتحقيق الولايات المتحدة نموا اقتصاديا قدره 3.1 في المائة في مايو (أيار). كذلك خفضت من سقف توقعاتها بشأن اقتصاد أوروبا وباقي أنحاء العالم، وتوقعت أن يزيد تراجع منح القروض من تباطؤ الاقتصاد، فضلا عن ذلك، توقعت وكالة «موديز إنفيستورز سيرفيس» للتصنيف الائتماني، يوم الاثنين، زيادة في احتمال خفض التصنيف الائتماني للكثير من الدول الأوروبية إن لم يتم التوصل إلى قرار حاسم يحول دون تفاقم الأزمة. وقد بدأ المستثمرون يتعاملون مع المصارف الأوروبية الكبرى باعتبارها الحلقة الأضعف في السلسلة المالية العالمية بسبب ما يمتلكونه من سندات صادرة من حكومات تنوء بحمل الديون مثل إيطاليا وإسبانيا. وتغلق سوق المال الأميركية صنبور المال الذي تقرضه للمصارف الأوروبية، مما دفعها إلى زيادة القيود الائتمانية وسحب التمويل لعملاء قدامى في بعض الحالات. ما يزيد الأمور سوءا ضغط المنظمين على المؤسسات المالية لامتلاك رأسمال أكبر مقابل كل دولار يقرضونه، مما دفع الكثير من المصارف إلى تقليل ما يمنحونه من قروض. ويقول محللون إن المصارف الأوروبية يمكن أن تقرض حتى 3 تريليونات يورو على مدى الأعوام القليلة الماضية، بما يعادل 10 في المائة من إجمالي ما لديها من أصول. وقال أليكس رويفر، المحلل الباحث في الدخول الثابتة في «جي بي مورغان تشيس»: «سوف يؤدي عزوف المصارف الكبرى عن منح قروض إلى عرقلة التنمية الاقتصادية، وسيساهم في حدوث ركود». تعتمد الخطوط الجوية الفرنسية على سبيل المثال على مصارف فرنسية مثل «بي إن بي باريبا» و«سوسيتيه جنرال» للمساعدة في تمويل نحو 15 في المائة من إنفاقها على شراء الطائرات. وتتراجع هذه المصارف حاليا عن منح الخطوط الجوية الفرنسية قروضا لتحافظ على رأسمالها. ويقول مسؤولون في الخطوط الجوية الفرنسية إن الشركة بدأت تقيم علاقات مع مصارف صينية ويابانية لم تواجه الضغوط نفسها التي واجهتها المصارف في دول منطقة اليورو للمساعدة في تعويض تراجع نشاط تلك المصارف. ويلجأ مسؤولون تنفيذيون في الخطوط الجوية الإماراتية ومقرها في دبي إلى الأنظمة المالية الإسلامية، وكذلك إلى مؤسسات في الأسواق الناشئة لمساعدتها في شراء أسطولها الجديد نظرا لامتناع المصارف الأوروبية عن منحها قروضا. وأصدرت الخطوط الجوية الإماراتية أوامر شراء لـ243 طائرة تقدر قيمتها بـ84 مليار دولار من «إير باص» و«بوينغ» وشركات أخرى مصنعة للطائرات. وصرح تيم كلارك، رئيس الخطوط الجوية الإماراتية لوكالة «رويترز»: «كنا نعتمد على مصارف أوروبية في التمويل، لكن بات هذا عسيرا في الوقت الحاضر». يمكن أن يؤدي الفشل في الحصول على تمويل إلى زيادة فقدان الوظائف في الولايات المتحدة وأميركا اللاتينية وأماكن أخرى.

وحذرت شركة «بوينغ» المصنعة للطائرات مؤخرا من أن يؤثر تراجع المصارف الأوروبية عن الإقراض على عملها العام المقبل. وقال المتحدث باسم الشركة، جون كفاسنوسكي: «في ظل خروج بعض المصارف الأوروبية عن المشهد، يجب أن يكون هناك فرق بسبب مصادر أخرى إذا تم تسليم الطائرات، التي من المتوقع أن تشهد مبيعاتها زيادة عام 2012، كما هو مخطط». وقللت شركة «إمبراير» البرازيلية للطائرات من توقعات نموها رغم تزايد مبيعات الطائرات التجارية والخاصة خلال الربع الثالث من السنة. وقال فريدريكو كورادو، الرئيس التنفيذي لشركة «إمبراير»، في مكالمة جماعية مع مستثمرين بداية نوفمبر (تشرين الثاني): «لقد جمّد الوضع في أوروبا مرة أخرى التعافي مرة أخرى. نرى أن العالم سيشهد نموا متوسطا». ولم يتضح بعد ما إذا كان من الممكن تحقيق هذا النمو. وحذرت وكالة «موديز» من تزايد احتمالات تخلف أكثر من دولة في منطقة اليورو عن سداد ديونها. ورغم التحذير وضع المستثمرون مخاوفهم جانبا وزادوا من حصتهم في الديون بنحو 3 في المائة يوم الاثنين في نيويورك.

مع ذلك لا يزال المستثمرون مترددين بشأن السندات الحكومية. وأثار مزاد تقليدي في ألمانيا الأسبوع الماضي القلق، حيث يُنظر إلى الاقتصاد الألماني باعتباره دعامة أوروبا. وأدى ضعف الطلب على السندات الحكومية في إيطاليا إلى عودة العائدات إلى تجاوز السبعة في المائة، وهو الحد الحرج، حيث دفع حكومات مدينة أخرى إلى طلب خطط إنقاذ. وتترجم المصارف الأوروبية ارتفاع أسعار الفائدة على الديون الحكومية إلى تكاليف اقتراض أكبر. وينطبق هذا على الشركات والمستهلكين الذين يحتاجون إلى قروض.

على الجانب الآخر، ترتفع أسعار الفائدة في هذه المصارف بسبب قلة العرض على الدولار، وهو العملة التي تقرض بها. لذا تفرض المصارف المزيد من القيود على القروض وتضيق على مؤسسات مثل شركات طيران وشركات شحن ومؤسسات مصدرة للنفط ومؤسسات تعمل في مجال المعدن والغذاء، وهي قطاعات ضرورية لضمان صحة الاقتصاد العالمي. وقال ديرك شوماخر، أحد كبار خبراء الاقتصاد الأوروبيين في «غولدمان ساكس»: «القيود تزداد وكذلك التوتر. سوف تصبح شروط الإقراض للمؤسسات أصعب». من المؤشرات الدالة على هذا التوتر هو انسحاب المصارف الأوروبية بهدوء من تمويل مشروعات البنية التحتية الكبيرة مثل محطات الكهرباء والمياه، خصوصا في الشرق الأوسط. وتمكّن مشروع «برزان» للغاز في قطر، الذي تقدر تكلفته بـ10 مليارات دولار من الحصول على تمويل من 31 مصرفا خلال الشهر الحالي، لكن ليس من بينها ثلاثة من أكبر المصارف الفرنسية، وهي «بي إن بي باريبا» و«سوسيتيه جنرال» و«ناتيكسيس». وقال خالد هاولدار، محلل في وكالة «موديز»: «إن تلك المصارف عادة ما تتسم بالنشاط، وما حدث يدل على تراجع المصارف الأوروبية عن الإقراض».

ولم تستطع شركات شحن كبيرة الحصول على الكثير من القروض، بينما كانت أكبر المصارف الأوروبية في الماضي تصارع من أجل منح قروض بشروط ميسرة. وفي الوقت الذي تنخفض فيه أسعار الشحن في ظل تباطؤ اقتصادي عالمي، تزيد هذه المصارف من قيودها على القروض. وأوضحت شركة «فرانت لاين لميتيد» العملاقة لنقل النفط أنها تقدمت الأسبوع الماضي للحصول على قروض لبناء اثنتين من 7 حاويات كانت تعتزم بناءها. لا يؤثر هذا الوضع الاقتصادي الناتج عن التراجع الاقتصادي العالمي فقط على العاملين في بناء وصيانة السفن، بل أيضا على مئات المؤسسات التي تورد قطع غيار ومواد خام. في ألمانيا على سبيل المثال فقد أكثر من 5 آلاف شخص وظائفهم في مواني كبيرة مثل ميناء هامبورغ وكيل وروستوك، بحسب إحدى جماعات المصالح التجارية المحلية. وتحاول شركات صغيرة جاهدة الحصول على قروض. وفي آيرلندا، أوضح استطلاع رأي أجرته مؤسسة «سمال أند ميديوم إنربرايسيز أسوسيشين» رفض طلبات 58 في المائة من الشركات للحصول على قروض من مصارف. وقال مارك فيلدينغ، الرئيس التنفيذي للمؤسسة: «لدينا الكثير من الشركات ذات الوضع الجيد، لكن المصارف ترفض منحهم قروضا قصيرة الأجل».

يعبّر قادة دول أوروبا الشرقية، التي قللت المصارف الغربية تعاملاتها معها، عن قلقهم، حيث اتهم رئيس رومانيا ترايان باسيسكو المنظمين النمساويين بـ«خنق الاقتصاد الروماني» بعد إصدار أوامر للمصارف بتحديد عمليات الإقراض خارج النمسا. وتوقف بناء مراكز تسوق جديدة ومنشآت أخرى في المجر. وقالت نورا ديميتر، مهندسة معمارية في بودابست، إن شركتها التي يعمل بها 20 شخصا اضطرت إلى تسريح جزء منهم، ومن المحتمل أن تلجأ إلى المزيد من الإجراءات لخفض النفقات. وأضافت: «لقد انتهت أي فرصة لإقامة مشروع كبير في هذا البلد. ويبدو العام القادم أكثر قتامة». ولم تنجُ الشركات البعيدة مثل تلك التي في الصين من تأثير التباطؤ الاقتصادي الأوروبي. وأشار جاكي تسو، مدير المبيعات في شركة «يونغ كانغ وانيوا إنداستري أند تريد» في شرق الصين، إلى تراجع طلبات شراء السكوتر وألواح التزلج وألعاب الأطفال الأخرى من أوروبا بنسبة تتراوح بين 20 إلى 30 في المائة خلال الخريف الحالي مقارنة بالعام الماضي. ومنذ عدة أشهر امتنعت هذه الشركة عن قبول خطابات ائتمان من مصارف يونانية، مما أجبر تجار تجزئة يونانيين على دفع مبلغ نقدي كمقدم يمثل 30 في المائة من قيمة الطلب. ومن المحتمل أن يزيد هذا الإجراء الوضع سوءا. وقال: «لقد انخفض عدد أوامر الشراء من أوروبا».

* شارك في إعداد التقرير جاك يوينغ وكيث برادشير وستيفن كاسل وسارة هامدان.

* خدمة «نيويورك تايمز»