مع هروب الأموال من روسيا.. الأثرياء يمرون بأوقات عصيبة

فيها 101 ملياردير بعضهم مسجونون

امرأة تمر بجانب لوحة دعائية للملياردير الروسي ميخائيل بروخورف (يسار)، الذي أعلن ترشحه للانتخابات الرئاسية لمنافسة رئيس الحكومة الروسي فلاديمير بوتين (يمين) (أ.ب)
TT

كان نيكولاي ماكسيموف، أحد أغنى الرجال في روسيا، يجلس في زنزانة أحد السجون في «أورال ماونتنز».

ووسط الظلام، شاهد ماكسيموف زميله في الزنزانة - رجل يقول إنه بدا مصابا بمرض السل، أحد الأمراض الشائعة داخل السجون الروسية. «أتاني شعور بأنه تم إيداعي في تلك الزنزانة عن عمد»، هكذا يسترجع ماكسيموف الذي تم إطلاقه سراحه الآن بكفالة.

ليس ماكسيموف، الذي ألقي القبض عليه في فبراير (شباط) بتهمة اختلاس مئات المليارات من الدولارات، هو القطب الروسي الوحيد الذي يقع في مأزق من هذا النوع. فمن بين الستة رجال الذين تصدروا قائمة «فوربس» لأغنى أغنياء العالم خلال العقد الماضي، ميخائيل بي خوردوركوفسكي، المودع بالسجن، وبوريس إيه بيريزوفسكي، الذي تم نفيه. وقد تمت تبرئتهما، مثل ماكسيموف.

وحتى قبل أن تتخذ السلطات إجراء الأسبوع الماضي لقمع الاحتجاجات ضد الحكومة ورئيس الوزراء فلاديمير بوتين، كانت ثورة غضب أثرياء روسيا تشتعل. وتظهر أدلة تشير إلى تدهور الظروف على نحو لا يسمح لهم بالاحتفاظ بثرواتهم الطائلة واستثمارها - وفيما ربما يسعد هذا التطور عامة الشعب، إلا أنه يمثل تهديدا اقتصاديا.

إن عمليات الخصخصة التي تمت ما بعد سقوط النظام السوفياتي قد حولت ملكية المصانع الحكومية إلى زمرة من رجال الأعمال الذين تربطهم علاقات جيدة - أو وهم من يعرفون - بالطبقة الأوليجاركية أو الأقلية الأرستقراطية الغنية. وكنتيجة، في روسيا 101 ملياردير، متأخرة فقط عن الصين، التي تضم 115 ملياردير، والولايات المتحدة، التي تضم 412 مليارديرا، بحسب مجلة «فوربس».

والآن فقط، ظهرت على السطح من جديد مشكلة هجرة رؤوس الأموال، تلك المشكلة التي كانت سائدة في تسعينات القرن الماضي. فالأموال تغادر روسيا بمعدل أسرع من ورودها إليها. ومن المتوقع أن يصل صافي قيمة رؤوس الأموال الهاربة إلى الخارج إلى 70 مليار دولار بنهاية العام، كما تشير الأرقام إلى أن معظمها سيكون من مستثمرين كبار.

ويشير ياروسلاف ليسوفوليك، كبير الاقتصاديين ببنك «دويتشه بنك» في روسيا، إلى أن: «معدل هروب رؤوس الأموال قد فاق ارتفاع أسعار النفط».

وحتى إذا ما تم الحفاظ على إنتاج النفط وبقيت أسعار النفط الخام مرتفعة نسبيا، بحسب تقديرات وزارة المالية الروسية، فمن المتوقع أن يحدث عجز في الحساب الجاري للدولة بحلول عام 2014. وحينها، سيعتمد اقتصاد روسيا، مثل اقتصاد الولايات المتحدة، على تدفق الاستثمارات، بحسب اقتصاديين.

وقد حققت الحكومة الروسية مؤخرا مكاسب متواضعة من خلال جذب الاستثمارات الأجنبية. وتكمن المشكلة في أنه بالنسبة لكل شركة أجنبية تستثمر - بدءا من «إكسون» بمنطقة القطب الشمالي التابعة لروسيا إلى «سيسكو سيستمز» في متنزه معتمد على التكنولوجيا الفائقة خارج موسكو - يتجه المزيد من رجال الأعمال الروس الرواد إلى مغادرة روسيا، معتبرين أن مخاطر الاستثمار داخل روسيا كبيرة للغاية.

ويدرك المسؤولون أن النفط يمكن أن ينقذ روسيا في الوقت الراهن ومتلهفون على جذب استثمارات من جميع الجهات. ويقول كليمنز غراف، كبير الاقتصاديين في «غولدمان ساكس»: «الشيء المدهش هو أنهم يحققون نتائج أفضل عند عملهم مع مستثمرين أجانب مما هي الحال عند عملهم مع مستثمرين محليين».

من الصعب إدراك الدور الكبير الذي لعبته قضايا مثل قضية ماكسيموف. ماكسيموف، البالغ من العمر 54 عاما، لاذع في انتقاده للسلطات. وثمة إيحاء بأن خصومه من رجال الأعمال وظفوا الشرطة في محاولة إقناعه بفض نزاع.

«كنت ضمن قائمة (فوربس)؛ أما الآن، فسأسجن. إنه أمر معتاد. هذه هي روسيا».

بدأت مشكلاته قبل ثلاثة أعوام، حينما أقام دعوى ضد فلاديمير ليسين، عملاق صناعة الحديد والصلب، مثيرا نزاعا أدى في النهاية إلى إلقاء القبض على ماكسيموف.

كان الاثنان قد أبرما صفقة، يقوم بموجبها ليسين بشراء حصة نسبتها 50 في المائة من شركة «ماكسي غروب» التي يملكها ماكسيموف. وقد قدرت قيمة رأس مال شركة «ماكسي» في ذلك الوقت بـ1.2 مليار دولار بعد خصم الديون. ودفعت شركة ليسين، التي تحمل اسم «نوفوليبتسك»، لماكسيموف مقدما قيمته 317 مليون دولار. وكان عليها أن تدفع المبلغ المتبقي بعد قيام مراجع حسابات خارجي بتقدير حجم ديون الشركة، خلال 90 يوما.

ورفض المسؤولون التنفيذيون بشركة «نوفوليبتسك» السداد. وفي مقابلة أجريت بمقر الشركة هنا، اتهم محامو «نوفوليبتسك» ماكسيموف بتحويل مبالغ ضخمة من الحساب المصرفي لشركة «ماكسي غروب» إلى حساب صديقته. وأنكر ماكسيموف هذا الاتهام، مؤكدا أنه كان يقوم بشراء الأسهم التي تملكها صديقته، وشريكته أيضا، في أفرع الشركة.

أيا كان الحال، فقد كان من المفترض تسوية تلك النزاعات من قبل هيئة تحكيم دولية بموجب شروط الاتفاق. وفي فبراير (شباط)، شعر ماكسيموف أنه على وشك الفوز. قال إنه قد رفض مناقشات غير رسمية حول تسوية قيمتها 100 مليون دولار وإنه كان ينتظر الحصول على المبلغ بأكمله وقيمته 287 مليون دولار. وعقد مؤتمرا صحافيا في فندق ماريوت في وسط موسكو يوم 14 فبراير.

وإلى جانب وسائل الإعلام، ظهر أيضا رجال يحملون مدافع كلاشنكوف.

يقول ماكسيموف: «روسيا دائما شيقة». تم إحضاره من الفندق على مرأى من الصحافيين ووسائل الإعلام. وسرعان ما تم تقييده بأحد الكراسي في قسم شرطة قذر يقع عند أطراف المدينة.

بشكل رسمي، ألقي القبض عليه بموجب تهم تتعلق بدفع مبالغ ضخمة لصديقته، والتي أعيد سدادها إلى شركة «ماكسي غروب». غير أن ماكسيموف يقول إن المحقق تناقش معه أيضا حول تسوية النزاع مع شركة «نوفوليبتسك». ومثلما يسترجع ماكسيموف، جلس المحقق على طرف الطاولة أثناء توجيه الأسئلة وسأله: «لقد منحت مبلغا قيمته 100 مليون دولار. لماذا لم تأخذه؟».

ويقول ماكسيموف إنه تم اصطحابه بعد ذلك إلى المطار لإقلاله إلى أحد السجون في يكاترينبرغ في أورال ماونتنز. وأثناء انتظار إقلاع الطائرة، تم حثه مجددا على إبرام صفقة مع «نوفوليبتسك».

ويقول إنهم حدثوه قائلين: «لن يروق لك السجناء. إنهم ليسوا من شاكلتك». وقال أنتون بازوليف، مدير العلاقات الخارجية بشركة «نوفوليبتسك»، في مقابلة إنه لم يقدم مطلقا عرض تسوية لماكسيموف وأنكر قيامه بتنسيق عملية القبض عليه. وقال بازوليف إن «نوفوليبتسك» قدمت أدلة للشرطة على عملية خداع محتملة وإنها كانت مجبرة على القيام بذلك بموجب القانون الروسي بوصفها شركة مساهمة عامة.

وبعد خمسة أيام من القبض عليه، أطلق سراح ماكسيموف بكفالة. وبعد شهر، في مارس (آذار)، منحته هيئة تحكيم في المنازعات التجارية الدولية في موسكو مبلغا قيمته 287 مليون دولار في حكم نهائي وغير قابل للاستئناف، بموجب شروط الغرفة التجارية.

وحينما وصلت الرأسمالية والديمقراطية إلى روسيا في مطلع التسعينات من القرن العشرين، اعتقد كثير من الناس أن الطبقة الصناعية الجديدة ستصبح عماد الدولة، بحيث تحل محل الحزب الشيوعي والجيش الأحمر وجهاز الاستخبارات السوفياتي السابق (كي جي بي). غير أنه في ظل نظام بوتين، خبير جهاز الاستخبارات السوفياتي السابق، ظهرت أجهزة الأمن كقوة مؤثرة في المجتمع وفي مجال الأعمال التجارية. وتشير الدعاية الانتخابية المتواضعة التي نظمت يوم الأحد الماضي لحزبه «يونايتد رشا» إلى أن بعض الناخبين الروس غير متحمسين لبوتين، الذي يعتزم إطلاق حملته الانتخابية التي ستمتد لثلاثة أشهر للعودة إلى منصب الرئيس مجددا.

وفي عام 2000، عندما خاض المعركة الانتخابية لشغل منصب الرئيس، تعهد بالقضاء على الأوليغاركيين - «كطبقة»، لكن ذلك لم يحدث. وفقد بعض من بدوا على خلاف مباشر معه، أمثال خودوركوفسكي، ثرواتهم.

لا يزال نظام المحسوبية، الذي تتداخل فيه الأجهزة الأمنية والشركات الكبرى، سائدا. في أحد الأمثلة الواضحة، اتهم صندوق تحوط يعرف باسم «هيرميتدج كابيتال»، الذي كان فيما مضى واحدة من أكبر شركات إدارة الأموال الأجنبية في روسيا، عشرات من ضباط الشرطة من المستويات المتوسطة ومسؤولين بهيئات فحص ضريبي وهيئات قضائية باستغلال مناصبهم في سرقة مبلغ قيمته 230 مليون دولار من خلال احتيال في عملية استرداد ضرائب مدفوعة بزيادة. وبعد إدلاء محامي الشركة، سيرغي إل ماغنيتسكي، بشهادته في القضية، تم سجنه لمدة 10 أشهر في زنزانة شديدة الرطوبة قبل أن توافيه المنية، حيث يشتبه في أن تكون وفاته جراء إصابته بأزمة قلبية أو بالتهاب البنكرياس.

وتقول شركة «نوفوليبتسك» إنها قاضت ماكسيموف بشأن الصفقة الفاشلة في 141 قضية منفصلة تنظر فيها المحاكم الروسية، حيث كسبت 90 قضية. ويعتبر مثل هذا الكم الهائل من جلسات الاستماع في القضايا شائعا في القانون التجاري الروسي، حيث عادة ما تجوب جميع الأطراف المعنية الهيئات القضائية المختلفة بحثا عن قضاة يتعاطفون معهم، من خلال إقامة دعاوى قضائية متماثلة في عشرات المحاكم.

* خدمة «نيويورك تايمز» ومن الجدير بالذكر أن محامي شركة «نوفوليبتسك» قد حصلوا على أحكام تقضي بأنه حتى إذا حدد أطراف التعاقد هيئة تحكيم لفض النزاعات، بإمكان المحاكم الروسية أن تطالب بحقها في نظر الدعوى، وهو إجراء يمكن أن يقلل الاستثمارات الأجنبية بالمثل. وقد رفضت المحاكم المدنية الروسية تفعيل حكم هيئة التحكيم.

وبعد صدور الحكم الإيجابي في مارس، نجح محامو ماكسيموف في تقديم التماسات إلى المحاكم في هولندا ولكسمبورغ وقبرص لتجميد أسهم في ستة مصانع حديد أوروبية. وقد تقدمت شركة «نوفوليبتسك» بالتماس بناء على أسس قضائية ونجحت في استصدار حكم ضده في أمستردام في نوفمبر (تشرين الثاني)، على الرغم من أن المحكمة تركت القيد الخاص بمنع بيع الأصول الأوروبية.

وقد وضع ماكسيموف ما تبقى من ثروته في شركة قابضة كائنة في بريطانيا.

وفي الوقت الذي هربت فيه أمواله من روسيا، فإنه لم يتضح بعد ما إذا كان سيهرب هو الآخر أم لا. إن الشرطة تحقق معه الآن في قضية احتيال منفصلة. ويزعمون أنه بسبب أن المحاكم الروسية لا تعترف بحكم هيئة التحكيم، فإن تقديم هذا الحكم، حتى إلى قاض أجنبي، يعد نوعا من الاحتيال - حتى إذا كانت هناك محكمة أوروبية تقبل سريان هذا الحكم.

«ننظر إلى هذا على أنه نوع من الابتزاز»، هكذا يتحدث فلاديمير ميلنيكوف، محام عن ماكسيموف. ويستكمل قائلا: «إذا تلقيت الأموال في هولندا، يزج بك في سجن في روسيا».