حتى العملاق الاقتصادي قد يتعلم الهروب

في أوقات المصاعب والأزمات

TT

لأنها تنجح باستمرار، بات الأمر مملا. لم تعد شركة «آي بي إم» تأتي بأي مفاجآت، حتى إن المحللين الماليين يعرفون «خريطة الطريق الخمسية» وكأنها خطة للدولة. مع ذلك خلف تقدم الشركة المستمر على مدى العقد الماضي توجد خطة لعب وإن كانت محافظة، حيث يقدر عمل الشركة بمليارات الدولارات. لقد اختارت هامش ربح أكبر من حجم الشركة، وتوسعت خارج البلاد، وسعت إلى زيادة المبيعات وموهبة التكلفة المنخفضة وردود الأفعال السريعة من المنظمات. مع ذلك لم يشعر المستثمرون بالملل، حيث ارتفعت أسعار الأسهم. في نوفمبر (تشرين الثاني)، صرح وارين بافيت، الذي ينأى بنفسه عن أسهم التكنولوجيا، بأن شركة «آي بي إم» تمكنت من مراكمة أسهم قدرها 10 مليارات دولار، وهي حصة تتجاوز نسبة الـ5 في المائة.

لم يكن كل هذا مصادفة. يعود الفضل إلى حد كبير لصامويل بالميسانو، الذي غادر منصبه كرئيس تنفيذي يوم الأحد بعد عشر سنوات من شغله له. خلال فترة عمله، كانت «آي بي إم» نموذجا لكيفية إحداث تغيير في شركة كبيرة، عندما ركزت أكثر الدراسات حول التجديد والابتكار في العمل على المبتدئين وأصحاب المشروعات الأخيرة. يقدم هذا المقال لمحة عن الفكر الذي يقف وراء الخطوات الكبرى التي اتخذتها شركة «آي بي إم» تحت قيادة بالميسانو، والتي أوضحها خلال مقابلتين معه، حيث يمكن الاسترشاد بتأكيده على ضرورة الإجابة عن أربعة أسئلة هي:

> لماذا على أحد أن ينفق أمواله لديك.. ما الذي يميزك؟

> ما الذي يدفع المرء نحو العمل لديك؟

> لماذا سيسمح لك أي مجتمع بالعمل به؟

> لماذا يستثمر أحدهم أمواله معك؟

لقد وضع بالميسانو هذه الأسئلة خلال الأشهر التي أعقبت توليه منصب الرئيس التنفيذي في مارس (آذار) 2002. وتمكن سلفه لويس غريستنر، الذي تولى المنصب عام 1993، من إنقاذ الشركة من الانهيار المالي من خلال تقليل حجم العمالة وخفض التكاليف، ثم قاد الشركة نحو التعافي. وأخبر بالميسانو زملاءه خلال اجتماعات أعقبت توليه المنصب بأن الشركة لا تزال في حالة جيدة، لكنها ليست مثالية مثلما كانت وقت إنشائها عام 1973. وأوضح أن الأسئلة الأربعة كانت طريقة لعدم تشتت التفكير واستنهاض الهمم حتى تعود الشركة مرة أخرى إلى سابق مجدها. لقد قدم أربعة أسئلة لتكون إطار مديري الشركة الثلاثمائة في بداية عام 2003 في مدينة بوكا راتون بولاية فلوريدا. ونقل عنه مسؤولون تنفيذيون قوله «ينبغي أن يكون هذا هو هدفنا.. وهو الإسهام في جعل الشركة عظيمة».

السعي نحو التميز في الإطار المكون من هذه الأبعاد الأربعة كان أساس الاستراتيجية. وكان التركيز على تقديم عمل فريد وتحقيق أرباح مرتفعة يعني الخروج من الأعمال ذات هامش الربح المحدود والتي في طريقها للزوال. وخلص تقييم تكنولوجيا «آي بي إم» على المدى الطويل عام 2002 إلى أن العمل في مجال الكومبيوتر لن يكون مجالا للتجديد على الأقل في سوق الشركات. وسوف ينتقل مركز التجديد والإبداع إلى الخدمات وبرامج الكومبيوتر التي عادة ما تقدمها مراكز البيانات على الإنترنت والتي تتصل بكل أنواع الأجهزة منها أجهزة الكومبيوتر الشخصية. ويسمى هذا المجال حاليا الحوسبة السحابية، بينما كانت شركة «آي بي إم» تطلق عليه منذ عدة سنوات «حوسبة تحت الطلب». بذلك تزعم بالميسانو مراجعة استراتيجية طويلة لمجال أجهزة الكومبيوتر الشخصية وقرر بيعها وهي لا تزال رابحة. وتقوم الحجة المناهضة لحركة البيع المكثفة داخل الشركة، حيث زادت مبيعات أجهزة الكومبيوتر عن منتجات الشركة الأخرى في حسابات الشركات، وسترتفع تكلفة الأجزاء الإلكترونية لأجهزة الكومبيوتر الضخمة لديها من دون القوة الشرائية لقسم الكومبيوتر، وسوف تدفع الشركة الثمن من قيمة العلامة التجارية لها ومن سمعتها إذا توقفت عن إنتاج أجهزة الكومبيوتر التي يستخدمها الملايين. انخرطت شركة «هوليت باكارد» مؤخرا في جدال مشابه، حيث كانت أول من صرحت بتطلعها للتوقف عن العمل في مجال أجهزة الكومبيوتر، ثم تراجعت. وقال بالميسانو «لقد سمعت كل الأطراف، لكن إذا قررت الدخول إلى منطقة جديدة تسمح بالتجديد والابتكار، يمكنك القيام بعمل فريد مميز وتحقيق التميز، ولن يكون مجال أجهزة الكومبيوتر هو ذاك المجال الذي أتحدث عنه».

عام 2004، تخلصت شركة «آي بي إم» من أجهزة الكومبيوتر لديها ببيعها إلى «لينوفو» الصينية. ويقول بالميسانو إنه تجنب بيعها لـ«ديل» أو الشركات المساهمة وفضل بيعها إلى شرطة في الصين لأسباب استراتيجية، وهي أن الحكومة الصينية تريد لشركاتها أن تتوسع عالميا ومن خلال مساعدتها على تحقيق هذا الهدف عززت الشركة وضعها في السوق الصينية المربحة، حيث لا تزال الحكومة تحكم سيطرتها على المجال. بوجه عام أجهزة الكومبيوتر والأقراص الصلبة والمكونات الأخرى التي باعها بالميسانو حققت له أرباحا قدرها 20 مليار دولار، وهي مبيعات عام كامل. وكانت تلك التصفية تعني أن شركة «آي بي إم» لم تعد أكبر شركة تعمل في مجال تكنولوجيا المعلومات في العالم. وحولت «هوليت باكارد» هذا التصريح إلى سياسة استراتيجية مختلفة تماما، حيث ضاعفت رهانها على أجهزة الكومبيوتر من خلال الاستحواذ على شركة «كومباك» عام 2001. وقال بالميسانو «لقد رأيت الاختيار وكيف يسير الاقتصاد».

وتقدر قيمة شركة «آي بي إم» في البورصة بـ217 مليار دولار، وهي أكبر من قيمة شركة «إتش بي» المتعثرة بأربعة أمثال. واستثمرت شركة «آي بي إم» بشكل كبير في مجال آخر، حيث اشترت شركة «برايس ووتر هاوس كوبرز» الاستشارية مقابل 3.5 مليار دولار عام 2002 بسبب خبرتها في بعض الصناعات. وكانت «آي بي إم» تركز على التحول من بيع أجهزة الكومبيوتر وبرامجه للعملاء إلى مساعدتهم في استخدام التكنولوجيا في حل التحديات في مجال التسويق والبيع للهيئات الحكومية والتصنيع.

وتغرق الشركات والحكومات في سيل من المعلومات الصادرة من الأنظمة الداخلية والإنترنت، وتحاول جاهدة فحصها والاستفادة منها. ولمواجهة هذا التحدي، أنفقت شركة «آي بي إم» أكثر من 14 مليار دولار منذ عام 2005 في شراء 25 شركة برامج كومبيوتر متخصصة في تعدين البيانات والتحليل، بحثا عن أنماط مفيدة من البيانات في مجالات متنوعة بتنوع العقاقير التي تعالج المرض الواحد وإدارة المرور البحث الجنائي. وقد زادت الشركة ميزانية البحث والتطوير بنسبة 20 في المائة خلال فترة رئاسة بالميسانو لتصل إلى 6 مليارات دولار سنويا.

إن الجمع بين البحث والمهارات التخصصية والتكنولوجيا المتطورة هو الوصفة التي تعد أساس مبادرة «سمارتر بلانيت» لشركة «آي بي إم» والتي تم تدشينها عام 2008. ولدى الشركة حاليا أكثر من ألفي مشروع حول العالم، واستخدمت الذكاء الاصطناعي من أجل إنشاء أنظمة أكثر فاعلية لشبكات المرافق وإدارة المرور وتوزيع الطعام والحفاظ على المياه والرعاية الصحية. ويوضح بالميسانو الفكرة بقوله «اسع لاقتحام مساحة يمكنك التميز فيها واستغل تكامل (آي بي إم)». يعد مشروع «سمارتر بلانيت» بالنسبة إليه بمثابة العودة إلى جذور «آي بي إم». قبل فترة قصيرة من توليه منصب رئيس الشركة، اطلع جيدا على أرشيف الشركة، وقرأ خطابات ومذكرات المؤسس توماس واطسون. عندما أصبح بالميسانو مساعد الرئيس جون آكرز، الذي تولى هذا المنصب من عام 1989 وحتى 1990، كان يتناول الغداء مع توماس واطسون، الرئيس الأسبق، مرة كل شهر. وقال إن واطسون كان دائما ما يعرّف الشركة بأنها شركة تقوم بما هو أكبر من بيع أجهزة الكومبيوتر، حيث كانوا يعتقدون أن عليها الاضطلاع بدور أكبر من ذلك في مواجهة تحديات المجتمع. ويقول «إنها طريقة قديمة تقليدية، لكنها تثير الحماسة».

ويظهر صدى ذلك من خلال الشباب الذين تعينهم «آي بي إم» هذه الأيام على حد قوله. ويتحدث بالميسانو إلى مجموعة من الطلبة المتفوقين الذي تحاول الشركة جذبهم إلى معاملها البحثية. ويقول إن الرسالة التي يوجهونها إليهم هي أن «آي بي إم» مكان يمكنهم أن يحدثوا فرقا من خلاله. ويقول في إشارة إلى حصول الشركة على خمس جوائز «نوبل»: «يمكنك تغيير العالم والتنافس على جائزة (نوبل)». ويوافق 87 في المائة من الذين عُرض عليهم العمل في قسم الأبحاث في الشركة على العرض. ويعد إعجاب علماء التكنولوجيا الشباب ببالميسانو مثالا واحدا فقط على إجابة لسؤال من أسئلته الأربعة. ويؤكد على ضرورة الإجابة عن الأسئلة الأربعة. بات هذا التحدي حاليا مسؤولية فيرجينيا روميتي، التي ستصبح الرئيسة التنفيذية للشركة التي أسست منذ قرن، وستكون بذلك رقم 9. ويقول بالميسانو «أصعب شيء هو الإجابة عن تلك الأسئلة الأربعة. عليك الإجابة عنها جميعا والعمل على الإجابة عنها من أجل مواجهة التحدي».

* خدمة «نيويورك تايمز»