كريستين لاغارد لـ «الشرق الأوسط»: الصندوق يحتاج إلى 500 مليار دولار لزيادة موارده.. ومن مصلحة الجميع المساهمة

أملت أن تتمكن البلدان الموردة من تعويض أي نقص في الإمدادات الإيرانية

كريستين لاغارد المديرة التنفيذية لصندوق النقد الدولي (رويترز)
TT

تبدأ اليوم (الجمعة) كريستين لاغارد المدير التنفيذي لصندوق النقد الدولي زيارة إلى المملكة العربية السعودية وهي الزيارة الأولي لها للمنطقة العربية - بعد زيارة خاطفة لتونس - منذ توليها لمنصبها في العام الماضي. وتسعى لاغارد في هذه الزيارة لبحث زيادة مساهمة المملكة في تمويل موارد صندوق النقد.

وأوضحت لاغارد في حديثها لـ«الشرق الأوسط» في واشنطن أنها تسعى لجمع 500 مليار دولار وهو مبلغ يعادل نصف فجوة التمويل العالمي الذي يحتاجه صندوق النقد. وطالبت الدول العربية الغنية بالنفط تقديم الدعم المالي من منح وقروض لتمويل عجز الموازنة وتمويل المشاريع الاستثمارية في الدول العربية والأوروبية.

وأكدت لاغارد تفاؤلها الشديد بمستقبل دول الربيع العربي لثراء مواردها الطبيعية والبشرية، وعلقت تحقيق الرخاء لشعوب المنطقة على قدرة السلطات على إدارة الفترة الانتقالية بنجاح.

وتناولت لاغارد الأحداث السياسية في إيران وسوريا من منظور اقتصادي، كما توقعت تباطؤ النمو العالمي خلال العام الحالي. وأوضحت أن عام 2012 يمكن أن يكون عاما للاستشفاء من أزمة الديون السيادية الأوروبية بشروط إعادة رسملة البنوك الأوروبية وإنشاء مجلس للمخاطر وتحقيق انضباط مالي وحواجز وقائية، كما طالبت باندماج السياسات المالية الأوروبية إلى جوار السياسة النقدية الموحدة.. وإلى نص الحوار:

* ما هي أسباب زيارتك إلى تونس والمملكة العربية السعودية؟ وفي رأيك، ما هو الدور الذي يمكن أن يضطلع به صندوق النقد الدولي في الشرق الأوسط؟

- بصفتي مديرا عاما للصندوق، من المهم بالنسبة لي أن أفهم طبيعة الأوضاع في بلداننا الأعضاء. والغرض من زيارتي هو الالتقاء بصناع السياسة وقادة الرأي لمناقشة آخر التطورات الاقتصادية العالمية والمحلية في هذه المنطقة الحيوية من العالم بكل تغيراتها المتلاحقة.

وأنا سعيدة بهذه الفرصة التي أتاحت لي المجيء إلى هنا، في المملكة العربية السعودية، وكذلك زيارة تونس في الأسبوع الماضي. إنها رحلتي الأولى إلى المنطقة بعد أن توليت منصبي الحالي، وآمل أن آتي إليها مرة أخرى في وقت قريب. وفي نفس الوقت، سنظل أنا وكبار خبراء الصندوق على اتصال وثيق بقادة البلدان الأخرى في المنطقة للاستماع إلى آرائهم وتبادل الأفكار معهم حول كيفية مساعدة المنطقة في تحقيق طموحاتها الاقتصادية.

وفي الشرق الأوسط، كما هو الحال في المناطق الأخرى، يظل الصندوق حاضرا لمد يد العون إلى بلدانه الأعضاء في معالجة التحديات الاقتصادية الكلية ووضع الأساس لنمو يشمل جميع المواطنين ويتيح فرص العمل اللازمة لهم. ونحن ندعم جهود عدد من البلدان حاليا في سعيها لبناء مؤسسات أفضل، وذلك من خلال المساعدة الفنية في مجالات مثل الإدارة المالية العامة وإصلاح القطاع المالي. وبالإضافة إلى ذلك، فتحنا مركزا للتدريب في الكويت، ومن المتوقع أن يكون لهذا المركز دور مهم في بناء القدرات اللازمة لصنع القرارات الاقتصادية وتنفيذ السياسة الاقتصادية في كل البلدان الأعضاء في جامعة الدول العربية.

وفي نفس السياق، نجري مناقشات وثيقة مع الحكومات والبنوك المركزية بشأن اتجاه السياسة الاقتصادية الكلية. كذلك يمكن أن يقدم الصندوق التمويل لبلدانه الأعضاء، وهو ما يحدث الآن في بعض بلدان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. ونواصل مشاركتنا النشيطة أيضا في عملية «شراكة دوفيل»، للمساعدة في تحديد شكل التنسيق الملائم لجهود الدعم الدولي. ومن نفس المنطلق، قمنا مؤخرا بالتوسع في أدوات الإقراض، لكي نتمكن من تلبية الاحتياجات المتغيرة لدى بلداننا الأعضاء.

وقد كان الربيع العربي تذكرة لنا وللعالم كله بأن النمو ينبغي ألا يكون مرتفعا وقابلا للاستمرار وحسب، بل يتعين أن يعم بنفعه كل شرائح المجتمع أيضا. ومن ثم فنحن نركز الآن بدرجة أكبر على البطالة وإصلاح الدعم والآثار التوزيعية للإصلاح الضريبي وقضايا الحوكمة والشفافية، في حدود الاختصاصات المنوطة بنا.

* كيف تصفين العلاقة القائمة بين الصندوق والمملكة العربية السعودية؟

- ترتبط المملكة بعلاقة وثيقة وطويلة الأمد مع الصندوق. فقد انضمت إلى عضويته في عام 1957، ولها مقعد منفرد في مجلسه التنفيذي - المدير التنفيذي الحالي هو الدكتور أحمد عبد الكريم الخليفي - وتساهم بدور حيوي للغاية في دعم جهود الصندوق للوفاء بالمهمة المنوطة به، بما في ذلك مساهماتها السخية لدعم البلدان منخفضة الدخل. وجريا على الإجراء المتبع مع جميع البلدان الأعضاء، يقوم فريق من خبراء الصندوق بزيارة المملكة مرة واحدة سنويا لإجراء المناقشات الاعتيادية في إطار مشاورات المادة الرابعة.

* هل سيطلب صندوق النقد زيادة مساهمة المملكة العربية السعودية في جمع الموارد اللازمة للصندوق لمواجهة أزمة الديون السيادية في أوروبا، وما حجم هذه الزيادة؟ وما هو مقدار الموارد الإضافية التي يسعى الصندوق إلى جمعه؟ هل هو 500 مليار دولار أم 600 مليار دولار؟ وهل ستساهم هذه الموارد الإضافية (إذا نجحتم في جمعها) في استعادة استقرار النظام المالي العالمي؟

- هناك مناقشات جارية عن موارد الصندوق من أجل تقدير الاحتياجات اللازمة لكي يتمكن من استيفاء المهمة المنوطة به والقيام بدور وافٍ وبناء في تأمين الاستقرار العالمي. ويسعى الصندوق لزيادة طاقة الإقراض بواقع 500 مليار دولار، أو ما يعادل نصف الفجوة المقدرة في التمويل العالمي. وتجري المناقشات حاليا لبحث كيفية الترتيب لجمع هذا التمويل الإضافي.

وتمثل زيادة موارد الصندوق المستخدمة في الإقراض بمبلغ 500 مليار دولار استثمارا في الاستقرار الاقتصادي العالمي. وهناك مسار متاح للسياسة الاقتصادية كي يتحقق الخروج الأزمة، لكن هذا المسار يزداد ضيقا، والحاجة إلى التحرك أصبحت ملحة. وهو مسار يتطلب أن تعمل البلدان على نحو منسق، مع مراعاة ظروف كل منها فيما يتصل بسياسة المالية العامة والسياستين النقدية والهيكلية. ونظرا لعضوية الصندوق التي تشمل جميع أنحاء العالم، فهو مؤهل تماما لتقديم المساعدة في هذا الخصوص، وسوف يعتمد على بلدانه الأعضاء الرئيسية في الوصول إلى طاقة الإقراض الكافية لتحقيق هذا الهدف.

* ما الذي يمكن أن تقدمه المملكة للصندوق؟

- الأزمة المالية هي قضية عالمية، نظرا لتأثيرها على جميع البلدان. وبالتالي، فإن من مصلحة الجميع اتباع المسار الذي يكفل الخروج منها والدخول مجددا في فترة يسودها النمو المستمر.

* هناك مخاوف من طموح إيران النووي وتهديداتها بغلق مضيق هرمز مما سيسبب ارتفاع أسعار النفط، فكيف ترين تأثير المسألة النووية الإيرانية على اقتصادات مجلس التعاون الخليجي في المنطقة، وعلى الاقتصاد العالمي ككل؟

- سوف أقتصر في إجابتي على قضايا سوق النفط. تعتبر إيران حاليا ثالث أكبر بلد مصدر للنفط على مستوى العالم، وكما نعلم جميعا هناك نسبة كبيرة من معروض النفط العالمي تمر عبر مضيق هرمز. والتأثير النهائي لأي انقطاع في صادرات النفط الإيراني أو النفط العالمي بشكل أعم يتوقف بالتأكيد على حجم هذا الانقطاع وفترة استمراره، وكذلك قدرة البلدان المنتجة الأخرى على تعويضه. وغني عن البيان أن حدوث ارتفاع حاد في أسعار النفط لن يعود بأثر إيجابي على الاقتصاد العالمي في فترة ضعفه الحالية، ولذا آمل أن تتمكن البلدان الموردة الأخرى من تعويض أي نقص في الإمدادات الإيرانية.

* في رأيك، ما هو تأثير أزمة منطقة اليورو واضطرابات الأسواق العالمية على اقتصاديات الدول العربية؟

- من المتوقع أن يتباطأ النمو العالمي في عام 2012، مما يرجع في الأساس إلى التباطؤ الحاد الذي يشهده الاتحاد الأوروبي، حيث لا يتوقع تحقيق أي نمو في 2012 مقارنة بالنمو الذي بلغ 1.6 في المائة في 2011. والأرجح أن يكون تأثير ذلك كبيرا على الاقتصاد في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا من خلال عدة قنوات، هي التجارة والسياحة وتحويلات العاملين في الخارج والاستثمار الأجنبي المباشر. وترتبط بلدان المغرب العربي على وجه التحديد بعلاقات وثيقة مع أوروبا من خلال هذه القنوات الأربع، كما تعتمد على أوروبا كوجهة لما يقرب من 60 في المائة من الصادرات، ومصدر لنسبة 80 - 90 في المائة من إيرادات السياحة، ونحو 80 في المائة من مجموع الاستثمار الأجنبي المباشر. وفي المغرب وتونس على وجه الخصوص، يلاحظ الاعتماد على أوروبا في الحصول على أكثر من 80 في المائة من مجموع تحويلات المغتربين التي تتدفق إلى البلدين.

وعموما، تحصل بلدان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا على احتياجاتها التمويلية من مصادر محلية، وليس من الخارج. ويعني هذا أن التداعيات المالية المباشرة لاضطرابات الأسواق المالية سوف تكون محدودة على الأرجح بالنسبة لهذه البلدان. ولكن المصاعب التي تواجه منطقة اليورو فيما يتعلق بالديون السيادية ساهمت في اتساع فروق التأمين على مبادلات مخاطر الديون السيادية والائتمان في هذه المنطقة. وأي ارتفاع في أسعار الفائدة العالمية سوف يسفر عن ارتفاعات مماثلة في أسعار الفائدة في المنطقة.

* في رأيك كمديرة لصندوق النقد الدولي، كيف يمكن للدول العربية الغنية بالنفط أن تساعد في تعافي الاقتصادات العربية والأوروبية؟

- تعمل اقتصادات مجلس التعاون الخليجي على دعم تعافي الاقتصادات العربية من خلال عدد من القنوات. وبالطبع فإن الدعم المالي هو القناة التي تحظى بأكبر قدر من الاهتمام - وهي مزيج من المنح النقدية والقروض لتمويل نفقات الموازنة أو دعم مشاريع الاستثمار. وقد قدمت المملكة العربية السعودية وبلدان أخرى دعما كبيرا بالفعل لمصر والأردن واليمن، وكذلك لبلدان أخرى في المنطقة. وهناك قنوات أخرى مهمة أيضا. فقد بادرت معظم دول مجلس التعاون الخليجي بالتوسع في نفقات الموازنة لدعم اقتصاداتها في مواجهة التباطؤ العالمي الناجم عن الأزمة المالية العالمية. ومع استمرار ضعف الطلب العالمي، ظلت موازناتها العامة داعمة للنمو، مما يعود بنتائج إيجابية تنتقل آثارها إلى البلدان الأخرى في المنطقة عن طريق التجارة والاستثمار وتحويلات المغتربين - حيث تقدر هذه التحويلات من دول مجلس التعاون الخليجي بأكثر من 65 مليار دولار في عام 2010 فقط.

* البعض في المنطقة العربية يتشكك في الدور الذي يقوم به صندوق النقد الدولي ويتعامل بحذر معه، برأيك ما هي أهمية صندوق النقد الدولي بالنسبة للعالم العربي؟

- من أهم الأدوار التي نقوم بها، إلى جانب المشورة بشأن السياسة الاقتصادية والمساعدة الفنية والمالية التي أشرت إليها سابقا أننا نعمل كملتقى يجمع البلدان الأعضاء ونيسر التوصل إلى حلول شاملة وتعاونية للتحديات الاقتصادية التي تواجهها. وقد أصبح هذا الدور أهم الآن من أي وقت مضى، نظرا لتزايد الطابع المتشابك والمترابط الذي يتسم به الاقتصاد العالمي، حيث القضايا العالمية هي أيضا قضايا عربية. والصندوق يستطيع تيسير الحوار بإتاحة منبر للنقاش في هذا الخصوص.

* كيف ترين الخسائر الاقتصادية التي أعقبت الثورات العربية، وكم سيستغرق الأمر حتى تتعافى بلدان مثل مصر وتونس وليبيا، وكيف سيتم ذلك؟

- تمخضت الصراعات عن عواقب وخيمة في عدد من بلدان المنطقة نظرا لما سببته من خسائر فادحة في الأرواح. وعلى الصعيد الاقتصادي، أود أن أؤكد في البداية أن اعتماد منهج النمو الشامل للجميع ومبادئ الحوكمة السليمة الذي دعا إليه الربيع العربي سيترك أثرا إيجابيا للغاية على المدى المتوسط، وخاصة إذا تحقق التوازن السليم بين تلبية الاحتياجات الاجتماعية الآنية وضمان الاستمرارية. وفي نفس الوقت، هناك تكاليف اقتصادية كبيرة ترتبت على ذلك. فقد تراوحت خسارة الناتج الاقتصادي بين 8 في المائة من إجمالي الناتج المحلي في مصر ونحو 60 في المائة في ليبيا؛ وزاد ارتفاع البطالة في المنطقة التي كانت معدلات البطالة فيها عالية قبل الثورات، وخاصة بين الشباب؛ وانخفضت الاحتياطيات الأجنبية بمقدار وصل إلى النصف في مصر.

وسوف يستغرق الأمر بعض الوقت حتى تتعافى هذه الاقتصادات، وتعود إليها الاستثمارات والأفواج السياحية ورؤوس الأموال. وسيعتمد تحقيق ذلك اعتمادا كبيرا على التطورات السياسية، وسرعة هذه البلدان في بناء توافق الآراء اللازم في القضايا السياسية والاجتماعية من أجل استعادة الاستقرار والثقة. ونحن في صندوق النقد الدولي مستعدون للقيام بدورنا في تحقيق هذا التعافي، وهو ما يشمل الدعم المالي للبرامج الاقتصادية الوطنية جيدة التصميم والمساعدة في تعبئة التمويل الأجنبي.

* أعلنت في الكلمة التي ألقيتها في مركز وودرو ويلسون بواشنطن منذ شهرين أن هناك 35 مليار دولار متاحة للإقراض، سواء لبلدان الربيع العربي أو غيرها من البلدان التي تحتاج إلى قروض. فما حجم القروض التي صرفت بالفعل من هذا المبلغ؟

- بالفعل، يستطيع الصندوق تقديم قروض قيمتها 35 مليار دولار للبلدان المستوردة للنفط في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. وتقدم هذه القروض دعما لبرامج السياسة الاقتصادية الكلية التي تضعها الحكومات والبنوك المركزية، وبناء على طلب منها، كما تقدم لبلدان هذه المنطقة وغيرها من بلدان العالم بشروط مواتية تدعم الانتقال إلى أوضاع تستعيد من خلالها القدرة على تلبية احتياجاتها التمويلية من السوق. ونحن نواصل المناقشات المثمرة مع السلطات المصرية حاليا بشأن برنامج يمكن أن يدعمه الصندوق للمساهمة في تحقيق الاستقرار الاقتصادي، واستعادة الثقة، ووضع الأسس لنمو يوفر فرص العمل، وضمان حماية الأسر المعرضة للتأثر خلال الفترة الانتقالية. ونحن دائما على استعداد لعقد مناقشات مماثلة مع أي بلد يطلب ذلك.

* قلتِ في بعض التصريحات إنك متفائلة جدا بمستقبل منطقة الشرق الأوسط رغم المخاطر الاقتصادية والمالية الداخلية والخارجية بسبب أزمة منطقة اليورو وارتفاع أسعار النفط، فما هي أسباب تفاؤلك؟

- كما نعلم جميعا، شرعت المنطقة في عملية تحول تاريخية منذ فترة تتجاوز العام بقليل. وفترة التغير غير المسبوقة الراهنة تتيح لصناع السياسات فرصة التغلب على المعوقات التي تقف منذ وقت طويل أمام تحقيق نمو أسرع وأكثر شمولا لمختلف شرائح المجتمع وتوفير فرص العمل المطلوبة على أساس عاجل للقوى العاملة الشابة التي تنتظر هذه الفرص بفارغ الصبر. وبالطبع، حدثت بعض الانتكاسات في هذه الفترة ولم تتبدد أجواء عدم اليقين بعد. لكن الإمكانات الواعدة لم تتراجع.

فالمنطقة تتمتع بقدر وافر من الأصول تتمثل في القوى العاملة الديناميكية والشابة، والموارد الطبيعية الوفيرة، والتراث الحضاري العريق، والثقافة الغنية التي تجذب العلماء والسائحين، والسوق الإقليمية الكبيرة، والموقع الجغرافي المتميز، والقدرة على الوصول إلى أهم الأسواق. وإذا أديرت الفترة الانتقالية الحالية بشكل جيد، فسوف تنتهي بتحسين مستويات المعيشة وتحقيق مستقبل أكثر رخاء لشعوب المنطقة.

والمنطقة لا تقف بمفردها في مواجهة هذه الظروف. ففي إطار «شراكة دوفيل»، تم التعهد بمساعدة البلدان العربية الشريكة من جانب مجموعة الثمانية، إضافة إلى تعهدات الكويت، وقطر، والمملكة العربية السعودية، وتركيا، والإمارات العربية المتحدة، وتسع منظمات ومؤسسات مالية دولية وإقليمية، منها صندوق النقد الدولي، حتى تتجاوز فترة التحول السياسي والاقتصادي التي تمر بها.

* هل تقدمون المشورة المالية للبلدان العربية التي قد يكون نمط إنفاقها وافتقارها إلى المساءلة والحوكمة سببا في تعريضها لمشكلات حادة، رغم عدم افتقارها إلى الموارد الكافية لتمويل موازناتها العامة؟

- إننا نعقد مناقشات - نسميها «مشاورات المادة الرابعة» - مع كل أعضائنا البالغ عددهم 187 بلدا عضوا، لبحث آفاق الاقتصاد وحالة السياسة الاقتصادية مرة واحدة سنويا في المعتاد. وهذه المناقشات، التي يتم تلخيصها في تقارير تُنشر عادة في موقع الصندوق الإلكتروني، وهي جزء من عمل الصندوق كمنبر للحوار العالمي بشأن السياسة الاقتصادية. وفي كثير من البلدان، تُجرى المناقشات مع الصندوق أكثر من مرة واحدة سنويا تلبية لطلب حكوماتها.

وفي حوارنا بشأن السياسة الاقتصادية، لا يقتصر تركيزنا على الأرقام الرئيسية الكبيرة، مثل رصيد الحكومة ومجموع الإنفاق العام، إنما نحلل عناصر الإنفاق وتخطيط وتنفيذ الموازنة. فعلى سبيل المثال، بدأنا التركيز مؤخرا على عدد من المجالات في العالم العربي، منها مستوى دعم أسعار الطاقة. فهذا الدعم، إذا كان معمما، لا يفيد بالضرورة شرائح السكان الأشد احتياجا إليه. وعلى سبيل المثال، تحصل الشريحة التي تمثل أغنى 20 في المائة من الأسر على 40 في المائة من مزايا الدعم في الأردن و65 في المائة من هذه المزايا في موريتانيا. وفي المقابل، تحصل الشريحة التي تضم أفقر 20 في المائة من الأسر على أقل من 7 في المائة من مزايا الدعم في البلدين. ولضمان كفاءة التكاليف، ينبغي توجيه الدعم والتحويلات بدقة أكبر إلى الفئات المستحقة، ومن ثم توفير قدر أكبر من موارد الموازنة العامة لأولويات الإنفاق، مثل الاستثمار في البنية التحتية والتعليم والصحة، من أجل مساندة شرائح السكان الأشد احتياجا.

* هل هناك أي برنامج أو نشاط للصندوق في سوريا؟ وهل كانت له برامج أو أنشطة في السابق؟

- قبل اندلاع الاضطرابات في مارس (آذار) 2011، كان الصندوق يجري تحليلات للاقتصاد الكلي ويقدم المشورة بشأن السياسة الاقتصادية من خلال الزيارات التي يقوم بها خبراؤه وضمن عملية «مشاورات المادة الرابعة» مع سوريا. وسبق لنا تقديم المساعدة الفنية أيضا في مجالات المالية العامة والقطاع المالي والإحصاءات. ولكن سوريا لم يسبق لها الدخول في برنامج يدعمه الصندوق، وقد استكملت آخر مناقشات أجريت معها في إطار مشاورات المادة الرابعة في شهر فبراير (شباط) 2011. واعتبارا من أبريل (نيسان) 2011، تم تعليق زيارات خبراء الصندوق إلى سوريا نظرا للأوضاع الأمنية. ونتيجة لذلك، يتابع خبراء الصندوق التطورات الجارية معتمدين في الأساس على التقارير الصحافية واتصالاتهم بأطراف من القطاع الخاص، منها مؤسسات الأعمال والبنوك الخاصة، نظرا للنقص الشديد في البيانات التي تتاح حاليا للاطلاع العام.

* خفض الصندوق توقعاته المتعلقة بالنمو العالمي في آخر تقرير عن مستجدات «آفاق الاقتصاد العالمي»، وهو يتوقع الآن أن تمر منطقة اليورو بفترة من الركود المحدود. هل يمكن أن يتفاقم الوضع في أوروبا؟

- التنبؤ صعب، فإذا حدث هبوط أشد بكثير في منطقة اليورو، على أثر أزمة مالية تتسبب في التعجيل به، لن يكون ذلك إلا في حالة عدم اتخاذ قرارات صائبة. ونحن نأمل ألا يحدث ذلك بالتأكيد، فمن الممكن تجنب الأسوأ باتخاذ التدابير الصحيحة. وينبغي اتخاذها بشكل عاجل. فيمكن أن يكون 2012 عاما للاستشفاء من الأزمة الراهنة إذا عملنا معا لمنع هبوط النشاط الاقتصادي العالمي. وينبغي لأوروبا، وهي البؤرة التي تتركز فيها المخاوف العالمية، أن تحقق نموا أقوى وحواجز وقائية أكبر واندماجا أعمق.

* هل تعتقدين أن القادة الأوروبيين اتخذوا التدابير الصحيحة لتجنب سيناريو «أسوأ الحالات» في قضية الديون السيادية؟

- قادة بلدان منطقة اليورو الـ17 اتخذوا بالفعل عددا من الخطوات المهمة للقضاء على أزمة الدين السيادي. ومن الإنجازات المهمة في هذا الصدد إنشاء «صندوق الاستقرار المالي الأوروبي» أو ما يسمى «آلية الاستقرار الأوروبية»، والاتفاق على منهج منسق لإعادة رسملة البنوك وإنشاء مجلس للمخاطر النظامية، وإجراء إصلاحات في الحوكمة لفرض الانضباط المالي بدرجة أكبر وأكثر فعالية، واتخاذ البنك المركزي قرارا بتوفير السيولة للبنوك على أساس طويل الأجل. ويجب أن تكون هذه الخطوات جزءا من حل شامل يتضمن النمو والحواجز الواقية الكبيرة والاندماج الأعمق.

ومع التباطؤ الحاد الذي يمر به الاقتصاد في منطقة اليورو، بدأ التضخم ينخفض بالفعل ومن المرجح أن يصل إلى أقل من مستواه المستهدف لهذا العام، مما يزيد من أعباء الديون ويضر بالنمو. ولهذا السبب، ستكون زيادة التيسير النقدي في الوقت المناسب أمرا مهما للحد من هذه المخاطر. كذلك تتطلب زيادة النمو ألا تتحول إلى السير في الاتجاه العكسي، فتعمل على تقليص الائتمان في مواجهة ضغوط السوق. وينبغي أن تركز الحلول على رفع مستويات رأس المال - بدلا من تخفيض الإقراض - باعتباره وسيلة لرفع نسب رأس المال.

وبالنسبة لسياسة المالية العامة، هناك عدة بلدان لا خيار أمامها إلا تقييد الإنفاق العام. ويجب أن يتم هذا الإجراء التقشفي بشكل حاد وسريع في بعض البلدان، بينما يمكن أن يتم بمزيد من التدرج في بلدان أخرى. وتشكل الإصلاحات الهيكلية أهمية كبرى في وضع الأساس اللازم لتعزيز التنافسية والنمو طويل الأجل.

وينبغي لصناع السياسات الأوروبيين أن يعملوا أيضا على إنشاء حاجز وقائي أكبر. فمن دون هذا الحاجز يمكن أن يصل الأمر ببلدان مثل إيطاليا وإسبانيا، القادرتين في الأساس على سداد ديونهما، إلى الدخول في أزمة ملاءة من جراء تكاليف التمويل غير العادية - وهو تطور يمكن أن يكون له عواقب مدمرة على الاستقرار النظامي. ومن الضروري أيضا أن يتخذ البنك المركزي الأوروبي إجراء لتوفير دعم السيولة اللازمة لاستقرار أسواق التمويل المصرفي والدين السيادي.

تحتاج منطقة اليورو أيضا، إلى مزيد من الاندماج أيضا على مستوى المالية العامة، فمن غير المنطقي أن تكون هناك 17 سياسة مستقلة تماما للمالية العامة بجانب سياسة نقدية واحدة. وسيتعين إيجاد نوع من التشارك في تحمل المخاطر التي تتعرض لها المالية العامة، بحيث يكمل «العهد المالي» الذي اتفق عليه أثناء قمة القادة الأوروبيين في أوائل ديسمبر (كانون الأول) 2011 وأكدته القمة الأوروبية في 30 يناير (كانون الثاني) 2012.

* ما هي الرسالة التي توجهينها للعالم حتى يساعد في جهود التعافي من الأزمة؟

- بقية العالم يجب أن يقوم بدوره أيضا، فالولايات المتحدة عليها مسؤولية خاصة في هذا الصدد، باعتبارها أكبر اقتصاد في العالم ومركز النظام المالي العالمي، ويجب أن تقوم بدورها، إلى جانب اليابان، عن طريق وضع خطة موثوقة لتخفيض الدين العام وإجراء إصلاحات لرفع النمو طويل الأجل. وهناك مسؤولية على كل من البلدان الصاعدة والمتقدمة التي تحقق حساباتها الجارية فوائض كبيرة، وذلك في تشجيع الطلب المحلي كوسيلة لدعم النمو العالمي. ومثال ذلك الصين التي تمتلك أكبر احتياطيات النقد الأجنبي على مستوى العالم وتحقق فوائض كبيرة في حسابها الجاري. فيمكن للصين أن تساعد نفسها وتساعد الاقتصاد العالمي في نفس الوقت بمواصلة تحويل النمو من التصدير والاستثمار إلى الاستهلاك.