نائب حاكم مصرف لبنان: مطلوب تحولات اقتصادية تحول انقلاب «الربيع العربي» إلى خريف مظلم

شرف الدين قال لـ «الشرق الأوسط»: عدم توفير الدعم للمنطقة والفوضى يؤثران سلبا على مسارات النمو في مفاصل الاقتصاد الدولي

TT

قد يبدو مبكرا إجراء قراءة موضوعية شاملة للتغيرات العميقة التي شهدتها وتشهدها بعض البلدان العربية تحت مصطلح «الربيع العربي»، وفق ما يؤكد النائب الأول لحاكم مصرف لبنان رائد شرف الدين، خصوصا لجهة الجوانب الاقتصادية والاجتماعية التي شكلت حافزا قويا للتحركات الاحتجاجية والتي سوف تلعب دورا بارزا في تحقيق استدامة النظام العربي الجديد.

ويعتقد أن «الحراك السياسي العربي سيثمر عن الربيع العربي المنشود في حال تزامنه مع تحولات جذرية على المستوى الاقتصادي والاجتماعي وإلا تحول إلى فوضى عربية أو خريف عربي طويل ومظلم».

وتقتضي الواقعية، برأيه، وصف الأوضاع القائمة ونتائجها بأنها تحول تاريخي في المنطقة العربية، المؤلم فيها هو الأعداد الكبيرة للضحايا والجرحى والمعوقين، إضافة إلى الحصيلة الاقتصادية التي قدرت بخسائر فعلية للناتج المحلي في البلدان المضطربة بحدود 21 مليار دولار وعجز في الموازنات ناهز 35 مليار دولار. فيما الترقبات للمرحلة المقبلة تتراوح بين آمال الابتهاج والقلق ربطا بطبيعة التغيير المحقق.

انطلاقا، يطرح شرف الدين ما يصنفه تساؤلات أساسية تحدد الأجوبة عنها أو عن أغلبها المسار النهائي للتحولات. فهل ستقود الانتفاضات إلى الديمقراطية والحرية والمساءلة، أم أنها ستغرق المنطقة في مزيد من الفوضى؟ هل ستسبب تغيير الأنظمة أم أنها ستتوقف عند تغيير الحكام؟ هل ستبقى الانتفاضات مقتصرة على عدد قليل من البلدان أم أنها ستنتقل إلى بلدان أخرى؟ وهل من الممكن أن تحمل هذه التحولات البنيوية أي تغيير في جغرافية المنطقة؟

يوضح شرف الدين: «الصحوة العربية وفرت فرصة لوضع أسس بنيوية جديدة، حيث تحدث التحولات الاقتصادية والاجتماعية جنبا إلى جنب مع تلك السياسية. فالسعي من أجل الحريات المدنية والسياسية والحقوق ينبغي أن يتزامن مع قدر أكبر من الحرية الاقتصادية».

ويعتبر أنه «في صدد تحقيق استقرار للتوقعات على المدى المتوسط لا بد من إجراء تعديلات سياسية ومؤسساتية جوهرية لتعبيد الطريق أمام نموذج التغيير الحقيقي. ويتعين على كل دولة أن تغتنم هذه الفرصة الفريدة لوضع معادلة خاصة بها من الإجراءات السياسية والاقتصادية والاجتماعية تستند إلى نقاط القوة التي تتمتع بها هذه البلدان، وتعالج التحديات العميقة الجذور وتحفز التداؤب فيما بينها. حيث يتوقع أن تحسن الإصلاحات الخاصة بالحوكمة بيئة الأعمال من خلال الحد من حواجز الدخول وتعزيز الشفافية، وبالتالي أن تدعم العمل المؤسساتي الحكومي الفعال ونمو القطاع الخاص».

وعن الجهود المطلوبة لاستعادة النمو وتعزيزه، يرى «على المستوى الاقتصادي، وسعيا للتوصل إلى النمو الممكن تحقيقه، يتعين على بلدان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا أن تستفيد من السوق الإقليمية الواسعة وموقعها الجغرافي للدفع نحو مزيد من التكامل الإقليمي والعالمي، كذلك تنويع اقتصاداتها والتقليل من الاعتماد على العائدات النفطية من خلال تشجيع المشاريع البديلة المنتجة، وإصلاح النظام التعليمي بغية تعزيز قدرتها على تهيئة والحفاظ على المواهب بفعالية».

ويعتبر أن القطاع المالي المحلي مؤهل للعب دور جوهري في تعزيز العمق المالي وتوزيع الأموال من خلال توفير القروض للاقتصاد المحلي. فيؤمل بذلك أن يؤدي النمو إلى استحداث ما يكفي من الوظائف في القطاع الخاص لامتصاص البطالة ودعم القوة العاملة السريعة النمو، وتوفير الحماية الاجتماعية للذين هم بأمس الحاجة إليها.

وعلى المستوى الاجتماعي، الذي يمثل على الأرجح الجانب الأهم حسب شرف الدين، فإنه «يظهر واضحا صدى الرسالة التي تعبر عن مطالب المواطنين بتوفير العدالة الاجتماعية والمساءلة، أيا كان النظام السياسي الذي ستتمخض عنه هذه الانتفاضات، وبالتالي ستشكل الحوكمة الجيدة ومشاركة المواطنين مفتاح النمو الاقتصادي الناجح».

وعن الواقع الاقتصادي قبل مرحلة الصحوة، يورد شرف الدين: «بعد الأزمة المالية العالمية، شهدت منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا انتعاشا قويا مدعوما بارتفاع أسعار النفط الذي كان له تأثير إيجابي على القطاعات غير النفطية، وهو تأثير امتد ليطال أيضا مستوردي النفط. وسبق أن توقع صندوق النقد الدولي في أكتوبر (تشرين الأول) 2010، أن تسهم هذه العوامل الإيجابية في وصول معدل النمو في المنطقة بالإجمال إلى 4.1 في المائة في عام 2010، و5.1 في المائة في عام 2011. بينما تشير أحدث التقديرات إلى أن النمو الفعلي في المنطقة بلغ حتى الآن 3.1 في المائة في عام 2011، ويتوقع أن تصل إلى 3.2 في المائة في عام 2012».

ويضيف: «حمل عام 2011 تطورين بارزين ألقيا بثقلهما على التوقعات الاقتصادية الخاصة بالمنطقة: أولهما الانتفاضات السياسية العربية، وثانيهما الارتفاع الكبير في الأسعار العالمية للنفط والغذاء. وقد أظهرت الآثار الاقتصادية المباشرة الناتجة عن هذه التطورات اختلافا واضحا بين البلدان المصدرة وتلك المستوردة للنفط. ففي ما خص البلدان المصدرة للنفط، (باستثناء ليبيا واليمن بسبب الاضطرابات)، أدى ارتفاع أسعار النفط إلى رفع معدل النمو وإلى تعزيز الأرصدة المالية الخارجية، وذلك على الرغم من زيادة الإنفاق الحكومي. ويتوقع أن يسجل معدل النمو الفعلي لإجمالي الناتج المحلي 4.9 في المائة في 2011 و3.9 في المائة في 2012».

في المقابل، تأتي التوقعات الخاصة بالبلدان المستوردة للنفط متفاوتة، حيث انعكست الاضطرابات السياسية في البلدان المتأثرة بها انخفاضا حادا في معدلات النمو نتيجة تعطيل النشاط الاقتصادي خلال التظاهرات، وتراجعا في الاستثمارات وعائدات السياحة، وانخفاضا في الاستثمارات الخارجية المباشرة. ونظرا إلى ارتفاع أسعار النفط والغذاء، يتوقع تزايد الضغوط التضخمية وتراجع الحسابات الجارية، فضلا عن ذلك من المرتقب أن تتعاظم الضغوط المالية، إذ تستجيب الحكومات للضغوط السياسية وارتفاع الأسعار بتعزيز دعم المحروقات والأغذية، ورفع الأجور والتعويضات الاجتماعية، بالإضافة إلى اللجوء إلى أشكال أخرى من الإنفاق الحكومي في خطوة تزيد من متوسط العجز المالي. وفي هذا السياق، يبلغ المعدل المتوقع للنمو الحقيقي لإجمالي الناتج المحلي في البلدان المستوردة 1.4 في المائة في عام 2011 و2.6 في المائة في عام 2012.

ويلفت شرف الدين إلى أحدث تقارير التنافسية العالمية الصادر عن المنتدى الاقتصادي العالمي، والذي يشير إلى أن منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا شهدت خلال السنوات الماضية اضطرابات لا يستهان بها من شأنها أن تؤثر على التنافسية الوطنية، وقد تؤدي إلى تعميق الهوة التنافسية بين اقتصادات الخليج وباقي الاقتصادات في المنطقة. وقد انعكس هذا التوجه في نتائج مؤشرات التنافسية العالمية، حيث تستمر بلدان الخليج في الارتقاء في التصنيف، في حين تبقى تنافسية الكثير من بلدان شمال أفريقيا والمشرق كما هي أو تتراجع.

بالإضافة إلى كبح النمو، يضيف «هددت التظاهرات الواسعة النطاق التصنيفات السيادية السابقة، وراحت وكالات التصنيف تعيد النظر بها بحيث تعكس تزايد الخطر السياسي. ففي مارس (آذار) 2011، أعلنت وكالة «فيتش» أن الخطر السياسي، الذي يشمل شرعية النظام، واستقراره، وفعاليته، والتوترات الداخلية، والتهديد الخارجي، أدى إلى خفض التصنيف الائتماني للعملات الأجنبية طويلة الأجل الإحدى عشرة في المنطقة بمعدل أربع درجات. ومع تراجع ثقة المستثمرين، تعاظمت فروق العائد على مبادلات مخاطر الائتمان السيادية (Sovereign Credit Default Swap (CDS)، وارتفعت تكلفة اقتراض البلدان في الأسواق العالمية، الأمر الذي يلقي على هذه البلدان عبئا ماليا إضافيا شديد الوطأة».

أما على مستوى القطاع المالي، فلقد تدهورت أوضاع ميزانيات القطاع المصرفي المحلي، في انعكاس للأثر السلبي الذي تركه التراجع في النشاط الاقتصادي على جودة المحافظ الخاصة بالقروض والبورصات الإقليمية على حد سواء. وكان على مديري الصناديق المستثمرة في المنطقة إطلاق دعوات هادفة إلى حماية رساميل المستثمرين التي سجلت خلال السنوات السابقة اطرادا مستمرا.

وعن الترقبات قصيرة الأجل يعتبر شرف الدين: «في إطار انتقال سياسي مؤجل بانتظار نتائج الانتخابات في بعض البلدان والنزاعات الممتدة في بلدان أخرى، قد يكمن الخطر الرئيسي المرتبط بالمنحى التراجعي على المدى القصير، والذي بقي قائما في ظل عدم القدرة على إعادة بناء الثقة وتلبية توقعات المستثمرين. وفي الواقع، فإن المشكلة التي تواجهها تونس، ومصر، وليبيا، وغيرها من البلدان، نابعة من تزايد حاجاتها المالية لتغطية عجز حساباتها الجارية الخارجية والتمويل الحكومي في ظل عدم التيقن السياسي والاجتماعي والاقتصادي السائد حاليا، في حين ارتفعت تكلفة الاقتراض في الأسواق ارتفاعا كبيرا، فبرزت الحاجة الملحة لاستعادة الثقة. غير أن استعادة الثقة تعتمد بدرجة كبيرة على النتائج المحققة على المستوى السياسي».

يضيف «غالبا ما يرتبط الدعم المالي من خلال المساعدات الخارجية بإجراءات تقشفية من خلال برامج وطنية متخصصة. وتظهر تجارب صندوق النقد الدولي السابقة أن الأنجح بينها هي «تلك التي تتفتح محليا والتي لا تسيطر عليها السلطات فحسب، بل تشرك المؤسسات والشعب أيضا. انطلاقا من ذلك، ينبغي أن تطبق هذه الإجراءات بالنظر إلى ملاءمتها القدرات المؤسساتية الوطنية».

تزامنا، يعتقد شرف الدين بأنه «لا بد من التنبه مسبقا إلى أن الطريق نحو نمو اقتصادي مستدام في المنطقة سيكون طويلا وصعبا، وسلوكه مشروط بإنتاج نموذج للتغيير الحقيقي في البلدان وفي طريقة تعامل الحكومات الغربية والمنظمات الدولية معها. من المهم، في هذا المجال، العودة إلى الأساسيات، فالشرق الأوسط يمثل الأسواق المهمة والغنية بالموارد الطبيعية، ويتميز بموقع جغرافي بمنزلة المفتاح للتجارة العالمية. وهذا يعني فرصة سانحة، وليس من وقت أفضل لها من هذه الفترة الانتقالية لبناء وتعزيز الإمكانات في كل المجالات لأن إهمال المنطقة وعدم استقرارها يؤثران حكما على مسارات التقدم والنمو في كل مفاصل اقتصادات المجموعات والدول والاقتصاد الدولي».

وعن نقاط القوة التي تميز اقتصادات المنطقة، يشير شرف الدين إلى العامل الأهم المتمثل بوفرة موارد النفط والغاز، حيث إن ثماني دول من دول منظمة الأوبك الاثنتي عشرة تقع ضمن منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وتستحوذ معا على نحو 60 في المائة من احتياطي النفط العالمي (98.810 مليار برميل من النفط) وعلى نحو 45 في المائة من احتياطي الغاز العالمي المستكشف (2868.886 تريليون قدم مكعب). وقد سمحت هذه الموارد بتراكم مستويات مرتفعة من إجمالي الاحتياطات الرسمية، حيث بلغت 1.080 مليار دولار تقريبا في نهاية سنة 2010.

عامل ثان أساسي هو ارتفاع عدد السكان مع وجود فئة الشباب الديناميكية. فعدد سكان منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بلغ 355 مليون نسمة في سنة 2010، وهو ما يمثل 7.1 في المائة من إجمالي عدد سكان الدول الناشئة والنامية. وبنظرة أعمق إلى المنطقة، يتبين وجود اتجاه مشترك بين الدول، حيث تستحوذ شريحة الشباب ما دون الـ25 عاما على 65 في المائة من إجمالي عدد السكان. وبفضل هذا التكوين الديموغرافي والموقع الجغرافي المتميز الذي يجعل من دول المنطقة بوابة طبيعية بين الشرق والغرب، يتم تصنيف منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا كسوق إقليمية ضخمة للتبادلات التجارية.

لكن مقابل نقاط القوة، ترزح المنطقة تحت أعباء التحديات المتجذرة فيها والتي تتلخص في أنظمة إدارة ضعيفة ومتدهورة وفساد مستشر في أعماق البنى التحتية السياسية والمؤسسية للقطاع العام، ومعدلات نمو متفاوتة بين مختلف الفئات السكانية داخل البلد الواحد وبين البلدان المختلفة، إضافة إلى ضعف السياسات الاجتماعية. والأهم هو عدم القدرة على المواءمة بين نمو إجمالي الناتج المحلي ونمو الاستخدام. كذلك ضعف المواهب، حيث إن نقاط القوة الديموغرافية تغذي مستويات البطالة المرتفعة، ولا سيما في أوساط الشباب والنساء. ويعزى كل ذلك إلى اختلال التوازن الحاصل بين المهارات المتوافرة والمهارات المطلوبة، ناهيك عن مسائل جودة التعليم والثغرات في القضايا المتعلقة بالتفريق بين الجنسين وأداء أسواق العمل. وفي هذا الصدد، قدر البنك الدولي أن المنطقة بحاجة إلى استحداث 40 مليون وظيفة جديدة بحلول عام 2020 لمجاراة مستويات العمالة الحالية وامتصاص حركة الوافدين الجدد إلى سوق العمل.

كما يقع ضمن نقاط الضعف، غياب التنويع الاقتصادي في دول المنطقة، حيث إن إيرادات النفط والغاز تشكل 70 في المائة تقريبا من إجمالي صادرات منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، و75 في المائة من عائدات الموازنات في دول المنطقة. كذلك، تعاني المنطقة من تدني مستوى التنافسية على صعيد استثمارات القطاع الخاص. ويحتل متوسط تصنيف منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا المرتبة 108 من بين 183 دولة بحسب مؤشر سهولة ممارسة أنشطة الأعمال 2011، الذي يشير إلى مستوى ملاءمة البيئة التنظيمية لإنشاء وتشغيل الشركات المحلية.