إلى أين يتجه الاقتصاد الصيني؟

بوادر تباطؤ في نموه

جانب من البورصة الصينية (رويترز)
TT

زادت ظلمة الليل قليلا هنا في المدينة الرئيسية في جنوب شرقي الصين، في قلب أحد أكبر معاقل التصدير في البلاد. لم تكن هذه سوى علامة على التراجع البسيط في آفاق الاقتصاد الصيني الذي توقعه رئيس الوزراء وين جياباو الاثنين الماضي، عندما أعلن أن الحكومة خفضت الحد الأدنى لمعدل النمو المستهدف لسنة 2012 إلى مستوى يتوقع أن يكون أدنى معدل له منذ ما يزيد على عقدين، إذا واصل معدل النمو تراجعه بهذا القدر.

وفي السابق كانت مواقع البناء في أنحاء غوانغ زو تضاء بأنوار ساطعة كي يستمر العمل بها ليلا في غابات الأبراج السكنية والإدارية الجديدة التي تناطح النجوم، أما اليوم، في ظل موجة الركود العقاري التي تجتاح البلاد، فلم يعد عمال البناء يبدأون مشاريع جديدة أو يتكاتفون لإتمام المشاريع التي يجري العمل فيها بالفعل، وبالتالي لم تعد هناك حاجة لإضاءة مواقع العمل ليلا.

وبحسب تقرير لـ«نيويورك تايمز» أعده كيث برادشريبدو أن الاقتصاد الصيني، بعد ثلاثة عقود تقريبا من النمو السريع والمتواصل، بدأ يستقر على وتيرة ما زالت قوية ولكنها كانت أكثر هدوءا من ذي قبل، وإن كانت بعض القطاعات ما زالت تقاوم، مثل قطاع الصادرات وقطاع بناء الإسكان الفاخر.

وذكر رئيس الوزراء في تقريره السنوي، الذي قدمه إلى «المجلس الشعبي الوطني» الاثنين الماضي في بكين، أن الحكومة خفضت من معدل النمو الاقتصادي المستهدف إلى 7.5 في المائة للعام الحالي، وهو أقل من معدل 8 في المائة الذي حددته بكين كحد أدنى مستهدف لمعدل النمو في الأعوام الأخيرة. وإذا جاء معدل النمو عند مستوى 7.5 في المائة، فسيكون هذا هو أدنى معدل يصل إليه الاقتصاد الصيني منذ 22 عاما.

وبعد أن قدم جياباو تقريره المطول، الذي تم بثه على مستوى البلاد وشاهده الملايين عبر شاشات التلفزيون في البيوت والمتاجر في جميع أنحاء غوانغ زو، بدت الحالة النفسية في مواقع البناء والمناطق الصناعية أكثر تشاؤما من المعتاد.

واشتكى العاملون بإحدى أسواق الجملة من ندرة الزبائن، وقال عمال تجمعوا عند مدخل أحد المصانع، إن فرص العمل المتاحة أصبحت قليلة للغاية باستثناء الوظائف التي تقدم أجورا زهيدة، وقال العاطلون في أحد مكاتب التوظيف، إنهم حتى لو وجدوا عملا فلن يكون لديهم أمل في شراء شقة، حيث تباع عادة بأسعار تتجاوز إمكانياتهم.

صباح الاثنين الماضي، وقف سو ويزهونغ وثلاثة من الموظفين أمام طاولة العرض وهم لا يجدون أي شيء يفعلونه داخل متجر للأدوات الصحية في سوق الجملة.

قال سو «منذ عام كان هناك زبائن في كل المتاجر، يتفرجون ويسألون عن الأسعار، لكن المشاريع أوشكت على الانتهاء، ولكن لا توجد أي مشاريع جديدة على الإطلاق هذا العام». ونظرا لأن الصين كانت محرك النمو الرئيسي في العالم خلال السنوات الأخيرة، فإن أنباء حدوث تباطؤ فيها لن تكون محل ترحيب بالنسبة للاقتصاد العالمي، وكذلك توقعات زيادة حالة السخط بين السكان، وهي مشكلة مستمرة تقلق بكين إذا لم تتمكن من الوفاء بطموحات طبقة متوسطة آخذة في النمو.

إلا أن كثيرين من خبراء الاقتصاد يرون أن الولايات المتحدة يمكنها الاستفادة من تباطؤ معدل النمو في الصين من عدة نواح، حيث ساعد إقبال الصين على السلع الأساسية على رفع أسعار كل شيء من النفط إلى الحديد الخام، لكن هذه الضغوط على الأسعار يمكن أن تهدأ مع تحول الصين إلى التركيز على نموذج توسع اقتصادي أبطأ ولكنه أكثر استدامة.

ورغم أن تباطؤ سرعة النمو قد يضعف طلب الصين على الواردات، فإن هذا لن يكون له تأثير يذكر على معظم الشركات الأميركية، حيث كانت الصادرات إلى الصين تمثل 0.6 في المائة فقط من الناتج الاقتصادي للولايات المتحدة العام الماضي.

في أوج نشاط الاقتصاد الصيني سنة 2007، بلغ معدل النمو السنوي 14.2 في المائة، ثم تراجع إلى 10.4 في المائة سنة 2010، والآن تحاول الحكومة توجيه الاقتصاد نحو حد أدنى لمتوسط النمو السنوي يبلغ 7 في المائة حتى 2015.

ويعكس تباطؤ النمو جزئيا محاولة الحكومة تحويل الاقتصاد بدرجة أكبر نحو الاستهلاك الفردي، مع تقليل التركيز على الصادرات والاستثمار في مشاريع البنية التحتية والإنشاءات المحلية الكبرى. غير أن مسؤولي الحكومة ظلوا منذ منتصف فبراير (شباط) يلمحون إلى أن معدل النمو ربما يشهد تباطؤا أكبر مما كانوا يريدون.

وقد وافق البنك المركزي يوم 18 فبراير على أن تقوم البنوك التجارية الحكومية بزيادة حجم الإقراض من أصولها، وبعدها بأسبوع أعلنت وزارة التجارة أنها تعد خططا لزيادة نسب رد الضريبة للمصدرين، بعد تأثير المشكلات المالية على حجم الطلب في أوروبا، أكبر سوق للصادرات الصينية. وقالت وزارة التجارة أيضا أنها تبحث عن طرق للتغلب على حالة الركود التي حدثت هذا الشتاء في الاستثمار الأجنبي القادم من أوروبا والولايات المتحدة.

وبعد فترة وجيزة من حديث جياباو الاثنين الماضي، احتشد عشرات العمال العاطلين في انتظار إجراء مقابلات معهم خارج أبواب مجمع صناعة الإلكترونيات الضخم «ليتيون غوانغ زو»، ووراءهم مجموعات من وكلاء التوظيف الذين أحضروا العمال في حافلات وكانوا يأملون في الحصول على عمولة من «ليتيون» لأنهم ساعدوها في العثور على أيد عاملة.

ويتصاعد الحد الأدنى للأجور في المدن بشكل سريع، وخاصة هنا في غوانغ زو وغيرها من الأماكن في الإقليم الصناعي بدلتا نهر بيرل جنوب شرقي الصين، ومن المفترض أن يواصل ارتفاعه بنسبة 13 في المائة سنويا طبقا للخطة الخمسية التي تبنتها بكين. غير أن كثيرين من طالبي الوظائف وأصدقائهم في المصانع المجاورة قالوا إنهم لا يشعرون بأنهم استفادوا من وجود نقص في العمالة.

يقول غاو كينغ، شاب في الواحد والعشرين من عمره كان يأمل في الحصول على منصب مفتش جودة «من السهل العثور على أي وظيفة، ولكن من الصعب العثور على وظيفة جيدة». كثير من الوظائف المتاحة لا تقدم سوى الحد الأدنى من الأجور، وهو نحو 200 دولار شهريا من دون الأجر الإضافي، وكثير من هذه الوظائف تكون في مصانع صغيرة لها سمعة سيئة في الالتزام بسداد أجور العمال في وقتها. ويقول غاو وغيره من العمال، إن بعض المصانع الأصغر حجما خفضت أو ألغت البدلات التقليدية المتعلقة بالغذاء والسكن والمزايا الأخرى التي يحصل عليها العمال لكي تعوض تكلفة رفع الحد الأدنى للأجور.

وبعد ظهر الاثنين الماضي داخل مكتب توظيف في وسط المدينة بغوانغ زو، قال ما ياوغوانغ، حارس أمن عاطل، إنه قلق للغاية ولا يعرف كيف سيدفع 30 إلى 45 دولارا في الشهر إيجارا لغرفة صغيرة حتى لو تمكن من العثور على عمل. وأضاف الرجل معبرا عن قلق عشرات الملايين من الشباب الصيني «لا أستطيع حتى أن أحلم بامتلاك شقة».

ويعتبر الارتفاع الهائل في أسعار العقارات الشغل الشاغل للبلد بأكمله، فالشقة التي تصل مساحتها إلى ألف قدم مربع في قلب غوانغ زو تتكلف تقريبا ما يعادل 300 ألف دولار، أي تقريبا 50 ضعف الأجر السنوي المبدئي لخريج الجامعة الذي يمتلك تخصصا مطلوبا في السوق مثل هندسة الكومبيوتر، وإن كان الخريجون الذين يعثرون بالفعل على وظائف في مجال تخصصهم يبدأون عادة في الحصول على علاوات منتظمة.

في الوقت ذاته، تحاول الحكومة تخفيض أسعار العقارات لجعلها في متناول عدد أكبر من السكان، دون التأثير على ثقة المستثمرين بدرجة تؤدي إلى الدخول في دوامة تراجع الأسعار لعدة سنوات مثلما حدث في الولايات المتحدة. وقد ارتفعت مقدمات العقود لتصل إلى 40 في المائة أو أكثر، وهناك قوانين كثيرة لا تشجع المستثمرين على شراء أكثر من منزل واحد.

وتعاني المؤشرات الحكومية والخاصة لأسعار العقارات السكنية في الصين كثيرا من العيوب المنهجية، لكنها تتفق حاليا في وجود انخفاض بسيط في الأسعار، إلى جانب تراجع كبير في عدد معاملات البيع والشراء في ظل انتظار المشترين لمزيد من الانخفاض في الأسعار. ويقول اثنان من السماسرة العقاريين في غوانغ زو، إن الأسعار هنا انخفضت بنسبة تصل إلى 20 في المائة خلال العام الماضي، وقد كلف التباطؤ في سوق العقارات على مستوى البلاد آلاف الوكلاء وظائفهم وأدى إلى إغلاق المئات من مكاتب السمسرة.

ويقول أحد السماسرة هنا ذكر اسمه الأخير فقط (ليونغ) لأنه يخشى العقاب بتهمة التشكيك علنا في سياسات الحكومة «لا توجد رغبة شرائية في السوق حاليا».

وقد قررت الحكومة التوسع بصورة كبيرة في إسكان محدودي الدخل، ولكن هنا في غوانغ زو وفي جميع أنحاء الصين، يوجد تشكك كبير فيما إذا كانت هناك حاجة إلى اتصالات سياسية للحصول على تلك الشقق، التي يفترض أن تكون أسعارها أقل قليلا من نصف سعر القدم المربع في العقارات التي تباع في السوق التجارية.

أيضا فقد ضعفت حركة الصادرات هذا الشتاء، وهو اتجاه يتوقع أن يستمر في إحصاءات شهر فبراير، والتي ستعلن هذا الأسبوع، بعد تعديلها كي تتناسب مع السنة الصينية الجديدة. وفي حوار هاتفي قال زو واي، مدير التصدير بشركة «هاي هوب زونغ دينغ كوربوريشن» التي تنتج المصابيح والفوانيس الملونة في نانيانغ، إن الطلبات انخفضت بنسبة 30 في المائة عن العام السابق وما زالت تقل، ويعود ذلك في الأساس إلى تباطؤ الاقتصاد الأوروبي. ويشكو أباطرة التجارة الصينيون من أن ارتفاع الأجور بشكل حاد والتشدد في قوانين العمل والبيئة يؤديان إلى زيادة التكاليف التي يتحملونها ويضعفان من القدرات التنافسية للبلاد، بحسب ما قاله ستانلي لاو، نائب رئيس «اتحاد صناعات هونغ كونغ»، وهو عبارة عن نقابة مهنية يشغل أعضاؤها 10 ملايين شخص في منطقة دلتا نهر بيرل.

واختتم قائلا «الزيادات في الحد الأدنى للأجور سريعة جدا وكبيرة جدا، ونحن أيضا قلقون من القوانين الجديدة التي ستصدر، فهي كثيرة جدا وتعد بسرعة جدا».