أوروبا تدرس الاختيار بين التجارة الحرة والتجارة العادلة

وسط اتهامات لها بأنها تنهى عن شيء وتأتي بمثله

TT

فتحت أوروبا أبواب جهنم حين حاولت التوفيق بين التجارة الحرة والتجارة العادلة.

فقد تبنت المفوضية الأوروبية تحت ضغط من الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي مقترحات يوم 21 مارس (آذار) الماضي من شأنها استبعاد الشركات الأجنبية من المزايدة على العقود الحكومية بالاتحاد الأوروبي إن كانت البلدان الأم لهذه الشركات لا تعامل الشركات الأوروبية بالمثل.

وبحسب «رويترز»، أصرت المفوضية، وهي الذراع التنفيذية للاتحاد الأوروبي وطالما ساندت التجارة الحرة ووقفت ضد الحماية التجارية، على أن هذا الإجراء يهدف إلى فتح أسواق عقود حكومية مربحة في بلاد مثل اليابان والولايات المتحدة والصين وليس إغلاق أسواق الاتحاد الأوروبي.

وتقول المفوضية إن صفقات المشتريات الحكومية في أنحاء العالم تقدر بمبلغ تريليون يورو سنويا وتتنوع بين شق الطرق ومد السكك الحديدية وتوريد البرمجيات وتشغيل شبكات البيانات. وتضيف المفوضية أن السوق الأوروبية منفتحة بدرجة أكبر بكثير من أسواق المنافسين.

وتسمح اليابان للشركات الأجنبية بالمشاركة بنسبة تقل عن ثلاثة في المائة في إجمالي العقود الحكومية، وتبدي الولايات المتحدة انفتاحا أكبر قليلا. ويستفز مسؤولي الاتحاد الأوروبي تزايد عدد البنود القانونية التي تحابي المنتج الأميركي في المنظومة التشريعية الأميركية في الفترة الأخيرة.

ويجب أن تحصل الخطة على اعتماد البرلمان الأوروبي وأغلبية مؤهلة من حكومات الاتحاد وهذا ليس في حكم المؤكد. لكن الخطة نجحت بالفعل في تحريك جدل ساخن.

ويقول منتقدوها، ولا سيما من البريطانيين المناصرين لحرية التجارة، إن هذه المقترحات تبعث برسائل خاطئة وستضع أوروبا على منحدر زلق يؤدي إلى إحاطة الأسواق بأسوار بدلا من فتح أبوابها.

وكانت دراسة للحكومة البريطانية حول السياسة التجارية صدرت في عام 2011 قالت إن مبدأ المعاملة بالمثل قد يبدو «منطقيا من حيث الشكل»، لكنه قد يفتح الأبواب أمام الحماية التجارية.

وقالت الدراسة «لا ترى الحكومة وجوب غلق الاتحاد الأوروبي أسواقه إن كانت أسواق الآخرين غير مفتوحة. ذلك قد يضعف القوى التنافسية ويزيد التكاليف و(في جانب المشتريات) يخفض القيمة مقابل المال بالنسبة لدافعي الضرائب في الاتحاد الأوروبي».

ولا تتحمس ألمانيا، أكبر دولة مصدرة في أوروبا، للخطوة خشية رد فعل انتقامية ضد منتجاتها من السيارات والكيماويات والمعدات الصناعية التي لا تبرح تغزو أسواق آسيا النامية.

وذهب ساركوزي الذي طالما دعا إلى تطبيق المعاملة التجارية بالمثل واعتبر أوروبا «ساذجة» بعيدا حين دعا الاتحاد الأوروبي إلى تبني قانون «اشتر الأوروبي» على غرار «اشتر الأميركي» حتى يتم قصر أسواق معينة على المنتج المحلي.

وفي خطاب ضمن حملته الانتخابية الشهر الماضي، هدد ساركوزي بفرض قيود من جانب واحد على العقود الحكومية ما لم يتدخل الاتحاد الأوروبي. وهذه الخطوة في حال تطبيقها ستشكل مخالفة للقانون الأوروبي.

ويضع هذا الخلاف شأنه شأن كثير من المعارك التجارية مصالح المنتجين في صدام مباشر مع مصالح المستهلكين ويكشف عجز أوروبا عن تصدير نظامها للحوكمة القائمة على القوانين إلى العالم.

وتقول دراسة أعدت لصالح الحكومة الفرنسية إنه خارج إطار أسواق المشتريات الحكومية تواجه شركات التصنيع الأوروبية معضلة متزايدة وهي - المنافسة غير العادلة - مع بلاد تطبق معايير أدنى في قطاعات العمالة وحماية البيئة والسلامة.

وتعرض الدراسة التي أعدها رجل الصناعة المخضرم آفون جيكوب والمسؤول بوزارة الاقتصاد سيرجي جيون، بعنوان (وضع حد للعولمة غير العادلة)، شكاوى معتادة من تمويل الشركات المدعومة حكوميا في الصين وسرقات الملكية الفكرية وإدارة أسعار الصرف.

وترصد الدراسة مواضيع من قبيل إخفاق السلطات الأوروبية في مراقبة استخدام ملصق الجودة CE الذي يهدف إلى تطمين المستهلك بأن السلع متوافقة مع معايير السلامة المتبعة في الاتحاد الأوروبي.

وفي الواقع العملي، يضع المستوردون شعار CE على منتجات تتنوع بين الأجهزة المنزلية ولعب الأطفال دون أن تخضع لمراقبة مسؤولي الجمارك الوطنية في موانئ الوصول.

ويقول جيكوب، وهو مشرع محافظ سابق ويعتبر نفسه مدافعا عن العولمة الحرة، في مقابلة «إنه خطأ أوروبا ذاتها. أوروبا لا تشرف على أسواقها التي تعد الأكبر عالميا».

وقال لـ«رويترز»: «الاتحاد الأوروبي فرض معايير فنية ومعايير سلامة على صناعتنا لا تنطبق في أماكن أخرى ولا يتم التفتيش عليها في السلع المستوردة». وضرب مثلا بصناعات الإطارات والقداحات والمنتجات الكيماوية.

ويقول يعقوب إن مصنعي الإطارات الأوروبيين قدروا أن نسبة 15 في المائة من الإطارات المستوردة التي تدخل الأسواق الأوروبية تكون دون معايير السلامة الأوروبية ولا أحد يفحصها.

وأضاف أنه بالنسبة للقداحات، فإن 76 في المائة من الواردات، ومعظمها من الصين، لا تفي بمعيار السلامة آيزو 9994 الذي يتعين على شركة «بيك» الفرنسية المنتجة للقداحات احترامه.

ويجبر تشريع «REACH»، الذي يفرضه الاتحاد الأوروبي، الشركات الأوروبية على إيجاد بدائل للمواد الكيماوية المعتبرة غير آمنة، وهذا فرض تكاليف إضافية لا يتحملها المنافسون ودفع بعض الشركات للإنتاج في بلاد خارجية تطبق معايير مخففة.

وكان رئيس مجموعة «إي إيه دي إس» للصناعات الجوية والفضائية، أبلغ جيكوب أن مجموعته تتكلف 80 مليون يورو سنويا لمجرد تغيير الطلاء على أجنحة طائراتها الـ«إيرباص» حتى تتماشى مع معايير «REACH»، بينما لا تواجه شركة «بوينغ» المنافسة مثلا هذه التكاليف.

ويعد هذا المبلغ تافها إن قارناه بمبيعات المجموعة من الطائرات التي تواجه تهديدا محتملا في معركة أخرى مع جهود بروكسل التي تسعى لإلزام طائرات الخطوط الجوية الأجنبية الراغبة في التحليق في المجال الجوي الأوروبي بشراء تصاريح تفيد بالتزامها بمعايير الاتحاد الأوروبي في مجال انبعاثات الكربون. وعلى وقع هذه الجهود، أجلت الصين شراء طائرات «إيرباص» بقيمة 14 مليار دولار.

ويناشد جيكوب وجيون الاتحاد الأوروبي وضع ضوابط جودة مدعومة بعقوبات بما يلزم بوضع ملصق EC على الواردات.

ويقترح الخبيران إنشاء مكتب أوروبي لمراقبة السوق الداخلية على غرار الوكالة الأوروبية لمكافحة الغش التجاري وتعيين عدد أكبر من الموظفين لمتابعة شكاوى الصناعة من الإغراق بأسعار أدنى من التكلفة.

وبغض النظر عن مدى عدالة هذه الشكاوى، فإنه من الصعب تخيل تعيين حكومات بلاد تمثل بوابات للسلع والخدمات المستوردة، مثل هولندا أو بلجيكا أو بريطانيا، جيوشا من مسؤولي الجمارك لمراقبة الواردات الصينية بمزيد من التدقيق.

والأرجح أن كفة موازين القوى في بروكسل ستميل لصالح دعاة تحرير الأسواق، لأن اتفاقية الاتحاد الأوروبي تمنح المفوضية مقاليد القرار في القضايا التجارية.

وحتى إن تم تبني الصلاحيات الجديدة المتعلقة بالمشتريات الحكومية، فإن موافقة المفوضية الأوروبية عليها تظل ضرورية لإنفاذها.