ونج كوك بون لـ«الشرق الأوسط»: السعودية أكبر شريك تجاري لسنغافورة على مستوى الشرق الأوسط

سفير سنغافورة لدى السعودية: التبادل التجاري بين البلدين بلغ 18.6 مليار دولار

ونج كوك بون سفير سنغافورة لدى السعودية («الشرق الأوسط»)
TT

استطاعت سنغافورة أن تصنع نجاحها الاقتصادي بشكل يدعو إلى الإعجاب، حيث قدمت نموذجا حيا للاقتصادات الآسيوية بامتياز، بجانب نجاحها في قطاعات التعليم والتكنولوجيا، إذ تصل فيها نسبة محو الأمية إلى 96 في المائة، في الوقت الذي انخفضت فيه نسبة البطالة في عام 2011 إلى 2 في المائة فقط.

وعزا ونج كوك بون، السفير السنغافوري لدى السعودية، ذلك إلى قدرة بلاده على صناعة مجتمع متماسك ذابت فيه كل الفوارق: الطبقية والعنصرية والاجتماعية، مما جعل منه شعبا متعايشا ومجدا ومتعلما، مترجما انتماءه لبلاده في صناعة أسباب التقدم والازدهار لسنغافورة في شتى المجالات.

وقال بون في حوار خاص لـ«الشرق الأوسط»: «إن سنغافورة دولة قابلة للحياة، يسود فيها نظام تكافؤ الفرص، على الرغم من أن الأغلبية الساحقة للسكان هم من العرق الصيني»، مشيرا إلى أن السعودية هي الشريك التجاري الأكبر لسنغافورة على مستوى منطقة الشرق الأوسط. وفيما يلي نص الحوار:

* برأيكم أين تكمن قوة سنغافورة «النمر الآسيوي»؟

- إن قوة سنغافورة تكمن في التعايش والانسجام بين الثقافات المتعددة المكونة للنسيج الاجتماعي في سنغافورة، حيث يغلب الاحترام المتبادل لثقافة الطرف الآخر ولغته ومعتقده، حيث تشكل جميعها جزءا لا يتجزأ من الشخصية السنغافورية.

واستطاعت سنغافورة أن تؤسس بنية بشرية متفوقة في صنع النجاح في كل المجالات: التعليمية والاقتصادية والسياسية والثقافية، فأصبحت قبلة للمستثمرين من كل أنحاء المعمورة، وبالتالي جذبت الشركات المتعددة الجنسيات لسوق مفتوحة للكل.

وساهم ذلك في جذب ما يفوق سبعة آلاف شركة متعددة الجنسيات تعمل في بلادنا في كل المجالات، مثل التصميم والتطوير والتصنيع وتسويق المنتجات المتطورة، كما أن سنغافورة تعد بمثابة نقطة انطلاق جيدة لرجال الأعمال الخليجيين، وبالأخص السعوديون الراغبون في الاستفادة من دول رابطة جنوب شرقي آسيا (آسيان) وكل الأسواق الآسيوية.

* على ذكر الوجود السعودي في سنغافورة.. كيف تنظر إلى السعودية كشريك تجاري وسياسي؟

- تعتبر السعودية أكبر شريك تجاري لسنغافورة على مستوى منطقة الشرق الأوسط، حيث ارتفع حجم التجارة البينية بين البلدين إلى نسبة تفوق الـ40 في المائة، ففي الوقت الذي بلغ فيه 13.2 مليار دولار في 2010، قفز إلى 18.6 مليار دولار في 2011.

أما على المستوى السياسي، فالعلاقة بين سنغافورة والسعودية علاقة ودية متينة على مستوى قياداتنا وشعبينا، حيث استطاع البلدان أن ينمياها بشكل سريع، ذلك لأن السعودية أخذت تتبنى سياسة التعامل النشط مع آسيا، فتزامن مع اتجاه سنغافورة إلى تعزيز معاملاتها مع كل من دول مجلس التعاون الخليجي والشرق الأوسط.

وكان قد سبق أن استضافت بلادي ولي العهد الراحل، الأمير سلطان بن عبد العزيز، في 2006، استقبلت بعده الكثير من الوزراء وكبار الشخصيات السعودية، وفي المقابل زار السعودية الكثير من الشخصيات السنغافورية رفيعة المستوى، منهم تشوك تونج، كبير وزراء سنغافورة في 2005 للمشاركة في منتدى جدة الاقتصادي.

وفي 2006 قام رئيس الوزراء لي هسيان لونج بزيارة السعودية، خلال جولته الافتتاحية لـ«الشرق الأوسط»، تلته زيارة الوزير الناصح لي كوان يو للسعودية مرتين في 2008، تحدث خلالهما في منتدى التنافسية العالمي ومؤخرا في منتدى الرياض الاقتصادي.

فيما كانت زيارة جورج يو، وزير خارجية سنغافورة، في 2010، وأتبعها زيارة أخرى لكل من الرياض وجدة هذا العام، وكان لهذه الزيارات أثر كبير في توطيد علاقات التعاون الثنائية بين البلدين، والوصول إلى فهم أفضل للتطورات الجارية في منطقة الشرق الأوسط وشرق آسيا، حيث يتبنى بلدانا وجهات النظر نفسها في الكثير من القضايا الدولية، مما أثمر عن تعاون وثيق في الكثير من القضايا ذات الاهتمام المشترك.

* ما هي استراتيجية بلدكم لتعزيز العلاقات بين البلدين؟

- تبني سنغافورة علاقتها مع السعودية من خلال منظور طويل المدى، حيث تم توقيع عدد من الاتفاقيات الثنائية لتعزيز التجارة والاستثمارات بين البلدين، بجانب توقيع اتفاقية ثنائية لضمان وحماية الاستثمار في 2006، واتفاقية التجارة الحرة بين دول مجلس التعاون وسنغافورة في 2009، وكذلك اتفاقية تجنب الازدواج الضريبي في 2010، كما تم تشكيل مجلس الأعمال السعودي السنغافوري في 2006.

إنني على ثقة تامة بأن العلاقات الاقتصادية بين بلدينا سوف تتوسع، وبخطى سريعة، فور دخول اتفاقية التجارة الحرة حيز التنفيذ، مما سيساعد في تشجيع وتسهيل التجارة البينية والاستثمارات، مع توفير فرص عمل جديدة في منطقتينا.

* ما أكثر مجالات التعاون بين البلدين حضورا؟

- تشمل مجالات التعاون بين بلدينا، التخطيط الاقتصادي، الطيران، التعليم وتدريب المهارات، والإدارة البيئية، حيث كان قد اختار خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز، البروفسور شي تشون فونغ ليرأس جامعة الملك عبد الله للعلوم والتكنولوجيا (كاوست)، وكان قد نقل تجربته في تطوير قدرات البحث والتطوير عندما كان يشغل منصب رئيس جامعة سنغافورة الوطنية.

كما يوجد أيضا سنغافوري آخر هو البروفيسور سو جواننج، الرئيس الفخري لجامعة نانيانج للتكونولوجيا والذي عمل في المجلس الاستشاري الدولي لجامعة الملك عبد العزيز، فضلا عن فيليب يو، الذي كان له دور فعال في تطوير الصناعة في سنغافورة، والذي يتقاسم خبرته الآن مع السعوديين لتحقيق التنوع الصناعي في المملكة.

وتقوم وزارة البيئة السنغافورية بالعمل مع نظيرتها السعودية في إدارة المياه النوعية، وكذلك في احتواء تفشي حمى الضنك في جدة، حيث ساهمت شركات سنغافورية في حملة تطوير المهارات في السعودية، إذ وقعت شركة «روتاري» الهندسية المحدودة مذكرة تفاهم مع المؤسسة العامة للتدريب التقني والمهني في مايو (أيار) 2010، وذلك بغرض إنشاء معهد للتدريب التقني في السعودية.

* تتطلع السعودية إلى بعض دول آسيا كشركاء محتملين في الزراعة والتكنولوجيا وغيرها.. فماذا لديكم في سنغافورة لتقدموه في هذه المجالات تحديدا؟

- طبعا تقع سنغافورة في مفترق الطرق التجارية بين شرق آسيا والشرق الأوسط، بجانب أنها واحدة من الدول العشر التي تشكل رابطة جنوب شرقي آسيا (آسيان)، ولدى جميع دول الآسيان إمكانيات ضخمة، والكثير منها يشهد نموا هائلا.

وتعد سنغافورة من أكثر البلاد صديقة للأعمال، وفقا لتقرير ممارسة الأعمال الصادر عن البنك الدولي في 2012، حيث هناك أكثر من سبعة آلاف شركة متعددة الجنسيات تعمل في سنغافورة في كل المجالات، مثل التصميم والتطوير والتصنيع وتسويق المنتجات المتطورة.

كما تعد سنغافورة بمثابة نقطة انطلاق جيدة لرجال الأعمال السعوديين الراغبين في الاستفادة من دول رابطة جنوب شرقي آسيا (آسيان) وكل الأسواق الآسيوية، حيث ترتكز قوة سنغافورة الاقتصادية، على توفر الأيدي العاملة المؤهلة والماهرة، في ظل نظام قضائي يتمتع بالشفافية والمصداقية، واستخدام اللغة الإنجليزية على نطاق واسع.

* ما التحدي الذي واجه سنغافورة حاليا؟

- أعتقد أن التحدي الأكبر لسنغافورة هو كيفية توفير السكن والتعليم والرعاية الصحية، والنقل العام، وتوفير فرص العمل والحدائق العامة ووسائل الترفيه، والأمن العام والدفاع - لعدد متزايد من السكان يعيشون في مساحة محدودة في حجم البحرين، وإلى حد ما تمكنا من التغلب على الكثير من التحديات بدقة التخطيط والتنفيذ، على سبيل المثال بلغت نسبة ملكية المنازل 90 في المائة، ونسبة محو الأمية 96 في المائة، ويبلغ متوسط عمر الفرد 82 عاما، في وقت وصلت فيه نسبة البطالة إلى 2 في المائة بنهاية عام 2011.

* لدى الشعب السعودي تصور إيجابي جدا عن سنغافورة من حيث التنمية والتقدم العلمي والتقني.. فهلا توضح لنا نظام التعليم في سنغافورة.

- إن التعليم والمعرفة جزء لا يتجزأ من استراتيجية التنمية الاقتصادية في سنغافورة، ونظامنا التعليمي جاد وصارم ولكنه مجزٍ جدا، باعتبار أن الشعب هو المورد الطبيعي الوحيد لدينا، لذا كان حتما علينا أن يكون بناء الإنسان أولوية وطنية، الأمر الذي جعل التعليم إلزاميا لجميع الأطفال في سنغافورة لمدة عشر سنوات على الأقل، غير أن نظامنا التعليمي أصبح أكثر مرونة في السنوات الأخيرة، وبالإمكان دمج مسارات تعليمية بديلة، مثل مدرسة الرياضة ومدرسة الفنون.

وعموما، هدفنا من التعليم هو غرز المعرفة والتفكير والمهارات الحياتية الأخرى بدلا من التركيز على اكتساب محتوى المناهج فقط، حيث كان شعارنا دائما منذ أن قمنا بإصلاح التعليم في 1995 هو «تدريس أقل ومعرفة أكثر»، وذلك لدعم اتجاهنا نحو التحول إلى اقتصاد قائم على المعرفة.

* ما هو تصنيف بلدكم بين النمور الآسيوية؟

- تم استخدام مصطلح «النمور الآسيوية» لوصف الدول الأربع ذات الاقتصاد المتوسط التي حققت معدل نمو سريع منذ عام 1970، وهي كوريا الجنوبية، تايوان، هونغ كونغ، وسنغافورة، حيث كانت لديهم جميعا استراتيجية تنمية متشابهة تقوم على الصناعة للتصدير، والاستثمار بكثافة في تطوير الموارد البشرية والتكنولوجيا والابتكار التي ترتبط بقوة بالاقتصاد العالمي، وهي عوامل تنافسية وفي الوقت نفسه تتعاون وتتكامل بعضها مع بعض.

ومع التغييرات الجوهرية التي يشهدها العالم الآن أصبح التصنيف بلا مغزى، حيث إن العالم يشهد الآن تغييرات جذرية ويتعامل اقتصاد كل بلد مع هذه التغييرات بطريقة مختلفة، غير أننا نقوم بالعمل على تطوير قطاعات الخدمة لدينا، مثل السياحة والتمويل والتأمين والتعليم والرعاية الصحية والخدمات اللوجيستية.

كما نرفع سلسلة القيمة في مجالات التصميم الصناعي، البحث والتطوير، البتروكيماويات، الإلكترونيات، صناعة المستحضرات الصيدلانية، أدوات الدقة، والهندسة البحرية والصناعات المتعلقة بها.

ولكن بشكل عام فإن الاقتصاد السنغافوري مرتبط ارتباطا وثيقا بالاقتصاد العالمي، مما يفرض علينا أن نكيف أنفسنا على التغييرات العالمية، وهذا مكننا من أن نصمد أمام الصدمات الاقتصادية التي حدثت في عامي 1997 و2008.

* وفقا لآخر الإحصاءات فإن 80 في المائة من مواطني سنغافورة يتملكون سكنهم الخاص.. كيف حدث ذلك؟

- تبلغ نسبة ملكية السكن في سنغافورة ما يقرب من 90 في المائة، وهي من أعلى النسب بالعالم، ونحو 82 في المائة يسكنون في المساكن العامة، حيث بدأ مشروع الإسكان العام في سنغافورة منذ نحو نصف قرن، وكان من أهم أولويات الحكومة أن يكون السكن في متناول السنغافوريين.

إن السكن في سنغافورة هو أكثر من مجرد توفير مأوى، بل هو بناء مجتمع ودولة، لأن امتلاك المسكن يجعل المواطن ركيزة أساسية في استقرار الدولة ونموها الاقتصادي. بالإضافة إلى ذلك يتم تخصيص الشقق بشكل يساهم في الاختلاط والتكامل بين ذوي الأعراق المختلفة والحفاظ على مساحات مشتركة عامة تتمتع بها كل التجمعات السكنية.

وكان قد تأسس مجلس الإسكان والتنمية في عام 1960، وكان من أسباب نجاحه التمتع بالسلطة الكاملة في التخطيط العقاري والإدارة، وتدريب المهندسين والعمال، وتخطيط الموارد والمشتريات، وكذلك في منح عقود البناء وتخصيص الشقق بشفافية ونزاهة.

وبسبب صغر مساحة سنغافورة فقد استطاعت أن تطور اقتصادها من خلال مشاريع اقتصادية صغيرة وناجحة، غير أن التحدي يبقى في كيفية الإبقاء على رضا الناس، بينما يبلغ معدل الكثافة السكانية 7257 فردا لكل كيلومتر مربع.

* وكيف كانت تسير عملية تمليك العقار؟

- على الرغم من الدعم الحكومي فإن المالك يدفع ثمن الشقة ومبلغا شهري للصيانة، فيما يتوفر التمويل من جانب مجلس الإسكان والتنمية أو البنوك التجارية، على أن يتم خصم القسط الشهري من حساب البنك الشخصي للمالك في صندوق الادخار المركزي، وهو صندوق للمعاشات يقوم على مساهمات إلزامية من كل من صاحب العمل والموظف ليوضع بالحساب الشخصي للموظف.

ولعل أهم جانب في المساكن العامة في سنغافورة هو الاهتمام بإدارة العقارات وتطويرها، حيث يقوم مجلس الإسكان والتنمية بالتخطيط للمدينة بشكل كلي، وليس بالتركيز على المباني الفردية، وذلك مع الأخذ في الاعتبار كل احتياجات السكان؛ من مواصلات ومراكز تجارية وترفيهية واجتماعية مزودة بكل المرافق الأساسية.

كما تتم إعادة بناء وتطوير المناطق القديمة وتزويدها بتسهيلات جديدة لتيسير الحياة فيها، حيث تم الاعتراف عالميا بجهود مجلس الإسكان والتنمية، ففي عام 1992 فاز المجلس بجائزة برنامج الأمم المتحدة للمستوطنات البشرية عن تصميمه لمدينة تامبين، وفي عام 2008 فاز المجلس أيضا بجائزة الأمم المتحدة عن الخدمة العامة، وفي عام 2010 حصل المجلس على جائزة لوحة الشرف من برنامج الأمم المتحدة للمستوطنات البشرية.

* ما هي أكبر الجماعات العرقية في بلدكم؟ وما هو موقع المسلمين؟

- تتمتع سنغافورة بتنوعها العرقي والثقافي والديني، غير أن أكبر ثلاثة مجموعات عرقية لدينا هم الصينيون والمالاي والهنود، كما يوجد أيضا من هم من أصول عربية في سنغافورة. ولذلك تعد سنغافورة بوتقة تذوب فيها كل الأعراق، بل هي مجتمع متعدد الثقافات، وهذا هو مصدر قوتنا في عالم تسود فيه العولمة.

إن الاحترام المتبادل بين ذوي الثقافات واللغات والدين المختلف سمة لا تتجزأ من الشخصية السنغافورية، حيث تسود روح التسامح وعدم التمييز الذي تم تعزيزه بالدستور، كما أننا ندرك تماما أن الصراعات الطائفية التي شهدناها بالماضي يمكن أن تعود لو تجردنا من هذه المبادئ؛ لذا سنستمر في النضال من أجل المساواة ونشر التسامح بين الطوائف.

وفيما يتعلق بالمسلمين في سنغافورة، فإن عددهم يقارب 14 في المائة من عدد السكان، أغلبهم من جنوب شرقي آسيا والباقي من أصول جنوب آسيوية أو عربية أو صينية. ولدينا وعي وإدراك شديدان بضرورة عدم الخوض في صراعات طائفية أو أن تقوم الغالبية الحاكمة بقمع الأقليات، حيث إن نسبة 75 في المائة من السنغافوريين من أصل صيني.

* وماذا عن حقوق الأقليات في سنغافورة؟

- إن حقوق الأقلية المسلمة محفوظة في سنغافورة ويتمتعون بإعفاء خاص في التعليم والسكن، كما أنه يتم ترسيم الدوائر الانتخابية، بحيث تضمن أن يكون للأقليات صوت في البرلمان.

وفي عام 1988 تم إنشاء دوائر الكتل الحزبية لضمان تمثيل الأقليات في البرلمان، بحيث يتم التصويت لتلك الكتل كمجموعة، على أن تشمل ما لا يقل عن عضو واحد لكل أقلية عرقية، وفي إطار هذه الخطة يتم طرح آراء وهموم الأقليات على التشريعات المقترحة في البرلمان، كما أن للمسلمين مكتبا خاصا لتسجيل عقود الزواج الإسلامية.