محاذير من فوضى التحولات.. ودعوة إلى ربيع اقتصادي عربي

قادة المال والأعمال يعربون عن مخاوف وطموحات في منتدى الاقتصاد العربي ببيروت

رئيس الوزراء التونسي حماد الجبالي (يمين) مع رؤوف أبو زكي رئيس مجموعة الاقتصاد والأعمال اللبنانية أثناء جلسات المنتدى (إ.ب.أ)
TT

المخاوف من فوضى التحولات، والدعوة إلى ربيع اقتصادي، عنوانان بارزان تصدرا اهتمامات مئات من قادة الأعمال والمال والاقتصاد الذين يشاركون في منتدى الاقتصاد العربي الذي بدأ أعماله أمس في بيروت.. الأول التحذير من انحرافات تطرأ على التحولات الحاصلة في بعض البلدان العربية بحيث يتحول ربيع الثورات إلى فوضى عارمة، والثاني الدعوة بإلحاح لتصويب مسارات الاقتصادات للعودة إلى النمو واستقطاب الاستثمارات الخارجية بعد الخسائر الحادة الناتجة عن الاضطرابات والاستنزاف الحاد للاحتياطات المالية ومخزون العملات الصعبة.

واختار رئيس الوزراء التونسي حمادي الجبالي منصة المنتدى لعرض الاستراتيجية الوطنية للنهوض في أول بلدان الربيع العربي، فرأى أن «فشل السياسات السابقة في تحقيق النمو والتنمية فرض تحديات كبرى تلزم الجميع بالعمل معا باتجاه مزيد من التوافق الداخلي والانخراط في عقد اجتماعي يقدم المصلحة الوطنية على المصالح الحزبية والفئوية الضيقة وتسوده روح المواطنة المسؤولة، لأن النجاح في ذلك يعني دون شك نجاح ثوراتنا، أما الإخفاق فسيؤثر حتما على هذا المسار المبارك ويقضي على آمال شعوبنا في الحرية والكرامة. وفي هذا الإطار تستعد تونس لبناء مرحلة جديدة بصياغة دستور جديد لإقامة أركان دولة القانون والحرية والعدالة الاجتماعية في ظل توافق مجتمعي».

وفي تأكيد لأهمية الانفتاح قال «لا يختلف اثنان على أنه لا تنمية حقيقية ومستدامة من دون بنية أساسية عصرية ومتكاملة تتيح تنقل السلع ورؤوس الأموال واليد العاملة بكل انسيابية ويسر، مما يكفل حركية اقتصادية مزدهرة تحقق النمو المطرد. ومن ناحية أخرى، فإن أي سياسة تنموية لا يمكن أن تؤتي أكلها وتحقق غاياتها ما لم يعضدها نظام مالي قوي وشفاف. لذا، يتوجب علينا إصلاح القطاع المصرفي حتى يضطلع بدوره في تمويل التنمية على الوجه الأكمل، هذا إلى جانب إدراج وتعزيز منظومة المالية الإسلامية التي أظهرت درجة عالية من المناعة والحصانة أتاحت لها الصمود أمام الأزمات المتتالية ومكنتها من الحفاظ على مكاسبها».

وأكد الجبالي أن «للقطاع الخاص دورا محوريا في المسيرة التنموية، وندعو رجال الأعمال العرب إلى الاضطلاع بمسؤوليتهم التاريخية على الوجه الأكمل من خلال معاضدة جهود حكوماتنا في مسعاها للاستجابة للطلبات المشروعة لشعوبنا. فالشراكة بين القطاعين العام والخاص أداة فعالة ووسيلة ناجعة لتجسيد البرامج التنموية في كل المجالات خاصة تلك المتصلة بالخدمات والمناطق اللوجيستية والمركّبات التكنولوجية وشبكة التنقل الحديدية السريعة وشبكة الطرقات السيارة والمطارات والموانئ التي تستجيب لمعايير الجودة العالمية، فضلا عن البنية التحتية الطاقية والاتصالية والرقمية التي تتطلب موارد مالية ضخمة لا يمكن لميزانية الدولة أن تتحملها وحدها».

وقال «لست أذيع سرا إذا قلت إن تونس الجديدة، رغم الظروف الصعبة التي مرت بها، حققت أرقاما إيجابية في وقت وجيز، حيث ارتفع معدل النمو من 1.8 سلبي إلى 2 إيجابي، وتطور حجم الاستثمار الخاص في القطاع الصناعي بنسبة 42 في المائة، وارتفع الاستثمار الخارجي بنسبة 35 في المائة خلال الثلاثية الأولى لعام 2012. وحافظت تونس على تنافسيتها الاقتصادية على الصعيدين العربي والأفريقي وما زالت، إضافة إلى كونها بلدا جاذبا للاستثمار وضامنا له، لا تعوزه الفرص الاستثمارية في كل القطاعات كالصناعات الميكانيكية والكهربائية والغذائية والتحويلية والنسيج والزراعة والسياحة والخدمات، وهي مجالات خصبة».

وأشار رؤوف أبو زكي، رئيس مجموعة الاقتصاد والأعمال، إلى أنه «في ظل تطورات الربيع العربي وتداعياتها المتسارعة فإننا نواجه تغييرات جذرية في أوضاع كانت مستقرة لعقود طويلة، وقد أدى ذلك الاستقرار، رغم الأساس الخاطئ الذي قد يكون بني عليه، إلى استقرار في التعاملات، كما نشأت في ظله مصالح كبيرة وخيارات اقتصادية أقرب إلى التوجهات التي تم تعميمها بفضل تيار العولمة. أما الآن فإن الوضع في العديد من الدول العربية خصوصا دول الربيع العربي يبدو مفتوحا على احتمالات عدة، وهناك نسبة كبيرة من الشعارات التي قد تتسبب في حصول تجارب وأخطاء على غرار ما شهدناه خلال هيمنة الأفكار الاشتراكية. وفي ظل تلك الأوضاع نخشى من حصول جمود مرحلي في حركة الاستثمارات العربية البينية والتي كانت أسهمت في تحريك التنمية وإيجاد فرص العمل في العديد من الدول العربية».

واعتبر رئيس مجلس إدارة جمعية مصارف لبنان جوزيف طربيه، أن «الأجوبة الشافية للأسئلة الكبرى المتعلقة بالأحداث التاريخية الجارية ما زالت صعبة ومتعذرة: فهل بلغت هذه الموجة مداها، وعلام ستستقر، وما هو مستقبل الشعوب والدول في هذه المنطقة الاستراتيجية من العالم، وأي أنظمة سياسية واقتصادية سيطالها التغيير، وأي أنظمة ستقوم بدلا منها، واستتباعا هل من نظام عربي جديد ومنظومة جديدة للعمل المشترك؟».

وقال «الثابت أن التغيير حصل ويحصل ورياحه تلفح المنطقة بكاملها. وقد يكون مبكرا الحكم على النتائج المحققة ما دامت حركة التحول في أوج تفاعلاتها، لكن ثمة إشارات متباينة تطفو على سطح الأحداث ربما نتجت عن سرعة هذه التغييرات وشموليتها ونوعيتها». وأضاف أن «التأثير المباشر لهذه التحولات في تحديد المسارات المستقبلية لدول المنطقة بكاملها، بما يشمل إعادة هيكلة الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية، يدعونا إلى التحذير من انحراف مسار التغيير، وبالتالي تحول الربيع إلى صيف حار يحول الاستقرار الهش السابق إلى فوضى خطيرة تستنزف رصيد الأهداف التي سعت إليها الثورات والاحتجاجات الشعبية. لذا فإن المهمة الواجبة الجامعة للقوى التي قادت التغيير في بلدانها أن تتكاتف وتعكف، بجد وصدق، على صياغة مفاهيم ودساتير جديدة تضمن الحريات الأساسية وتؤمن الإصلاح وسيادة القانون وتحقيق العدالة الاجتماعية والتنموية. وبعدها فلتحكم المؤسسات ومن اختاره الناس لإدارة هذه المؤسسات». ولفت طربيه إلى أنه «في ظل هذه المناخات، يواجه لبنان ظروفا معقدة على الصعيد السياسي والاقتصادي، انعكست فيها بعض آثار الأحداث العربية خاصة الوضع السوري الملتهب على حدوده وتلاحق الضغوط الدولية خاصة عن طريق فرض العقوبات الاقتصادية والمالية على سوريا، والتي انعكست على النشاط المصرفي فيها، وقلصت إلى حد كبير من حجم العلاقات الاقتصادية والمصرفية بين لبنان وسوريا. لكن على الرغم من ذلك، استمر القطاع المصرفي اللبناني في أدائه القوي خلال عام 2012، حيث أظهرت المؤشرات للشهرين الأولين من العام الحالي تحسنا قياسا إلى الفترة ذاتها من العام السابق، إذ ارتفع إجمالي أصول المصارف التجارية بنسبة 2.5 في المائة في مقابل نسبة نمو أدنى بلغت 0.8 في المائة في الفترة ذاتها من عام 2011. وازدادت التسليفات للقطاع الخاص بنسبة 2.7 في المائة في مقابل ازدياد الودائع الإجمالية بنسبة 1.5 في المائة، كما حافظت موجودات مصرف لبنان بالعملات الأجنبية على مستواها والذي يقارب 31 مليار دولار أميركي».

بدوره، لفت حاكم مصرف لبنان رياض سلامة إلى أنه «على الرغم من ضخ 14 تريليون دولار أميركي من قِبل الحكومات والمصارف المركزية في العالم منذ اندلاع الأزمة المالية في عام 2008، فإن النمو ما زال خجولا، والبطالة مرتفعة في معظم دول مجموعة العشرين، وإن انخفاض نسبة الفائدة إلى ما يقارب الصفر في المائة في الدول الصناعية لم يساعد على إعادة عجلة التسليف إلى ما كانت عليه قبل عام 2008، وذلك لغياب الثقة ولضرورة تحسين نسب الملاءة لا سيما بعد مقررات (بازل 3). كما أن أزمة الديون السيادية في أوروبا وأساليب معالجتها كان لها تأثيرها السلبي على الثقة، وجعلت أسواق التسليف عامة تعيش حالة من الانكماش».

وأكد أن «لبنان لم يتأثر بهذه الأزمة الدولية لاعتماده نموذجا مصرفيا خاصا به، مما جنبه فقدان السيولة في المضاربات، وسمح بتوجيه هذه السيولة، بمساعدة تحفيزات مصرف لبنان، نحو التسليف الإنتاجي والسكني والبيئي. وإن مصرف لبنان، في هذه الظروف، حريص، وبالتعاون مع المصارف اللبنانية، على المحافظة على سلامة وسمعة القطاع. فنحن نتوجه، وبناء على معايير (بازل 3)، إلى زيادة ملاءة المصارف لتصبح 12 في المائة في عام 2015 عن طريق زيادة رؤوس أموالها من دون تخفيض تسليفاتها».

من جهتها، اعتبرت نائبة مدير عام صندوق النقد الدولي نعمت شفيق أن «الوضع في العالم اليوم هو أفضل مما كان عليه قبل بضعة شهور، فقد بدأت الولايات المتحدة الأميركية الخروج ببطء من الأزمة، وكذلك أوروبا بفضل سياساتها الوقائية والجهود التي تبذلها لاحتواء الأزمة. كما أن استمرار الاقتصادات الناشئة بأداء قوي أسهم في تحسن الأداء العالمي، فالاقتصاد العالمي في طريقه نحو الانتعاش، ونتوقع أن تبلغ نسبة نموه نحو 3.5 في المائة خلال عام 2012. لكن تظل هناك مخاطر يجب التعامل معها. ومن أجل ذلك يجب على أوروبا التعاون مع صندوق النقد الدولي والبنك المركزي الأوروبي لتحقيق الاستقرار المالي الدائم وإعادة بناء الثقة من خلال إظهار قدرة على العمل معا. وقد قام الصندوق الأسبوع الماضي بتغطية التزامات بلغت نحو 430 مليار دولار».

وحول الوضع في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، رأت أنه «من الصعب التنبؤ بما سيحصل خلال عامي 2012 و2013 في الدول المستوردة للنفط، فمن المتوقع أن تسهم الضغوط الاجتماعية في العديد من البلدان، والنمو العالمي المنخفض، وضعف منطقة اليورو في بطء الانتعاش الاقتصادي. ونأمل أن يتحسن الوضع قريبا مع تحسن الأوضاع في سوريا ومع الانتقال السلس في مصر وليبيا وتونس، والذي من شأنه أن يخلق نتائج إيجابية في المنطقة. ويتوقع أن يسجل اقتصاد الدول المصدرة للنفط نموا أفضل نتيجة لارتفاع عائدات تصدير النفط ونمو القطاع غير النفطي، إلا أنها تواجه العديد من التحديات منها خلق فرص العمل، وبناء اقتصاد متنوع، والحفاظ على استقرار الوضع المالي».

وأكدت أنه «ينبغي على الدول المستوردة للنفط معالجة الضغوط الاقتصادية والاجتماعية القصيرة الأجل مع الحفاظ على استقرار الاقتصاد الكلي عبر خفض النفقات وفقا للأولويات واضحة المعالم، مع زيادة الإيرادات بطريقة مدروسة، وتحسين مناخ الاستثمار لاستعادة ثقة المستثمرين. وتحتاج هذه الدول إلى وضع رؤية اقتصادية متوسطة الأجل للاستجابة للحاجات الملحة للسكان كخلق فرص العمل، حيث تعتبر معدلات البطالة في منطقة الشرق الأوسط من بين أعلى المعدلات في العالم، وتحتاج المنطقة إلى خلق 50 إلى 75 مليون وظيفة على مدى العقد المقبل».

وقال رئيس الوزراء اللبناني نجيب ميقاتي، الذي يلتقي المشاركين مجددا اليوم في حوار مفتوح «يشهد عالمنا العربي اضطرابات وتحولات جوهرية، تضع مجتمعاتنا أمام مفترقات طرق مختلفة المسار، ستحدد تطور كل من هذه المجتمعات. وإذا كان يتعين علينا الاعتراف بأننا لم نكن قادرين على توقع هذه الأحداث والمتغيرات، فإنه ينبغي علينا أن نتحلى بالشجاعة لنحاول التأثير على تطور الأحداث ونتائجها من أجل تجنب حالات الفوضى التي قد تكون لها عواقب غير محمودة لسنوات عديدة. والحل يأتي من خلال التوعية والتثقيف والتربية وتوفير فرص عمل جديدة، لأن هدفنا يجب أن يبقى الارتقاء بمجتمعاتنا العربية إلى الانفتاح الفكري والعلمي والاعتدال للابتعاد عن التطرف والانغلاق».

ولفت إلى أن «الاقتصاد اللبناني استطاع تحقيق نمو لافت في أدائه الفعلي وقطاعات نشاطه على الرغم من المناخ الذي عصف بالمنطقة. والتقديرات الأولية لنمو الناتج المحلي الفعلي في لبنان لعام 2011، وفق النتائج التقديرية للحسابات الوطنية، تناهز الخمسة في المائة، في ظل التحسن الملموس لسمات النشاط بعد جمود الأشهر الأولى من العام. ويبدو أن هذا النمو مستمر في عام 2012 كما يشير أبرز المؤشرات الاقتصادية للفصل الأول من العام الحالي».

وأشار إلى أن «تنشيط الاقتصاد اللبناني يرتكز على مثلث واضح المعالم أساسه توفير مناخ مشجع وجاذب للاستثمارات الداخلية والخارجية خاصة في ظل التحويلات الوافدة والرساميل المتوافرة لدى الجهاز المصرفي والمالي اللبناني. أما العنصر الثاني في هذا المثلث فهو تنشيط حركة الصادرات اللبنانية التي يفترض أن تنمو بنسب مضاعفة عما هو مسجل حاليا مع ما يشكله ذلك من إعادة التوازن إلى الميزان التجاري وميزان المدفوعات. أما العنصر الثالث فهو تنشيط القطاعات الاقتصادية كافة عن طريق آليات أكثر فاعلية مما هو قائم حاليا وعلى رأسها النشاطات المرتكزة على اقتصاد المعرفة والإبداع والتي تختزن قيمة إضافية عالية».