رئيس الاتحاد الدولي للمصرفيين العرب: لا مصالح تتقدم واجب حماية المصارف

طربيه لـ «الشرق الأوسط»: مبادرات لدعم دول «الربيع العربي» بالاستشارة والتمويل

د. جوزف طربيه
TT

أكد رئيس الاتحاد الدولي للمصرفيين العرب الدكتور جوزيف طربيه، أن القطاعات المصرفية العربية تلتزم طوعيا بالعقوبات والقرارات التي يقررها المجتمع الدولي أو بعض أطرافه في حق أشخاص أو شركات على خلفية الأحداث الحاصلة في المنطقة. والأمر نفسه سوف ينسحب على قانون الامتثال الضريبي لحسابات المواطنين الأميركيين خارج بلدهم (FATCA). وهي تنتظر إصدار الحكومة الأميركية النصوص التطبيقية النهائية وآلية التنفيذ في التعامل مع المصارف والمؤسسات المالية عبر العالم.

ويعتبر أن «مبدأ حماية المؤسسات والمودعين يعلو على أي مصالح ضيقة ووقتية، ولا سيما أن المصارف العربية جزء من النظام المالي العالمي، وهي منخرطة في الأسواق المالية الدولية خدمة لعملائها عبر الوجود المباشر والخدمات عبر الحدود وشبكات المراسلين. وفي المطلق ما من منطق أو مصلحة بديلة يدفعان إدارة أي مصرف عربي للتهور والتضحية بالمؤسسة ومصالح المساهمين والمودعين والعاملين».

ويقول طربيه في مقابلة مع «الشرق الأوسط»، إن «المرحلة القلقة التي تمر بها المنطقة، جراء موجات التغيير المحققة أو قيد التحقق في عدد من البلدان، تفرض على المؤسسات المالية العربية اعتماد سياسات خاصة تقوم على الكثير من اليقظة والتحفظ لأن طبيعة القطاع المالي تزيد من درجة تحسسه في حالات الاضطراب».

عموما، يرى أن «الضغوط المباشرة تزايدت على كل المصارف حول العالم بعد انفجار الأزمة المالية الدولية منتصف عام 2008، والأزمات التالية المتواصلة في أكبر الاقتصادات الدولية، وآخر تجلياتها أزمات الديون الأوروبية. وتبين، بما لا يقبل الشك، أنه ما من سبيل للخروج السليم من هذه الدائرة إلا عبر الالتزام الجدي والصارم بأصول المهنة المصرفية، والتشدد الرقابي، وضخ الرساميل الإضافية، واعتماد قواعد الحوكمة والإدارة الرشيدة وتعزيز درجات الإفصاح».

وتكمن الميزة العامة للقطاعات المصرفية العامة، وفق طربيه، في حرص إداراتها على عدم الانغماس في المنتجات المركبة والمسمومة مدعومة بالتزامها المبكر وتشددها في تطبيق معايير الصناعة المصرفية الدولية الموضوعة من مختلف المرجعيات والهيئات المعنية والمختصة، مثل منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية (OCDE)، ومجموعة «غافي» (GAFI)، ومجموعة العمل المالي لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا (MENA FATF)، ومنتدى الاستقرار المالي (FSF) لدى صندوق النقد الدولي (IMF)، ولجنة «بازل» (BASEL). بينما كان تهور القيادات والتحايل على هذه المعايير السبب المشترك للانهيارات التي أصابت وتصيب المؤسسات والاقتصادات في أكبر الاقتصادات الدولية.

ويضيف: «نحن ندرك تماما أن الظروف السائدة في المنطقة العربية تفرز تحديات إضافية. فمؤسساتنا تعايش حاليا تحولات سريعة في المشهد الجيوسياسي العام لمنطقتنا، بما أنتجت، خلال نحو عام ونصف العام، من زوال أنظمة بكاملها واهتزاز أنظمة أخرى تحت تأثير ضغوط واحتجاجات داخلية وسط تشابك مصالح وتدخلات مباشرة وغير مباشرة من قبل دول القرار العالمي والمؤسسات والتجمعات الإقليمية والدولية. وهذا النوع من التحولات غير المسبوقة في تاريخ المنطقة حجما وتأثيرا تفرض على النخب الاقتصادية العربية أن تكون في قلب الحركة وأن تساهم بفعالية في ضبط مسارها بما يتلاءم مع مصالح الشعوب والدول».

ويعتبر أن «أولوية مهمة حماية المؤسسات المالية العربية لا تحجب أهمية إطلاق مبادرة أو مجموعة مبادرات لحجز دور لها في إعادة اقتصادات البلدان المعنية إلى سكة النهوض، ومعاونة الحكومات الانتقالية في صوغ سياسات تنموية شاملة وتأمين التمويل المطلوب لتنفيذها. ونعتقد أن تمهيد الطريق لمثل هذه المبادرات مهمة واجبة على القوى التي أنجزت التغيير في بلدانها. فالمطلوب أولا إعادة انتظام المؤسسات وتعزيز الاستقرار استنادا إلى مفاهيم ودساتير جديدة تضمن الحرية والإصلاح وسيادة القانون وتحقيق العدالة الاجتماعية والتنموية، وهي الأهداف التي سعت إليها التحركات الاحتجاجية والشعبية».

ويوضح: «لدينا في مجلس إدارة الاتحاد الدولي ومجلس الأمناء الاستشاري نخبة مميزة من أرفع القيادات المالية العربية، بمن فيهم ممثلون عن دول مضطربة أو عانت من الاضطرابات. ونحن بصدد جمع أفكار واقتراحات تمهيدا لوضع خطة أو مجموعة خطط متجانسة يمكن أن تشكل ما يمكن تسميته مشروع (مارشال عربي) بمساهمة القطاع الخاص عن طريق الإدارة والاستشارة وصناديق التمويل بهدف ردم فجوات الأضرار والخسائر الناجمة عن الأحداث، وإعادة بناء الاقتصادات وفق أسس سليمة تقوم على التنمية الشاملة والتوزيع العادل للثروات وإنتاج فرص عمل كافية، وهذه أسس تضمن رفع كفاءة الاقتصاد وتؤمن نموه المستدام».

ويؤكد أن «مصارفنا العربية، وفي مقدمتها مصارف الخليج ولبنان والمغرب ومصر وتونس وغيرها، تملك الهياكل السليمة والإدارات ذات الكفاءة القادرة على المشاركة في صياغة دور جديد لها، يقوم على فاعلية أكبر في استقطاب الموارد المالية العربية وإدارتها وتوظيفها في الاقتصادات العربية، وإبراز الفرص الاستثمارية لرؤوس الأموال العربية والعمل على توجيهها نحو الاستثمار في الاقتصاد الحقيقي وتحقيق التكامل المصرفي العربي عن طريق الآليات المعروفة لعقد الشراكات الاستراتيجية بين المصارف، وخلق التجمعات العملاقة، وتشجيع الاستثمار العابر للحدود بين الدول العربية، بما يساعد على تحفيز النمو وإيجاد فرص عمل جديدة للأجيال الصاعدة».

وعن حجم الفجوة المالية التي سببتها الأضرار والخسائر، يقول طربيه: «ثمة تقديرات أشارت إلى خسائر مباشرة ناهزت 60 مليار دولار خلال العام الماضي، ومن الممكن أن يتضاعف هذا الرقم خلال العام الحالي حيث تستمر الأزمات في بلدان وتتأخر عملية انتظام المؤسسات وترسيخ الاستقرار في بلدان أخرى، مع ما لذلك من تأثيرات وانعكاسات على مجمل اقتصادات ودول المنطقة. نحن نتحدث حصرا، بمعزل عن الخسائر البشرية الجسيمة وهي الأهم، عن خسائر مباشرة أبرزها: أضرار مادية محققة، وتدهور في الناتج المحلي، وعجز إضافي في الموازنات، وخروج حاد للاستثمارات والعملات الصعبة، وتعطيل أنشطة اقتصادية رئيسية يتقدمها شبه انعدام حركة السياحة. أما الخسائر غير المباشرة فيصعب حصرها حاليا، لكن ما يدعو إلى التفاؤل النسبي أن الاقتصادات المتضررة تملك مقومات إيجابية للعودة إلى النهوض إذا ما ترسخ الاستقرار المنشود، وهنا يأتي دور القطاع المالي العربي للمساهمة في تسريع هذه العودة».

مسحة التفاؤل لدى رئيس الاتحاد لا تخلو من الحذر، ففي رأيه أن «التغيير حاصل ورياحه تلفح المنطقة بكاملها، وقد يكون مبكرا الحكم على النتائج المحققة ما دامت حركة التحول في أوج ديناميتها. لكن ثمة إشارات متباينة تطفو على سطح الأحداث ربما نتجت عن سرعة هذه التغييرات وشموليتها ونوعيتها. إن التأثير المباشر لهذه التحولات في تحديد المسارات المستقبلية لدول المنطقة بكاملها، بما يشمل إعادة هيكلة الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية، يدعونا إلى التحذير من انحراف مسار التغيير، وبالتالي تحول الربيع إلى شتاء قارس يحول الاستقرار الهش السابق إلى فوضى خطيرة تستنزف رصيد الأهداف النبيلة التي سعت إليها الثورات والاحتجاجات الشعبية».

ويلفت إلى أنه في خضم هذا الواقع الملتبس في بعض جوانبه، «يكتسب موضوع الأمن الاقتصادي العربي أهمية خاصة في مرحلة التحولات الكبرى. فكلما رجحت فرص الاستقرار والانفتاح والتحرر زادت مساحة التعاون والتضافر بين شعوب المنطقة ودولها. وهذه المعادلة تفرض ذاتها من خلال المصالح المتبادلة، وتوزع الموارد الطبيعية والإمكانات البشرية بما يعزز التوق إلى التكامل، ومن البديهي أن التقارب في طبيعة الأنظمة لجهة التلاقي مع طموحات الشعوب ورغباتهم يشكل المظلة المناسبة لتحقيق نقلات نوعية في كل منظومات العمل العربي المشترك».

وفي تقديره أن «الثروات الطبيعية في منطقتنا تشكل درعا واقية للاقتصادات الوطنية وذخيرة استراتيجية للأجيال، مما يوجب إدارتها بحكمة والتحكم في استخدامها بما يحفظ ديمومتها لأطول زمن ممكن، وحسن إدارة عوائدها وحاصلاتها عبر الاستثمار في المشاريع التنموية وفي تطوير النظم الاقتصادية والاجتماعية والتعليمية والتقنية». ويتابع «كشفت الأزمة المالية العالمية، وبعدها أزمات الديون الأوروبية، هشاشة النظام المالي العالمي. وهذا ما يوفر الفرصة المواتية لازدهار القطاع المالي العربي، من خلال إعادة هيكلة حركة الثروات المالية العربية».

ويعتبر أن المرحلة المقبلة تتطلب «صياغة خارطة طريق عربية تتضمن أفكارا واقتراحات محددة حول الأمن الغذائي والأمن المائي والأمن المالي، وإطلاق هيئة مشتركة لترقب الأزمات ومواكبتها، وتحديث الأنظمة القضائية وسبل فض المنازعات التجارية، والتعاون في تنقية وتطهير الفرص الاستثمارية المتوفرة في البلدان العربية، ومعاونة الحكومات على التطوير المنهجي لمناخات الاستثمار، وإزالة أي تحفظات عن مساهمة القطاع الخاص في التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وإعداد المشاريع الملائمة لتوظيفات الصناديق السيادية وشبه الحكومية، إضافة إلى إعادة النظر الشاملة بالبنية الرقابية».

ويشير في السياق ذاته إلى أهمية المنهج الذي كرسته قمة الكويت الاقتصادية، والذي «نأمل تكريسه مجددا في قمة الرياض العام المقبل، حيث نتطلع إلى الانتهاء من مراحل السوق العربية المشتركة بعد 3 سنوات من الآن، يليها الاتحاد الاقتصادي الكامل خلال 5 سنوات إضافية، على أن يتم إنجاز مصرف عربي مركزي وعملة عربية موحدة قبل عام 2020، نأمل التمهيد العملي له بإقرار تسوية المدفوعات الوطنية والإقليمية ضمن المنطقة ومن خلال آليات تلتزم بالمعايير الرقابية والمحاسبية الدولية. وإذا عطفنا هذا التوجه الاستراتيجي الواعد على التقدم الكبير الذي حققه المنهج المعتمد من قبل مجلس التعاون الخليجي، يمكننا التفاؤل بوضع اقتصادي عربي أفضل يتقدم تباعا خلال السنوات المقبلة».

وعن قدرة المصارف العربية على الالتزام بالمتطلبات الجديدة التي وضعتها لجنة «بازل»، يقول طربيه: «أثبتت المصارف العربية في الإجمال، خلال الأزمة المالية والمصرفية العالمية الأخيرة، قدرتها على تحمل الصدمات التي تسببت بها الأزمات المتلاحقة، كما لعبت هذه المصارف في بعض الأحيان دور المسعف لعدد من مصارف الغرب التي تورطت بأصول أصبحت في ما بعد غير قابلة للتداول في الأسواق العالمية. ومن هذا المنطلق، فإن الالتزام بمعايير (بازل 3) قد يكون أسهل بالنسبة للقطاع المصرفي العربي الملتزم أساسا بمعايير (بازل 2)، مع العلم أن (بازل 3) تتضمن معايير جديدة، كما تتضمن معايير تعديلية لمعايير (بازل 2) التي تبين أنها كانت غير كافية لتساعد المصارف على التصدي لاهتزازات مالية هزت العالم، واستدعت قيام لجنة (بازل) بإعادة النظر في المعايير السابقة، في اتجاه أن تقوم المصارف بالاعتماد على نفسها أكثر من دون مساعدة البنوك المركزية والحكومات».

ويوضح «لا بد من التنويه بتركيز (بازل 3) اهتمامها على المخاطر في مجال عمليات المتاجرة والأنشطة الاستثمارية، خاصة المشتقات المالية والمعاملات خارج الميزانية، وقد ذهبت (بازل 3) إلى أبعد من ذلك بكثير لتحسين بعض المجالات مثل مخاطر الائتمان للأطراف المقابلة والقيمة السوقية للائتمان في حال تراجع الملاءة الائتمانية للجهة المقابلة، ويتوقع من هذه الإجراءات تعزيز إدارة المخاطر والحوكمة والإشراف على أنشطة مثل التوريق وإعادة التوريق والمشتقات الائتمانية. وهناك تركيز كبير على اختبارات الضغط في المؤسسات المصرفية لمختلف المخاطر، الأمر الذي يتطلب قيام المصارف بتطوير فرضيات الضغط من أجل معرفة قدرتها على الصمود والبقاء في ظل الظروف المالية غير المواتية، وكذلك الأمر بالنسبة للسلطات الإشرافية التي عليها إجراء اختبار الضغط على مستوى النظام المالي، ولا بد من الإشارة إلى أن أبرز المجالات المهمة التي حظيت باهتمام لجنة (بازل)، هو تعزيز الرقابة على المؤسسات المالية المهمة في النظام المالي العالمي، وسوف تخضع هذه المؤسسات لنظام رقابة أكثر صرامة وفاعلية، وستكون عرضة لمتطلبات أعلى لكفاية رأس المال».