المكسيك.. اللاعب الاقتصادي الصاعد المنافس للعملاق البرازيلي في أميركا اللاتينية

احتضنت مؤخرا قمة مجموعة العشرين

جانب من عاصمة المكسيك «مكسيكو سيتي» (رويترز)
TT

اعتاد المكسيكيون خلال السنوات الأخيرة على التطلع في حسد إلى البرازيليين وهم يكتسبون سمعة كبيرة بأنهم شعب أميركا اللاتينية المختار، فبفضل ما كانت تشهده من طفرة اقتصادية ومكانة بارزة على الساحة العالمية، كانت البرازيل هي البلد المهيأ لبلوغ العظمة، بينما بقيت المكسيك غارقة في مستنقع الفقر وإراقة الدماء.

ولكن مثلما أن مسار الأحداث قد يتغير فجأة في أي مباراة من مباريات كأس العالم أو الألعاب الأوليمبية - وهما البطولتان اللتان من المقرر أن تستضيفهما البرازيل خلال السنوات الأربع المقبلة - كذلك من الممكن أن تتغير الديناميكيات الفاعلة فيما بين الدول. فقد سجل الاقتصاد المكسيكي العام الماضي معدل نمو أعلى من الاقتصاد البرازيلي، ويبدو أنه في طريقه إلى التفوق على منافسه اللاتيني الأكبر منه حجما خلال عام 2012.

ومن الممكن عزو التباطؤ الاقتصادي الذي أصاب البرازيل إلى عدة أسباب، منها أعباء الديون التي تثقل كاهل المستهلكين وتناقص الإنتاج الصناعي، الذي كان يرتبط بالقوة التي اكتسبتها العملة المحلية (الريال البرازيلي) مؤخرا. وبالإضافة إلى ذلك، فقد أدى تباطؤ النمو العالمي، وخاصة في الصين، إلى تراجع أسعار السلع الأساسية التي تقوم البرازيل بتصديرها.

وفي المقابل، تقوم المصانع المكسيكية بتصدير كميات قياسية من أجهزة التلفزيون والكومبيوتر والسيارات والأجهزة الكهربائية، لتحل محل بعض الصادرات الصينية في الولايات المتحدة وتساعد على حدوث توسع بنسبة بسيطة. باختصار، لم تعد المكسيك تبدو مكانا مقبضا من الناحية الاقتصادية. وكما يقول لويس دي لا كالي، وهو مفاوض تجاري مكسيكي سابق ومحلل اقتصادي: «أفضل طريقة لتحسين صورتك هي معدل نمو إجمالي الناتج المحلي».

وتعد تلك القوة التي يكتسبها الاقتصاد المكسيكي هي الأساس الذي يقوم عليه ذلك المظهر البراق الذي يعرض حاليا مع استضافة الرئيس فيليب كالديرون لزعماء الاقتصادات الصناعية والناشئة الكبرى في إطار قمة مجموعة العشرين، وذلك في المنتجع الساحلي الراقي في لوس كابوس، على مدار يومي الاثنين والثلاثاء.

وعلى النقيض من الأزمة المتفاقمة التي تشهدها منطقة اليورو، التي ستكون محور المحادثات هناك، سوف يكون في مقدور المكسيك أن تشير إلى 17 عاما من الاستقرار على مستوى الاقتصاد الكلي وانخفاض معدلات التضخم والحفاظ على الديون عند مستويات يمكن التعامل معها وانفتاح الاقتصاد وتزايد القدرات التنافسية، فقد ارتفع إجمالي الناتج المحلي بنسبة 3,9 في المائة خلال العام الماضي، ليتجاوز بذلك معدل النمو البالغ 2,7 في المائة الذي سجلته البرازيل.

كما توجد مؤشرات مشجعة بالنسبة للسنوات المقبلة، حيث أعلنت شركات «نيسان» و«مازدا» و«هوندا» أنها ستبني مصانع جديدة لها في المكسيك، علاوة على وجود استثمارات جديدة في مجالي الطيران والإلكترونيات تلوح في الأفق.

وقد خلص تقرير صادر عن شركة «نومورا للأوراق المالية» في شهر مايو (أيار) الماضي إلى أن المكسيك «يشهد نجمها بزوغا متزايدا في فرص التفوق الاقتصادي، وهناك عملية إحلال وتبديل تجري ببطء ولكن بثقة».

وهذا الانعكاس في حظوظ أكبر اقتصادين في أميركا اللاتينية يتناقض تماما مع موجة التغني بفرص نجاح البرازيل التي سادت حتى وقت قريب يعود إلى عام 2010، حينما حقق اقتصادها نموا بلغ 7,5 في المائة خلال العام الأخير من ولاية الرئيس لويس إيناسيو لولا دا سيلفا.

ويقول أنتوني مولر، أستاذ اقتصاد في «جامعة سرجيب الفيدرالية» في البرازيل: «من الواضح أن سنوات النمو الجيد قد صارت جزءا من الماضي».

وفي مؤشر يعكس ما تشعر به من قلق، هددت الحكومة البرازيلية هذا العام بإلغاء اتفاقية لتجارة السيارات عمرها 10 سنوات مع المكسيك، فخلال معظم سنوات هذه الاتفاقية، كانت البرازيل ترسل سيارات أكثر إلى المكسيك، لكن هذا الوضع انقلب العام الماضي، حين قفزت وارداتها من السيارات المصنعة في المكسيك بنسبة 70 في المائة لتصل إلى 2,4 مليار دولار. وفي شهر مارس (آذار) الماضي، وافقت المكسيك على خفض صادراتها إلى البرازيل لتصل إلى 1,55 مليار دولار سنويا في المتوسط خلال السنوات الثلاث القادمة، تعود بعدها التجارة الحرة بين البلدين.

ويلقي هذا الخلاف الضوء على النهج المختلف الذي يتبناه كل بلد منهما تجاه التنمية، فالمكسيك ملتزمة بالسير في طريق الأسواق المفتوحة والتجارة الحرة وإلغاء القيود التنظيمية، بينما ينطوي النموذج البرازيلي على تدخل حكومي قوي من خلال الشركات الكبرى المملوكة للدولة.

وفي الوقت ذاته، فقد أثر صعود الصين على البرازيل والمكسيك بطريقتين مختلفتين، فالصين تتنافس مع المكسيك بينما تشتري من البرازيل، وقد ظلت المكسيك تعاني لفترة طويلة خلال العقد المنصرم من استيلاء المنتجات المصنوعة في الصين على مكان ومكانة البضائع المكسيكية في الولايات المتحدة، التي تستحوذ على 78 في المائة من صادرات المكسيك، كما أن الطلب الصيني على المواد الخام ساعد على نهوض الاقتصاد البرازيلي، حيث إن هذا الاستقرار سمح للحكومة بإعادة توزيع الثروة والتوسع في الأنشطة الائتمانية. ويقول غراي نيومان، وهو خبير اقتصادي متخصص في شؤون أميركا اللاتينية لدى مؤسسة «مورغان ستانلي»: «البرازيل لديها روايتان قويتان. إذا كنت تؤمن بالصين، فأنت تؤمن بالبرازيل. وقد حققت هذه الرواية الكثير. أما الرواية الثانية فهي: (لقد أصبحنا بلدا طبيعيا وخلقنا أوضاعا تسمح بظهور طبقة وسطى). وهاتان الروايتان لهما تأثير كبير للغاية».

ويتابع نيومان قائلا إن القصة المكسيكية لم تكن إيجابية بالقدر ذاته، حيث كانت حظوظها ترتبط بالولايات المتحدة، كما دخلت الحكومة في حرب ضد عصابات المخدرات القوية. ويقول المحللون إن المكسيكيين، على الرغم من أن الرياح غيرت اتجاهها وأصبحت مواتية لهم، ما زالوا متشائمين للغاية لدرجة أنهم لا يرون ذلك.

ويقول دي لا كالي، الذي يعارض الحكمة التقليدية ويصف المكسيك بأنها بلد تغلب عليه الطبقة الوسطى: «لقد تحول جلد الذات الذي يحدث في المكسيك إلى حالة مرضية. حينما قلت: (إن حالكم ليس بهذا السوء الذي تقولون به - هناك سبب كي يكون لديكم أمل في المستقبل)، كان الرد الذي قيل لي هو أن البرازيل تؤدي بشكل أفضل بكثير».

والواقع أن المرشح الذي يتصدر في استطلاعات الرأي قبل انتخابات الرئاسة المكسيكية المقرر عقدها مطلع يوليو (تموز) المقبل، وهو إنريكي بينيا نييتو، بدأ مناظرة رئاسية عقدت مؤخرا بسؤال الناس عما إذا كانوا في حال أفضل، ثم أجاب بنفسه عن هذا السؤال قائلا: «بالتأكيد لا».

ومن الأسباب التي تثير هذه الحالة من القلق حرب المخدرات الدائرة في المكسيك، ذلك أن مشهد المصانع الممتدة لمسافة أميال وأميال خارج مدينة مونتيري، العاصمة الصناعية للبلاد، لا يجذب الكثير من الاهتمام بقدر ما فعلت صورة الجثث التسع التي تم العثور عليها متدلية من أحد الجسور في مدينة نوفو لاريدو الواقعة على الحدود.

وطبقا لتقديرات وزارة المالية المكسيكية، فإن العنف يتسبب في إنقاص 1 في المائة على الأقل من معدل نمو إجمالي الناتج المحلي. ورغم أن معدلات القتل في البرازيل تفوق نظيرتها في المكسيك، فإن الطبيعة الدموية التي تتسم بها جرائم القتل في المكسيك واستعانة كالديرون بالجيش في التصدي للمهربين تجعلان الاهتمام ينصب أكثر على معدلات الوفيات هنا.

وقد كان بينيا نييتو على صواب حينما قال إنه ما زال يتعين تعميم آثار النمو حتى يشعر بها القدر الأكبر من العمال، حيث لم ترتفع الأجور الحقيقية سوى بقدر ضئيل للغاية، والواقع أن أحد الأسباب التي جعلت المكسيك تستحوذ على نصيب سوقي من الصين هو تضاؤل الفارق بين الأجور في كلا البلدين.

وربما تكون هناك جوانب مشتركة بين البرازيل والمكسيك أكثر مما توحي به المنافسة المفترضة بينهما، فقد تمكن كل بلد منهما من تثبيت اقتصاده، بعد عقود طويلة من التخبط من أزمة لأخرى، كما نجح في رفع مستوى المعيشة بالنسبة لعدد كبير من مواطنيه.

وتقول ليزا شينيلر، وهي محللة أميركية لاتينية تعمل لدى مؤسسة «ستاندرد أند بورز»، عن البرازيل: «إن أرباح ما قامت به في تسعينيات القرن العشرين جاءت في صورة انتقال سياسي بالاقتران مع أسعار السلع الأساسية. لقد حدث كل هذا معا». كذلك، فإن كل بلد منهما يواجه كثيرا من المشكلات نفسها التي يواجهها البلد الآخر، مثل تدني مستوى المدارس وضعف البنية التحتية وتفشي البيروقراطية والفساد. وقد حال الشلل السياسي الذي كانت تعاني منه المكسيك دون اتخاذ إجراءات فعالة من أجل القضاء على الاحتكارات وإعادة صياغة قوانين العمل وزيادة حصيلة الضرائب وفتح أكثر شركة نفط انغلاقا في العالم، وهي تغييرات من شأنها أن تزيد من معدلات النمو بنسبة 2,5 في المائة، وفقا لتقديرات «المعهد المكسيكي للتنافسية».

وتقول شانون أونيل، وهي محللة أميركية لاتينية تعمل لدى «مجلس العلاقات الخارجية»، إن السؤال هو: كيف تجد هذه البلدان متوسطة الدخل طريقا للمضي قدما في النهوض بنفسها؟ وتستطرد قائلة: «إن محاولة الانتقال بإجمالي الناتج المحلي لكل نسمة من 5 آلاف دولار إلى 10 آلاف دولار أسهل بكثير من الانتقال به من 10 آلاف دولار إلى 20 ألف دولار. أعتقد أن هذا هو التحدي الذي يواجهه الاثنان».

* خدمة «نيويورك تايمز»