تأثير الأزمة الاقتصادية في أوروبا لا يطال بولندا

معدل نمو اقتصادها هو الأسرع في الاتحاد الأوروبي

TT

لكي نفهم كيف تمكنت بولندا من تخطي أقرانها لتصبح بمثابة بصيص الأمل في هذه القارة التي تضربها الأزمة الاقتصادية، من الجيد أن نقود سياراتها إلى هذه المدينة عبر ما كان يوما مجرد طريق وعر ومليء بالحفر يقع بين برلين ووارسو. هكذا تبدأ صحيفة «نيويورك تايمز» في تقرير أعده لها نيكولاس كوليش عن بولندا.

وتم الانتهاء من إنشاء هذا الطريق الحر السلس في الشهر الماضي فقط، ولكن كثيرا من محطات التزود بالوقود المنتشرة على طول الطريق لم تبدأ بعد في تقديم خدماتها.

تعتبر بوزنان، وهي مدينة تقع بين العاصمتين الألمانية والبولندية، التي تضررت كثيرا جراء أعمال العنف المتكررة بين ألمانيا وبولندا على مدار القرون الماضية، هي المستفيد الأكبر من التحسن الكبير في العلاقات بين البلدين، حيث سهل فتح الحدود بين البلدين الأعمال التجارية في المدنية، بينما أدت قواعد الاتحاد الأوروبي إلى تشجيع الاستثمار، إلى أن أوفى الاتحاد الأوروبي، المشغول حاليا بأزمة الديون السيادية التي تضربه، بتعهداته بخصوص منح بولندا عضوية الاتحاد. تروي أساطيل الحافلات الجديدة التي تنتظر في المقر الرئيسي لشركة «سولاريس» للحافلات في بوليتشو، التي تقع خارج المدينة، حتى يتم الانتهاء من اختبارات الطريق، قصة نجاح الصادرات البولندية، حيث ستتجه الحافلات البيضاء والقرنفلية إلى مدينة مونشنغلادباخ في ألمانيا، بينما تتجه الحافلات الزرقاء والبيضاء إلى فاستيراس في السويد والحافلات الصفراء إلى آرهوس في الدنمارك.

تمتلك بعض الشركات الأجنبية، بما في ذلك «فولكس فاغن» و«بريدجستون» و«غلاكسو سميث كلاين»، أعمالا تجارية في مدينة بوزنان، التي يقطنها أكثر من نصف مليون نسمة. وطبقا لمكتب الإحصائيات التابع للحكومة البولندية، وصلت نسبة البطالة في مدينة بوزنان والعاصمة وارسو إلى 4 في المائة، وهو المعدل الأقل في البلاد. وتضيف الصحيفة أنه على الرغم من ذلك، تعد بوزنان أيضا دليلا على المخاطر التي تواجه قصة النجاح البولندية، فضلا عن كل الاقتصادات الضعيفة في أوروبا، حيث يتم إلغاء هذا النوع من البنية التحتية المالية في الاتحاد الأوروبي التي مكنت بولندا من بناء مثل هذا الطريق السريع، بينما تهدد الخزائن الخاوية في الدولة المنكوبة والتركيز الكبير على سياسات التقشف بدلا من تحفيز الإنفاق بإعاقة النمو في بولندا.

تقول مالغورزاتا أولزوسكا، مديرة المبيعات والتسويق العالمي في شركة «سولاريس»: «لم نشعر بالأزمة الاقتصادية قط في عام 2008 أو 2009». وبعد أن تمكنت الشركة من تحقيق إيرادات قياسية بلغت 450 مليون دولار في عام 2011، تباطأت المبيعات مرة أخرى بعد قيام اليونان وإسبانيا والبرتغال بالتوقف عن الشراء منتجاتها بصورة أو بأخرى، بينما أصبحت إيطاليا أكثر حذرا في عمليات الشراء. وتضيف أولزوسكا: «هذه هي الأسواق الـ3 التي تداعت تماما. نحن لسنا متشائمين حيال ذلك، ولكننا ازددنا حذرا».

هناك سبب وجيه يزيد من أمل البولنديين في تحدي الصعاب مرة أخرى، حيث كان الاقتصاد البولندي هو الوحيد الذي لم يشهد انكماشا في عام 2009، وهو العام الأصعب في الأزمة المالية العالمية. وعلى الرغم من استحالة تمكن بولندا من تحقيق رقم قريب من معدل النمو الذي حققته في عام 2007، وهو 6.8 في المائة، فإنه من المتوقع أن يصل معدل النمو في البلاد إلى 2.7 في المائة في العام الحالي، وهو المعدل الأسرع بين بلدان الاتحاد الأوروبي، بعدما زاد هذا المعدل إلى 15.8 في المائة في الفترة بين عامي 2008 و2011.

ومنذ انتهاء كأس الأمم الأوروبية لكرة القدم، التي استضافتها بولندا وأوكرانيا، يفكر كثير من البولنديين مليا في مسألة تطور دولتهم، حيث غلب المزاج المتفائل على المزاج المتشائم الذي يسود البلاد في معظم الأحيان. يقول بازيلي غلواكي (36 عاما)، بينما كان واقفا خارج مركز تسوق «ستاري بروار» الفاخر، الذي سمي باسم مصنع الجعة الذي كان موجودا في هذا المكان في السابق: «يعد هذا دليلا على التغير الذي شهدته البلاد. أصبح لدينا محال أفضل، والناس يرتدون ملابس أفضل، والمسارح تقوم بعرض مسرحيات أفضل».

استشهد ستانيسلاف سكوزبزاك، أحد سكان بوزنان، بمثل بولندي قديم ليصف به النجاح غير المتوقع الذي تحقق مؤخرا في البلاد، حيث قال: «لقد وصلت بولندا إلى عنان السماء».

لم تكن هذه الطفرة مجرد حظ فقط، حيث إنها كانت مدعومة ببعض القرارات الصائبة التي اتخذتها وارسو. يقول أندريه سابير، وهو زميل بارز وخبير اقتصادي في «منظمة بروغيل»، وهي منظمة سياسية تقع في بروكسل، إن النجاح الذي حققته بولندا كان نتيجة للإدارة الحكيمة في مجال السياسات المالية والاقتصادية، حيث تمكنت من الحفاظ على المستويات المنخفضة لديونها ومرونة سعر صرف عملتها. ويضيف سابير، الذي يتخصص في شؤون الاندماج في القارة الأوروبية، أن بولندا مارست رقابة مالية صارمة، مما منع حدوث زيادة كبيرة في حجم اقتراض المستهلكين من العملات الخارجية، وهو الأمر الذي خرج عن نطاق السيطرة في المجر.

ويقول سابير: «لقد قاموا بعمل كثير من الأشياء المنطقية بصورة متزامنة، ودائما ما كانوا مدركين لضرورة أن يتحلوا بالمرونة». تتمتع بولندا بميزة كبيرة قد لا تتوافر في جيرانها، ألا وهي السوق المحلية الكبيرة. فبعدد سكان يصل إلى 38 مليون نسمة (وهو أكبر من عدد سكان دول التشيك وسلوفاكيا والمجر مجتمعة)، أصبحت الشركات البولندية أقل اعتمادا على أسواق التصدير مقارنة بنظرائها في الدول المجاورة.

يقول توماس نيسبودزياني (22 عاما): «أحب شراء حاجاتي من الشركات البولندية، لأن ذلك يؤدي إلى بقاء الأموال في الدولة»، مؤكدا أن سلسلة «بيوتر آي باويل» للبقالة ومصنع الجعة في فورتونا هي من بين الشركات المفضلة لديه. كان نيسبودزياني وصديقته ينظران إلى الخواتم الموجودة في أحد فروع سلسلة الجواهر البولندية «أبارت»، التي تقوم بتصميم وصنع جواهرها في أو بالقرب من مدينة بوزنان وبيعها في 180 متجرا منتشرا في شتى أنحاء بولندا.

تتصدر «أبارت» قائمة السلاسل الوطنية في البلاد بالنسبة للمستهلكين، حيث استخدمت الشركة عارضة الأزياء البولندية أنغا روبيك، التي ظهرت في النسخة البولندية من البرنامج الشهير «أفضل عارضة أزياء في أميركا في المستقبل»، لبيع مجموعات الجواهر الخاصة بها. استفادت الشركة أيضا من المطارات الجديدة والطرق المحسنة، التي تسرع من وتيرة عملية التوزيع وتقلل من التكلفة.

وإذا قمت بطرح بعض الأسئلة حول مدينة بوزنان، سوف يمدك السكان المحليون بكل أنواع التفسيرات المختلفة للنجاح الكبير الذي حققته المدينة مؤخرا، حيث يؤكد البعض أن البولنديين أصبحوا معتادين على حدوث مثل هذه المنعطفات التاريخية، لذا فإنهم يحاولون الاستمتاع بحياتهم قدر الإمكان وإنفاق الأموال التي يحصلون عليها بشق الأنفس. بينما يقول آخرون إنهم تعلموا التصرف بدهاء في ظل معاناتهم من الحكم الشيوعي، حيث كانت بعض الشركات، مثل «أبارت»، تضطر إلى شراء المشغولات الذهبية القديمة لكي تقوم بصهرها قبل أن تتمكن من صناعة خاتم أو سوار جديد.

يرجع نيسبودزياني الفضل في هذه الطفرة إلى شكل إيجابي من أشكال القصور، حيث أضاف مازحا: «حتى الأزمة الاقتصادية نفسها لا يمكنها أن تؤثر على بولندا».

بدأت مدينة بوزنان في عام 1997 في شراء القطارات الألمانية التي كانت تستخدم في فترة الخمسينات والستينات من القرن العشرين، والتي سموها «هيلموتس» على اسم المستشار الألماني السابق، هيلموت كول. أما اليوم، فيستخدم السكان أفضل قطارات السكك الحديدية التي تنتجها شركة «سولاريس».

تقول أولزوسكا بحماسة شديدة: «هذا أحد منتجاتنا»، مشيرة إلى أحد القطارات الأنيقة المطلية باللونين الأخضر والأصفر التي كانت موجودة على الخط رقم 16، الذي يتجه إلى مبنى الأوركسترا المحلي الأنيق في هذا المكان. تعد شركة «سولاريس»، وهي شركة عائلية دشنها والد أولزوسكا، مثالا بارزا على الروابط التاريخية والاقتصادية التي تجمع ألمانيا ببولندا، حيث غادر والدا السيدة أولزوسكا بولندا بعد فرض الأحكام العرفية في عام 1981، ليستقرا في برلين الغربية، ثم عادا بعد ذلك وقاما بتأسيس شركة «سولاريس»، التي تقوم الآن بتوظيف 2.200 عامل في بولندا، فضلا عن 200 عامل في الخارج.

تقوم الشركة بتصدير أحدث الحافلات والقطارات إلى ألمانيا، بينما تخطط لطرح أول قطاراتها الكهربائية في شوارع مدينة «جينا» في العام المقبل ثم في مدينة برونزويك في عام 2014.

انضمت أولزوسكا إلى شركة «سولاريس» في عام 2004، وهو العام نفسه الذي حصلت فيه بولندا على عضوية الاتحاد الأوروبي، حيث كانت هذه هي المرة الأولى التي تعود فيها إلى بولندا منذ أن رحلت عنها وهي طفلة صغيرة. تقسم أولزوسكا وقتها بين برلين وبوزنان، حيث تستغرق هذه الرحلة نحو 4 ساعات بالسيارة، ولكن الطريق الجديد قلل هذه المدة إلى ساعتين ونصف الساعة فقط.

وبسؤالها إلى أي من البلدين تنتمي، حاولت أولزوسكا التي حصلت على الجنسية الألمانية ونشأت وهي تتحدث اللغة البولندية في المنزل واللغة الألمانية في المدرسة، تجنب الإجابة عن هذا السؤال، وقالت: «أشعر بأنني أوروبية، وأنني أنتمي إلى كلا البلدين».