الشركات الصغيرة.. سر تفوق الاقتصاد الألماني

تستوعب 60% من فرص العمل في البلد.. وأصحابها يرفضون التخلي عن اليورو

علامة اليورو أمام مقر المركزي الأوروبي في مدينة فرانكفورت بألمانيا (أ.ب)
TT

ربما يرغب عدد متزايد من الألمان في رؤية منطقة اليورو وهي تتفكك، إلا أن داغمار بولين فليدة، وهي صاحبة إحدى الشركات الصغيرة لصناعة الماكينات هنا، ليست من بين هؤلاء، فهي على غرار كثير من رجال وسيدات الأعمال الألمان على وعي تام بالفوائد الاقتصادية لوجود عملة مشتركة، وهي مستعدة لدفع الثمن من أجل المحافظة على بقاء اليورو. وذكرت بولين فليدة: «كل من يقولون: نريد الخروج من اليورو، لا يتذكرون كيف كان الوضع».

وتعد شركتها، التي تسمى «كريستيان بولين أرماتورينفابريك»، من بين القطاع العريض من الشركات الصغيرة والمتوسطة في البلاد التي تعرف باسم «شركات الطبقة المتوسطة» وتستوعب 60 في المائة من فرص العمل في ألمانيا. ومعظم هذه الشركات لا تشعر بأي حنين للأيام التي كان يتعين عليها فيها هي وعملاؤها أن يتابعوا قيمة زمرة من العملات الأوروبية، وقت أن كان المارك الألماني يبلغ من القوة أحيانا ما يجعله يهدد بأن يصبح سعرها أعلى من أن تتحمله الأسواق الأجنبية.

ووسط حديث متراخ عن إخراج اليونان من منطقة اليورو، أو حتى إعادة المارك إلى الحياة، فإن قادة النشاط التجاري في ألمانيا هم في الغالب من يذكرون الشعب بما قد تكون عليه التبعات الاقتصادية لذلك، فقد دعا ماركوس كيربر، رئيس «اتحاد الصناعة الألماني»، الأسبوع الماضي إلى المزيد من الاندماج الأوروبي، وانتقد ما قال إنه «تردد وخلاف سياسيين مستمرين» أثرا على مستوى الثقة في اليورو.

وقد استفادت شركات الطبقة المتوسطة استفادة لا حد لها من اليورو، الذي جعل من الأسهل على الشركات الصغيرة أن تتصرف مثل الشركات متعددة الجنسيات، فشركة «بولين»، التي يعمل بها نحو 30 موظفا داخل مصنع صغير، تبيع صمامات الإغلاق التي تتخصص في صناعتها إلى عملاء في الصين وجميع أنحاء أوروبا.

وحتى الآن، فقد تحملت شركات مثل شركة «بولين» أزمة ديون منطقة اليورو بشكل جيد إلى حد بعيد؛ حيث أكدت بولين فليدة أنها لم تر أي تأثير على المبيعات. إلا أنها وأقرانها يشعرون بالقلق من المستقبل، ففي استطلاع للرأي أجراه اتحاد الصناعة هذا العام، تراجع عدد شركات الطبقة المتوسطة التي تتوقع تحسن النشاط التجاري خلال الـ12 شهرا المقبلة، في حين ارتفع بشدة عدد الشركات التي تتوقع حدوث تحول نحو الأسوأ.

وأعربت بولين فليدة، التي كانت واحدة من بين 10 رجال وسيدات أعمال تمت دعوتهم لمناقشة مشكلات الطبقة المتوسطة مع المستشارة أنجيلا ميركل في مكتبها العام الماضي، عن تأييدها للإستراتيجية التي تنتهجها الزعيمة الألمانية بالإصرار على عدم تقديم المساعدات المالية للبلدان المتأزمة في منطقة اليورو إلا إذا أظهرت مزيدا من الانضباط المالي والإصلاحات الاقتصادية. وعلقت بولين فليدة قائلة: «ينبغي أن نحصل على شيء في المقابل».

وما يراه أناس مثلها له أهمية، فمع أن شركات مثل «بي إم دابليو» و«سيمينز» تقفز إلى الذهن عندما يفكر الناس في النشاط التجاري الألماني، فإن الكثيرين يرون أن شركات الطبقة المتوسطة هي روح الاقتصاد الألماني، كما أنها تعكس كثيرا من القيم التي تشتهر بها ألمانيا. بل إن الاقتصاد الألماني أحيانا ما يشبه شركة كبيرة من شركات الطبقة المتوسطة، فهو يقوم على الاستقرار أكثر مما يقوم على النمو، ويعتبر أن الاستدانة أمر سيئ، وأن التدبر فضيلة أسمى من الربح. وهذه الخاصية كثيرا ما تحبط جيران ألمانيا، وكذلك بعض خبراء الاقتصاد، الذين يتمنون أن ينفق الألمان المزيد من أجل تحفيز النمو في باقي منطقة اليورو. غير أن الألمان يدفعون بأن منهجهم ساعد البلاد على تجنب هزات اقتصادية، مثل تلك التي أصابت إسبانيا وإيطاليا وتهدد بإصابة فرنسا. وبينما ظلت ديون اليونان تتراكم على مدار العقد الماضي، كانت شركات الطبقة المتوسطة الألمانية تعمل بعزم على تقليص ديونها، وذلك بحسب بيانات مأخوذة من «معهد أبحاث شركات الطبقة المتوسطة» في بون. وقد ذكر كريستوف لامسفوس، وهو خبير اقتصادي بالمعهد: «إنهم يريدون زيادة استقلالهم عن المصارف والتمويل الخارجي، ويريدون التأكد من أن يرث الجيل التالي شركة قوية. وفي التحليل النهائي، يكون ذلك مفيدا للاقتصاد الألماني».

وسوف تلعب شركات مثل شركة «كريستيان بولين أرماتورينفابريك»، التي سميت على اسم جد بولين فليدة، الذي أسس شركة صناعة الصمامات المتخصصة هذه عام 1924، دورا مساعدا مهما في تحديد إلى أي مدى سيستمر الاقتصاد الألماني في توفير عامل توازن في مقابل الركود الذي يشهده جنوب القارة العجوز.

ويتوقع أن تظهر البيانات التي من المقرر الإعلان عنها يوم الثلاثاء استمرار الاقتصاد الألماني في النمو بدرجة طفيفة خلال الربع الثاني من العام الحالي، ولكن ليس منطقة اليورو ككل، التي لم تسجل أي نمو في الربع الأول، وكان من المستبعد أن تحقق نموا في الربع الثاني، وربما تنضم فرنسا إلى إسبانيا وإيطاليا وكثير من بلدان منطقة اليورو الأخرى التي شهدت تراجعا في معدلات الإنتاج. وهناك علامات على أن الأزمة بدأت تؤثر على الصناعة الألمانية؛ حيث تراجع الإنتاج في مصانع البلاد بنسبة 0.9 في المائة ما بين شهري مايو (أيار) ويونيو (حزيران) الماضيين، وذلك طبقا للأرقام الرسمية، كما بدأت الطلبيات الجديدة في الانخفاض.

ولكن مع ذلك، فهناك أيضا أسباب للاعتقاد بأن شركات الطبقة المتوسطة محصنة جيدا ضد التعرض لهزة اقتصادية؛ حيث إن الاضطرابات التي حدثت في القرن العشرين وسنوات الكساد التي أعقبت إعادة توحيد ألمانيا ثم التعرض لركود حاد عام 2009، كل هذا جعل شركات الطبقة المتوسطة تتعلم أن تكون متأهبة لأسوأ الاحتمالات.

ومنذ بضع سنوات، فعلت بولين فليدة شيئا قد يساعد على توضيح السر في متانة الاقتصاد الألماني وقدرته على الصمود؛ حيث رفضت طلبيات من أكبر عميل لديها، فقد كانت قلقة من أن تصبح معتمدة أكثر من اللازم على أي مصدر واحد للإيرادات، لذا وضعت هي وزوجها وشريكها التجاري، بيرند فليدة، قاعدة ما زالا يسيران عليها حتى اليوم، وهي ألا يمثل أي عميل أكثر من 10 في المائة من المبيعات، حتى إذا كان هذا يعني في بعض الأحيان رفض صفقات تجارية. وأوضحت بولين فليدة: «إذا نقص 20 في المائة من مبيعاتك، فإن هذا يكون أمرا عسيرا. أما إذا نقص 10 في المائة، فهو ليس بالأمر الجيد، لكنه ليس دراماتيكيا».

وفي مناطق مثل وادي السيليكون أو شنغهاي، فإن ترك أموال على الطاولة بهذه الطريقة قد يكفي في الغالب لطرد رجل أعمال من غرفة التجارة المحلية، ولكن كراهية المخاطرة، وإيثار النمو البطيء والثابت بدلا من الربح السريع، أمر طبيعي في شركات الطبقة المتوسطة الألمانية. وأكدت بولين فليدة: «لقد دفعت ثمن ماكيناتي، ولم أحصل على أي ائتمان مصرفي. هذا هو ما يميز شركات الطبقة المتوسطة: أنك تحرص على تجنيب شيء من أجل الأوقات العصيبة».

ولكن في توضيح لإحدى نقاط القوة التي تميز شركات الطبقة المتوسطة الألمانية، فإن شركة «كريستيان بولين أرماتورينفابريك» تحظى بسمعة عالمية وتقوم بتصدير منتجاتها الصغيرة المتطورة إلى جميع أنحاء العالم. فذات يوم قريب، استقرت نقالة صناديق خشبية على أرضية الورشة وهي معبأة بصناديق كرتونية سيتم شحنها إلى الصين. وأوضح ماركوس فرانز، مدير الإنتاج، وهو يحاول رفع صوته فوق أزيز الشرائح المعدنية ومكابس الثقب: «هذه الشحنة ستذهب إلى بكين يوم الجمعة».

وتتخصص شركة «بولين» في صناعة أجزاء الماكينات حسب الطلب وتسليمها سريعا، في غضون ساعات أحيانا، إذا اقتضت الحاجة. وقالت بولين فليدة إن العملاء يدفعون ما عليهم مقابل مكون قد يكون أساسيا من أجل استمرار سير العمل في مصانعهم، وأضافت: «السعر ليس هو المهم، بل المهم هو زمن التسليم. لا توجد شركات كثيرة تفعل ما أفعله».

وقد لخصت بولين فليدة النظرة الاقتصادية لشركات الطبقة المتوسطة تجاه النشاط التجاري باقتباس مقولة قديمة: «لا يمكنك أن ترتدي سوى سروالا واحدا فقط. الثاني يكون في خزانة الملابس، وأنت لست في حاجة إلى الثالث».

* خدمة «نيويورك تايمز»