الاحتياطي الفيدرالي الأميركي يستجيب للحقيقة المرة

التضخم لم يعد همه الأساسي إيجاد فرص عمل جديدة

بين برنانكي رئيس الاحتياطي الفيدرالي الأميركي («الشرق الأوسط»)
TT

عندما صرح نائب رئيس بنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي في كلمة ألقاها عام 1994 بأن البنك المركزي «كان له دور في تقليل البطالة»، أبدى الزملاء استياءهم علنا، ولم تظهر كلمة «توظيف» نفسها في أي تصريح متعلق بالسياسات حتى عام 2008؛ حيث كان الاحتياطي الفيدرالي يركز على التضخم كما أكد المسؤولون مرة بعد مرة.

إلا أن هذا العهد ولى ومضى، بحسب تقرير لـ«نيويورك تايمز». وقد ظلت مؤشرات ذلك موجودة منذ زمن، لكنها الآن أصبحت جلية لا تخطئها العين؛ حيث أوضح بين بيرنانكي رئيس الاحتياطي الفيدرالي يوم الخميس الماضي أن إيجاد فرص عمل جديدة هو الشغل الشاغل للمؤسسة في المستقبل المنظور.

وهذا التحول الملحوظ في أولويات الاحتياطي الفيدرالي هو في جزء منه استجابة للحقيقة المرة بأن أكثر من 20 مليون أميركي لا يستطيعون العثور على وظائف بدوام كامل، وما سهل من الأمر أن الاحتياطي الفيدرالي حقق نجاحا كبيرا في تثبيت معدلات التضخم حول وتيرة 2 في المائة سنويا التي يعتبرها المسؤولون الأكثر ملاءمة للاقتصاد.

ولكن في ظل تغير الظروف، تغير الاحتياطي الفيدرالي نفسه، فتحت قيادة بيرنانكي — وبدفع ودعم كبيرين من مجلس إدارة معين بالكامل تقريبا من قبل الرئيس أوباما — توصل البنك المركزي بالتدريج إلى أنه يتحمل مسؤولية التحرك بقوة أكبر وكذلك، بنفس القدر من الأهمية، أنه يمتلك القدرة على تحفيز إيجاد فرص عمل جديدة بشكل مباشر.

وتظل هاتان النتيجتان مثار جدل عميق؛ حيث يتبنى كثير من خبراء النقد الرأي القائل بأن البنوك المركزية ينبغي أن تركز فقط على السيطرة على معدلات التضخم، مما يخلق بيئة محفزة للنمو الاقتصادي وإيجاد فرص عمل جديدة. ويقول البعض بأن الجهود التي يبذلها الاحتياطي الفيدرالي لتحفيز النمو في عدد الوظائف عن طريق خفض تكاليف الاقتراض طويل الأجل سوف تتسبب حتما في زيادة معدلات التضخم، مما يؤدي في النهاية إلى تقليل معدلات النمو والتوظيف.

ومن الواضح أن كثيرا من المشكلات الاقتصادية تقع خارج نطاق السياسة النقدية، فالاحتياطي الفيدرالي لا يستطيع إجبار الكونغرس على اعتماد ميزانية معينة، ولا يستطيع إصلاح الائتمان الاستهلاكي ولا تحويل أوروبا إلى شيء أكثر معقولية، وحتى أشد المحللين تفاؤلا لا يرون أن جهوده سوف تعيد البطالة إلى مستواها قبل الأزمة المالية.

وقد أخبر سلف بيرنانكي، آلان غرينسبان، مجلس إدارته ذات مرة بأنه لا يريد أن يذكر خلق الوظائف باعتباره هدفا للسياسات المتبعة؛ لأن ذلك سيكون تعهدا من الاحتياطي الفيدرالي لا يمتلك من القدرة ما يمكنه من الالتزام به. وعلى النقيض، فقد قرر بيرنانكي أن يضطلع بهذا التعهد وأن يحاول الوفاء به — ليس لأنه يعتقد أنه في مقدور الاحتياطي الفيدرالي فحسب، بل على الأقل جزئيا لأنه يعتقد أنه من المهم أن يحاول.

ويقول ستيفين أولينر، وهو باحث في «المعهد الأميركي للمشاريع التجارية» عمل خبيرا اقتصاديا متفرغا في الاحتياطي الفيدرالي لما يزيد على 25 عاما، «لقد ظل الاحتياطي الفيدرالي حتى الآن حذرا في تفسير مهمته المزدوجة، فلم يسع بصورة مفرطة حقا إلى إجراء مفاضلة ما بين معدلات التضخم والبطالة. وما يفعله الآن هو أنه يقول إنه نوع من إعادة التوازن من أجل إعطاء وزن أكبر للبطالة».

وقد كان تطور تفكير الاحتياطي الفيدرالي واضحا في البيانات الصادرة عنه؛ حيث لم يذكر أي إشارة مباشرة إلى سوق العمل في بياناته المتعلقة بالسياسات المتبعة حتى شهر ديسمبر (كانون الأول) عام 2008، وذلك بحسب استعراض أجراه دانيل ثورنتون، وهو خبير اقتصادي بفرع الاحتياطي الفيدرالي في سانت لويس. وفي يناير (كانون الثاني) الماضي، استند الاحتياطي الفيدرالي لأول مرة إلى معدلات البطالة على أنها سبب رئيسي لانتهاج سياسة جديدة.

وعندما بدأ الاحتياطي الفيدرالي جولته الكبرى الأخيرة من جولات شراء الأصول، قال المسؤولون إن أكثر ما يقلقهم هو خطر التضخم، أي إمكانية أن تبدأ الأسعار فعليا في التراجع، مما ستكون له تبعات فوضوية.

ويوم الخميس الماضي، قال بيرنانكي إن الاحتياطي الفيدرالي يتحرك بسبب «قلقله الشديد» من البطالة، ويشمل ذلك الانعكاسات بعيدة المدى التي ستعود على الناس وعلى الأسر الكثيرة التي قضت سنوات حتى الآن من دون وظيفة.

وفي خروج مهم عن السياسة السابقة، أعلن الاحتياطي الفيدرالي أيضا أنه على استعداد لتحمل بعض الارتفاع في معدلات التضخم عندما يبدأ الاقتصاد في التعافي، وإن ظل مصمما على إبقاء التضخم حول معدل 2 في المائة.

ويقول بعض خبراء الاقتصاد إن الإجراءات التي يتخذها بيرنانكي متسقة مع منهج الاحتياطي الفيدرالي القديم، الذي كان ينشد دوما التوازن ما بين معدلات التضخم والنمو الاقتصادي.

ويقول فريدريك ميشكين، وهو محافظ سابق في بنك الاحتياطي الفيدرالي وأستاذ اقتصاد في «جامعة كولومبيا»، «هذه الإجراءات مختلفة للغاية لأننا في موقف مختلف تماما. أرى أن كل هذا متسق تماما مع ما كانت عليه مهمة الاحتياطي الفيدرالي وما كان يرى الاحتياطي الفيدرالي أن تلك المهمة تتمثل فيه».

وبالإضافة إلى ذلك، فمن الواضح أن بيرنانكي ما زال يعتبر أن خفض وتثبيت معدلات التضخم هو أهم إسهام منفرد يمكن للسياسة النقدية أن تقدمه من أجل تحقيق الرخاء على المدى البعيد، فالاحتياطي الفيدرالي يعمل على معالجة البطالة بنفس الروح التي يستعمل بها الناس دلاء صغيرة لإطفاء الحرائق: فالماء أفضل من لا شيء.

كما أن الاحتياطي الفيدرالي لم يغير من رؤيته القديمة بأن محاولة تقليل البطالة تؤدي في الغالب إلى زيادة التضخم، والمسؤولون واثقون من أن الاقتصاد لديه مساحة كبيرة للنمو.

غير أن خبراء الاقتصاد الآخرين ما زالوا يرون أن التركيز على البطالة هو عملية إعادة توازن مهمة في نظرة الاحتياطي الفيدرالي إلى السياسة النقدية، وهي محاولة من بيرنانكي للجمع بين أفضل الممارسات التي اتبعت خلال 30 عاما الماضية والالتزام بأولويات أوسع.

وقد بدأ تركيز الاحتياطي الفيدرالي على التضخم في أواخر السبعينات من القرن العشرين مع تعيين بول فولكر رئيسا له؛ حيث كانت البلاد تعاني ارتفاعا حادا في معدلات التضخم، وكان أحد أسباب ذلك تركيز الاحتياطي الفيدرالي في السابق على البطالة. ومع نجاح فولكر في خفض معدلات التضخم والوصول بالبلاد إلى مرحلة الرخاء، استخلص من خلفوه في منصبه درسا بسيطا وهو: سيطر على التضخم وسوف تظهر فرص العمل.

واختفت البطالة من قاموس الاحتياطي الفيدرالي بحلول عام 1994، حينما ذكر نائب رئيس المؤسسة آلان بليندر أمام حشد محبط في مؤتمر عن السياسات المتبعة عقد في منطقة جاكسون هول بولاية وايومنغ أن خلق وظائف جديدة هو الآخر يستحق اهتمام البنك المركزي. وقال بروفسور بليندر، الذي رحل عن مجلس الإدارة عام 1996 وعاد إلى العمل خبيرا اقتصاديا في «جامعة برينستون»، في حوار أجري معه مؤخرا، «كان هناك قلق مبالغ فيه من التضخم مقارنة بالبطالة. لسنوات طويلة، بينما كان الاحتياطي الفيدرالي يضطلع بمهمة مزدوجة، فإنه لم يتحدث على الإطلاق عن أن البطالة هي جزء من هذه المهمة»، وأعرب عن سعادته لرؤية ذلك وهو يتغير أخيرا.