الاقتصاد اللبناني يدخل مرحلة انكماش حقيقي

بسبب تداعيات الأزمة السورية وإرباكات الداخل

البنك المركزي اللبناني («الشرق الأوسط»)
TT

دخل الاقتصاد اللبناني مرحلة انكماش حقيقي مدفوعا بالتداعيات المتواصلة للأزمة السورية والإرباكات الداخلية التي تشمل الوضع المالي ربطا بتأخير الموازنة العامة وزيادة الإنفاق قبل تحقيق زيادات موازية في الإيرادات.. وهذا ما دفع مؤسسات محلية وخارجية إلى خفض ترقبات نمو الناتج المحلي من 3 في المائة إلى 1 في المائة فقط بعد تسجيل نمو سلبي جزئي للناتج المحلي خلال الفصلين الثاني والثالث.

ويترجم ميزان المدفوعات جانبا من الانكماش المحقق حيث يسجل أسوأ أداء على الإطلاق، وبما لا يقارن مع سنوات سابقة. فقد وصل العجز التراكمي إلى نحو 1343 مليون دولار حتى نهاية شهر يوليو (تموز) الماضي بتراجع نسبته نحو 71 في المائة عن عجز مماثل بلغ 786 مليون دولار في الفترة ذاتها من العام الماضي، ومكرسا بذلك الانحدار المتواصل في عامين متتاليين بعدما كان ميزان المدفوعات سجل فائضا قياسيا غير مسبوق بلغ 3347 مليون دولار في أول 7 أشهر من عام 2009، ثم تراجع الفائض جزئيا إلى 2307 ملايين دولار في عام 2010.

ويلفت اقتصاديون ومصرفيون إلى محاذير الشهية الحكومية لزيادة الإنفاق في ظل الصعوبات القابلة للتفاقم، ويؤكدون عدم صوابية التقدير بأن «قدرات تحمل القطاعات الاقتصادية غير محدودة، فيتم اللجوء إلى أقصر الطرق الضريبية لفرض زيادات على هذه الأعباء، بالتوازي مع ما تفرزه الأوضاع المحلية من معوقات كابحة للنمو وللنشاط الاقتصادي، وما تسببه الأوضاع الإقليمية من انعكاسات وتأثيرات».

وصعد رؤساء الهيئات الاقتصادية من تحركاتهم عبر إبلاغ الوزراء المعنيين برفضهم التام لسياسات الزيادات على رواتب القطاع العام وتمويلها عبر فرض ضرائب جديدة، فقد عقدت الهيئات اجتماعا في مقر الاتحاد العام للغرف العربية أمس برئاسة عدنان القصار، تحضيرا للخلوة الاقتصادية التي دعا إليها وزير الصناعة فريج صابونجيان، بمشاركة وزيري الاقتصاد والتجارة نقولا نحاس، والسياحة فادي عبود، حيث أكدت الهيئات موقفها السابق الرافض لمشروع القانون الذي أقره مجلس الوزراء والمتعلق بسلسلة الرتب والرواتب للقطاع العام. وركزت على عدة نقاط كان أبرزها اعتبار أن لا مصلحة للعمال والموظفين في هذه الزيادة الوهمية التي لن ينتج عنها سوى المزيد من الخسارة للدخل ومصادر الدخل والقوة الشرائية وتصنيف لبنان الائتماني. كذلك استغربت الهيئات إلقاء الثقل الناجم عن إقرار السلسلة على موازنة عاجزة بالأساس وغارقة تحت ضغط الدين العام المتفاقم والأداء الاقتصادي المتراجع.

وناشدت الهيئات رئيس الحكومة نجيب ميقاتي اتخاذ الموقف الحاسم من موضوع السلسلة بما يحفظ سلامة الاقتصاد الوطني ويجنبه الانعكاسات السلبية التي لا حصر لها، مؤكدة بذلك دعوتها الصريحة السابقة إلى «عدم العبث بالأمن الاقتصادي الذي بات الحفاظ عليه يضاهي الاستقرار والسلم الأهلي، فبينما تعتمد الدول التي هي في وضع مماثل للبنان وضع برامج إصلاحات اقتصادية وإدارية في مقدمتها خفض الرواتب والأجور والنفقات الإدارية، فالمطلوب أن لا تكرر الحكومة سابقة الخطأ الفادح الذي ارتكب عند تصحيح الأجور في القطاع الخاص».

أبعد من ذلك، كانت الهيئات الاقتصادية قد اعتبرت في بيان لها أن «فرض الحكومة المزيد من الضرائب المباشرة على المؤسسات الاقتصادية والمواطنين سيولد انفجارا، لذلك، فإن الحل الأوحد المقبول يكمن في تنفيذ أية زيادة بصورة تدريجية، وأن تمول من خلال وقف الهدر وعدم تحميل الاقتصاد أية أعباء إضافية».

بين أزمة سلسلة الرواتب للقطاع العام وتكلفتها غير المغطاة بموارد جديدة، ومسلسل أزمة تقنين الكهرباء وارتفاع تكلفتها وتراجع خدمتها، تزداد عروض التعقيدات في تأمين مصادر التمويل لحاجات الخزينة، لا سيما أن الجمود الاقتصادي في ازدياد مع تراجع حركة الاستثمار وفرص النمو الاقتصادي التي ضربت نتيجة التطورات الأمنية والسياسية في الداخل».

وعلى خط مواز، خفض معهد التمويل الدولي توقعاته لنمو الاقتصاد من بين 2 و3 في المائة إلى 1.2 في المائة هذا العام، أي أقل من نسبة النمو المحققة في العام الماضي والبالغة نحو 2 في المائة.فالتراجع الذي تسجله المؤشرات الأساسية للاقتصاد يتواصل بشكل صريح مكرسا الانكماش، فيما لاحظ المعهد أن ارتفاع حجم الواردات لا يعكس زيادة في الطلب المحلي، لكنه يفسر الارتفاع الحاد لاستيراد المواد النفطية المرتبط في جانب منه بحركة تهريب هذه المواد إلى سوريا.

ولفت تقرير المعهد إلى أن الهامش على عمليات مبادلة التعثر الائتماني اللبناني لمدة خمس سنوات وصل إلى 492 نقطة أساس، مما يجعله الأعلى بين الاقتصادات النامية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.. فيما انخفضت الهوامش المماثلة العائدة لمصر والمغرب ودبي والبحرين وتركيا.

في هذا الوقت، تواجه وزارة المالية والحكومة معضلة إخراج موازنة عام 2013، التي تقدر نفقاتها بنحو 23 ألف مليار ليرة، بزيادة نحو 2500 مليار ليرة عن عام 2012، وهذا يحتاج إلى إيرادات إضافية حسب تقديرات المالية بنحو 4000 مليار ليرة، لتغطية عجز جديد وقديم نتيجة السلسة وما قبلها وبعدها.. علما بأن مجلس النواب لم يصدر أي قانون موازنة منذ عام 2006، وهذا وضع مالي شاذ أنتج إنفاقا إضافيا هائلا في الأعوام الماضية تم تقنين جزء منه بينما يتم تأخير تغطية باقي المبالغ.