إنقاذ مصارف أميركا الكبرى من الانهيار.. بين النعمة والنقمة

في ذروة الأزمة المالية في 2008 تدخلت واشنطن لانتشالها من الهاوية

وول ستريت.. شارع المال الشهير في نيويورك
TT

تساءل جيمي ديمون الأسبوع الماضي بنبرة شبه بلاغية داخل «مجلس العلاقات الخارجية» في واشنطن: «هل كنت سأشتري شركة (بير ستيرنز) مرة أخرى وأنا أعلم ما أعلمه اليوم؟ الأمر جد دقيق. ما أعلمه اليوم هو أنهم لو كانوا قد اتصلوا بي مرة أخرى من أجل فعل شيء كهذا مرة أخرى، لما كان في مقدوري أن أفعله، فمجلس إدارتي ما كان سيسمح لي بذلك».

وهو لا يمزح في كلامه هذا، فربما كانت حزم الإنقاذ المالي التي تم تقديمها أثناء الأزمة المالية عام 2008 لا تحظى بشعبية بين المواطنين العاديين، لكنه بدأ يتضح أنها لا تحظى بشعبية أيضا في بعض أركان «وول ستريت»، وربما كان ذلك لسبب وجيه، فقد وجدت بعض أقوى الشركات أثناء الأزمة التي استحوذت على المصارف المفلسة بأمر من الحكومة، ومن بينها مصارف «جي بي مورغان تشيس» و«ويلز فارغو» و«بنك أوف أميركا»، نفسها محورا لدعاوى قضائية رفعتها الحكومة بسبب أنشطة تتعلق بصفقات أبرمتها تلك الشركات تحت ضغط من السلطات. وسواء كنت تحب «وول ستريت» أم تكرهه، وسواء كنت تريد أن يوضع مسؤولو المصارف في السجن أم لا، فإن السلسلة الأخيرة من القضايا التي رفعتها الحكومة قد يكون لها تأثير عميق على كيفية استجابة الشركات عندما يطلب منها تقديم المساعدة حين تقع الأزمة المالية المقبلة، فأغلب الظن أنها لن تفعل.

وقال ديمون، الرئيس التنفيذي لمصرف «جي بي مورغان»، الذي اشترى شركة «بير ستيرنز» في شهر مارس (آذار) عام 2008 في صفقة كان مهندساها هما مجلس الاحتياطي الفيدرالي ووزارة الخزانة الأميركية: «باعتبارها سياسة متبعة، فإن هذا سيجعل من الأصعب كثيرا على الشركات في المستقبل أن تشتري شركة متعثرة». وتعتبر تصريحات ديمون في واشنطن في جانب منها ردا على دعوى قضائية رفعها مؤخرا النائب العام إريك شنايدرمان أمام المحكمة العليا بولاية نيويورك، وادعى فيها أن مصرف «جي بي مورغان تشيس» قدم معلومات خاطئة واحتال على المستثمرين فيما يتعلق ببعض الأسهم المضمونة برهون عقارية، وتقدر التعويضات المطلوبة بما يصل إلى 3 مليارات دولار.

والمشكلة الوحيدة هي أن «أعمال النصب والخداع المتعددة» التي تدعيها الحكومة لم تقع في مصرف «جي بي مورغان»، بل وقعت في شركة «بير ستيرنز» ما بين عامي 2005 و2007. وشركة «بير ستيرنز» هذه هي نفسها التي كانت حكومة الولايات المتحدة تتوسل فعليا إلى مصرف «جي بي مورغان» كي يشتريها من أجل تجنب إثارة حالة من الذعر المالي، وشركة «بير ستيرنز» هذه هي نفسها التي كان السعر المبدئي لصفقة شرائها البالغ دولارين للسهم قد أملاه (حرفيا) هنري بولسون وزير الخزانة آنذاك.

وبعد 4 سنوات على ذلك، وقبل أقل من شهر على انتخابات الرئاسة الأميركية، قام شنايدرمان، الذي يشارك في رئاسة «مجموعة العمل المعنية بالأوراق المالية المضمونة برهون عقارية» التي شكلها الرئيس أوباما، برفع القضية. وكان ديمون قد أعلن قبل رفع القضية الأخيرة: «لقد خسرنا من 5 إلى 10 مليارات دولار في أشياء مختلفة تتعلق بشركة (بير ستيرنز)». وتابع مشيرا إلى الضمانات البالغة نحو 30 مليار دولار التي قدمها مجلس الاحتياطي الفيدرالي في إطار الصفقة: «لقد قال أحدهم إن مجلس الاحتياطي الفيدرالي قدم إلينا خدمة. نحن من قدم إليهم خدمة. ولنضع الأمور في نصابها الصحيح: لقد طلب منا أن نفعل ذلك».

ومن الواضح أن ديمون يشعر بالإحباط، إذ يقول إن شركة «بير ستيرنز» لو كانت قد أشهرت إفلاسها، «لما كان هناكت أي أموال، ولا كانت هناك أي قضايا، ولا كانت هناك أي قضايا متعلقة بهبوط الأسهم، ولا كانت هناك أي دعاوى جماعية، ولا كانت هناك قضايا رهن عقاري، لأنه لم تكن ستصبح هناك أي أموال. لكننا اشتريناها». وأي إنسان ساخر يستطيع أن ينسب غضب ديمون هذا إلى التبجح الصرف، فقد كان شراؤه لشركة «بير ستيرنز» على الرغم من كل شيء هو ما رفعه هو ومصرف «جي بي مورغان» إلى مصاف النجوم، وجعل عشرات المقالات حينها تشير إليه باعتباره ملك «وول ستريت» الجديد. ومن الصعب تصديق أن مصرف «جي بي مورغان» لم يربح، أو على الأقل لم يكن قريبا من استرداد القيمة التي دفعها، في صفقة الاستحواذ هذه، مع العلم بأن مقر الشركة المكون من 43 طابقا ويقع في شارع «ماديسون أفينيو» كان جزءا من الصفقة.

ولكن مع ذلك يجدر بنا الاستماع إلى ديمون، ففي المرة المقبلة التي يتطلب فيها الأمر إنقاذا ماليا، قد لا تكون الضغوط السياسية هي ما يمنع حدوثه، بل إن مجلس إدارة الشركة هو الذي سيكون غير مستعد لقبوله. فلو أنك كنت تدير شركة، هل ستساعد بالمشاركة في تقديم إنقاذ مالي إذا كنت تظن أن هناك احتمالا بأن تستدير الحكومة وتقاضيك لاحقا بسبب مخالفات في الشركة التي كنت تساعد على إنقاذها؟

وعندما ساهمت الحكومة في إنقاذ شركة «جنرال موتورز» من خلال تقديم أموال وضمانات كجزء من عملية إشهار إفلاسها، «فقد قاموا بإعفاء الشركة من كل الالتزامات القانونية السابقة»، كما أشار ديمون في مؤتمر هاتفي أجراه مع المستثمرين والمحللين يوم الجمعة الماضي من أجل إعلان الأرباح، مضيفا: «إذن فإن الحكومة غير متسقة قليلا هنا».

وفي الأسبوع الماضي، قام بريت بارارا النائب العام الأميركي في مانهاتن بمقاضاة مصرف «ويلز فارغو»، حيث اتهم المصرف بالاحتيال على الحكومة عن طريق الكذب بشأن جودة الرهون العقارية التي يديرها بموجب برنامج فيدرالي للإسكان. وقال بارارا إن المصرف «انخرط في ثلاثي قديم وطائش من ضعف التدريب وضعف التعهد بتغطية الاكتتاب وضعف الإفصاح، كل هذا مع الاعتماد على المصد الخلفي الجاهز وهو التأمين الحكومي». وتعود الاتهامات الواردة في هذه القضية إلى 10 سنوات مضت، ولعله من المثير للسخرية أن مصرف «ويلز فارغو» يعتبر واحدا من أفضل مؤسسات الإقراض في البلاد، وهذه المكانة وضعت المصرف في وضعية تؤهله لشراء شركة «واتشوفيا» عام 2008، بتشجيع جزئي من شيلا باير رئيسة «المؤسسة الفيدرالية للتأمين على الودائع» حينها، التي كانت في الأصل قد ساعدت على تنسيق صفقة لبيع شركة «واتشوفيا» إلى مصرف «سيتي غروب»، إلا أن هذه الصفقة كانت ستكلف دافعي الضرائب مليارات الدولارات، أما الصفقة التي أبرمت مع مصرف «ويلز فارغو» فقد وفرت على «المؤسسة الفيدرالية للتأمين على الودائع» على الأرجح مليارات الدولارات. ولعل ما هو أغرب من هذا بكثير أن مصرف «ويلز فارغو» كان واحدا من بين الكثير من أكبر المصارف في البلاد التي شاركت في تسوية بقيمة 25 مليار دولار في وقت سابق من هذا العام بشأن مشكلات تتعلق بالرهون العقارية، وبعضها يبدو أنه متداخل مع القضية الجديدة المرفوعة ضده.

وبالطبع كان لمصرف «بنك أوف أميركا» نصيب من المقاضاة في سلسلة من القضايا المدنية المتعلقة باستحواذه على شركة «كونتري وايد» عام 2008 وشرائه لشركة «ميريل لينش»، التي انهارت في أوج الأزمة المالية في شهر سبتمبر (أيلول) عام 2008. وفي وقت سابق من هذا العام، دفع مصرف «بنك أوف أميركا» مليار دولار لتسوية اتهامات بالاحتيال المدني في شركة «كونتري وايد»، إلا أن هناك جزئية هامة وهي أن المصرف استحوذ على شركة «كونتري وايد» المتعثرة تحت ضغوط من الحكومة، بل لقد كانت ضغوطا كبيرة إلى درجة أن كينيث لويس الرئيس التنفيذي للمصرف آنذاك اعتبرها خدمة سوف يردها إليه مجلس الاحتياطي الفيدرالي لاحقا من خلال تقليل اشتراطات رأس المال بالمصارف من أجل القيام بالمزيد من عمليات الاستحواذ. وبعد شراء شركة «ميريل لينش»، الذي خططت له وزارة الخزانة بالتعاون مع مجلس الاحتياطي الفيدرالي، قام كل من «لجنة الأوراق المالية والبورصة» والمستثمرون بمقاضاة المصرف بسبب تضليل المساهمين بخصوص الصفقة. ودفع المصرف إلى «لجنة الأوراق المالية والبورصة» غرامة جزائية قدرها 150 مليون دولار، كما قام بالتسوية مع المساهمين الشهر الماضي مقابل 2.43 مليار دولار، على الرغم من أن وحدة «ميريل لينش» أسهمت في زيادة صافي أرباح المصرف.

ولا يعني أي شيء مما ذكرناه هنا أن الحكومة لم يكن ينبغي أن تحمل هؤلاء المسؤولية عن الاحتيال أو غير ذلك من المخالفات التي تستحق المساءلة، لكن القليل جدا من الدعاوى القضائية التي رفعتها الحكومة على المصارف له علاقة بإلقاء اللوم على الأفراد المسؤولين فعليا عن هذه المشكلات، وبدلا من ذلك فإن الحكومة ببساطة تلقي بالمسؤولية على عاتق مساهمي الشركة، الذين لم يكونوا على الأرجح هم المساهمين الموجودين وقت أن ارتكبت تلك المخالفات. ولكن هل يحدث هذا أي تأثير رادع؟ أم أنها مجرد طريقة لطيفة لحشد مانشيتات الصحف قبيل الانتخابات الرئاسية؟ إن المسؤولين المتسببين في المشكلات لا يدفعون شيئا كالمعتاد، ولو كانت هناك «أعمال خداع»، لكان من الممكن ومن الضروري أن ترفع الحكومة قضايا، إن لم تكن جنائية فعلى الأقل مدنية، ضد الأفراد، فالاحتيال شيء لا تفعله شركة أو مؤسسة، بل أشخاص.

* خدمة «نيويورك تايمز»