الاقتصاد يلقي بظلاله على الانتخابات الأميركية

بين أوباما الديمقراطي الميال لمساعدة الفقراء.. ورومني الجمهوري الميال لحماية الأغنياء

لقطة من إحدى المناظرات بين أوباما ورومني (أ.ف.ب)
TT

يشعر الناخبون الأميركيون، الذين سيتوافدون على صناديق الاقتراع في الأسبوع المقبل، بالقلق الشديد على اقتصادهم، حيث أصبحوا لا يثقون بالحكومة أكثر من أي وقت مضى. فنظرا لانتشار البطالة والشعور المستشري بخيبة الأمل جراء عقد كامل من غياب مكاسب الدخل بالنسبة للطبقة المتوسطة، يتشكك الكثيرون منهم في صورة أميركا الوطنية كمجتمع يوفر فرص الحصول على الرفاهية للجميع.

ونظرا للاختلاف الجذري في النماذج المطروحة على المواطنين الأميركيين لمواجهة المشاكل التي تواجه البلاد، يتوجب على الناخبين أن يفكروا في مسألتين في منتهي الأهمية: ما طبيعة تلك المشاكل؟ وكيف وصلنا إلى هذا الوضع؟ وقبل كل شيء، ينبغي لنا، كمجتمع، مواجهة خياراتنا التي تسببت في وضعنا في هذا المأزق.

ظل الشعور بالضعف الاقتصادي يتزايد عند الطبقة الوسطى على مدار عقود طويلة، حيث إنه بدأ قبل وقت طويل من الأزمة المالية العالمية والركود الذي شاب الأعوام الأربعة الماضية. يمكننا تفسير هذا الأمر على أنه نتاج لبعض القوى الخارجة عن سيطرتنا: مثل التكنولوجيا - التي أدت إلى استخدام التقنيات الآلية بدلا من العمال في الكثير من الوظائف، والعولمة - التي وضعت العامل الأميركي في منافسة مباشرة مع العمالة الرخيصة في الكثير من البلدان الفقيرة حول العالم. أدت هذه التغييرات التي لا هوادة فيها إلى تمكن عدد قليل من جني المزيد من الأرباح، بينما مثلت تهديدا مباشرا على الوظائف وتسببت في تقليل الأجور بالنسبة لبقية المواطنين.

ورغم الدقة الكبيرة التي يتمتع بها هذا التحليل، فإنه يتجاهل دور الخيارات التي لجأنا إليها لإدارة هذه الديناميكيات العالمية القوية. فعلى مدار العقود الثلاثة الماضية، ضربت العولمة والتكنولوجيا الحديثة، التي تتقدم بسرعة فائقة، كل بلدان العالم. ولكننا قمنا بتطوير طريقة فريدة من نوعها في العالم، حيث قمنا ببناء نموذج رأسمالي أكثر وحشية مقارنة بمعظم الدول الصناعية الأخرى. نحن بالفعل أكثر تشككا في الحكومة، ولكننا على استعداد لقبول النتائج التي يفرزها السوق، بما في ذلك انتشار عدم المساواة والفقر المدقع، حيث إننا نميل، أكثر من مواطني البلدان الأخرى، إلى الإيمان بأن النجاح والفشل هو أمر يستحقه الإنسان.

إن نموذج الرأسمالية الذي طورناه في أميركا هو ما قادنا إلى ما وصلنا إليه اليوم. ربما تكون الولايات المتحدة الأميركية مكانا جيدا لتجميع الثروة، فضلا عن أنها تعتبر، من دون أدنى شك، واحدة من الاقتصادات الأكثر ابتكارا وريادة للأعمال في العالم، نظرا لأنها تقوم بإنتاج التكنولوجيا الضرورية لزيادة النمو في العالم، ولكن النموذج الأميركي لم يكن فعالا في نقل الثروة إلى القاعدة العريضة من المواطنين.

ربما يبدو الأمر الآن كما لو أن مشاكلنا الاجتماعية والاقتصادية هي مجرد نتاج للعولمة الآخذة في الانتشار، ولكنها تعد في حقيقة الأمر نتيجة للطريقة التي اخترناها للتعامل مع الفرص والتحديات الموجودة في عالمنا الحديث. لقد كان لنهج الرأسمالية الأكثر وحشية الذي اتبعناه آثار اجتماعية باهظة.

قد تكون الولايات المتحدة الأميركية من أقل بلدان العالم الثرية من حيث انتشار العولمة، حيث ارتفع إجمالي تجارة الولايات المتحدة - وهو مجموع الصادرات والواردات - إلى نحو 31% من الناتج الاقتصادي الإجمالي في عام 2008، وفقا لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية. وعلى النقيض، وصل هذا الرقم في كندا إلى 69% من الناتج الاقتصادي الإجمالي في نفس العام. وفي عام 2008، مثلت الواردات نحو 17% فقط من حجم السوق المحلية في الولايات المتحدة، وهي النسبة الأقل بين الدول الصناعية الأعضاء في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، حيث وصلت هذه النسبة في ألمانيا 44%.

ولكننا تمكنا، في بعض الحالات، من جني الكثير من المكاسب العظيمة من هذا العالم المترابط، حيث ارتفع نصيب الفرد من الدخل في الولايات المتحدة بنسبة 71% خلال الأعوام الـ30 الماضية، بعد إجراء بعض التعديلات المتعلقة بالتضخم، مما يضعنا في المركز الـ16 في قائمة البلدان الـ29 المتقدمة، وفقا لإحصاءات صندوق النقد الدولي خلال هذه الفترة. هناك القليل فقط من البلدان - مثل سنغافورة والنرويج ولكسمبورغ وهونغ كونغ - التي يزيد فيها نصيب الفرد من الدخل عن الولايات المتحدة.

ورغم كل الثروات التي تمكنها من تجميعها، تؤكد إحصاءات منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية أن دخول المواطنين الأميركيين في سن العمل الذين ينتمون إلى الطبقة الوسطى قد ارتفعت بصورة قليلة منذ منتصف حقبة الثمانينات من القرن العشرين مقارنة بكافة البلدان المتقدمة الأخرى. تعاني الولايات المتحدة بعض أسوأ الآفات الاجتماعية المعروفة في البلدان الصناعية، وهو الأمر الذي لا يثير الكثير من الدهشة.

ولا يقتصر الأمر فقط على كون مشكلة عدم المساواة في الدخل في الولايات المتحدة الأميركية هي الأسوأ بين كافة البلدان الصناعية، ولكن يجدر الإشارة إلى أن عدد الأطفال الأميركيين الذين يموتون قبل بلوغ سن التاسعة عشرة يتجاوز نظيره في كافة الدول الغنية الأعضاء في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، ناهيك بارتفاع عدد المواطنين الذين يعانون الفقر وزيادة مستويات السمنة في الولايات المتحدة مقارنة بهذه البلدان. وعندما تصل الفتيات الأميركيات إلى سن المراهقة، تزيد أعداد الفتيات اللاتي يحملن ويرزقن بأطفال عن نظرائهن من المراهقات في كافة البلدان الصناعية الأخرى في العالم. ورغم أننا نتفهم جيدا أهمية تنمية الطفولة المبكرة، فإن الإنفاق العام في أميركا على هذا المجال هو الأقل بين كافة البلدان المتقدمة. ومع أننا ندرك أهمية التعليم، فإن معدل التحاق الأطفال في سن 3 إلى 5 سنوات في برامج ما قبل المدرسة من بين المعدلات الأقل في الدول المتقدمة. وعلاوة على ذلك، يحتل المراهقون الأميركيون في عمر الـ15 المركز الـ26 بين 38 دولة في الاختبارات الدولية لمحو الأمية في مجال الرياضيات، وفقا لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية. ورغم كونها الدولة الأولى التي تدرك أهمية انتشار التعليم الجامعي، تراجعت الولايات المتحدة الأميركية من مركز الصدارة الذي كانت تحتله إلى المراتب المتوسطة في ما يتعلق بمعدلات تخرج الطلبة في الجامعات مقارنة بنظرائها من البلدان المتقدمة. أفرز النموذج الأميركي نظام رعاية صحية عالي التقنية، يوفر علاجات متطورة للغاية لهؤلاء الذين يستطيعون تحمل النفقات، ولكنه يعد باهظ التكلفة ويترك ملايين من المواطنين الأميركيين من دون تأمين صحي.

أما شبكة الأمان الخاصة بنا، التي تهدف إلى حماية الفئات الأكثر ضعفا من ويلات العولمة، فتعتبر بحق شبكة متهالكة. السؤال الذي يطرح نفسه الآن: في أي مكان قد يفقد الشخص وظيفته في مواجهة المنافسة الصينية الرخيصة؟ إنها الولايات المتحدة الأميركية، حيث قد تفقد تأمينك الصحي أيضا، ما لم تمتلك ما يكفي من المال لشراء التأمين الخاص. فإذا كنت المعيل في أسرة تتكون من أربعة أفراد وكنت تتقاضى ما يساوي متوسط مستوى الدخل في البلاد، فلن تحصل من معونات البطالة الحكومية إلا على 52% فقط من الدخل الذي كنت تتقاضاه، بما في ذلك أي مدفوعات رعاية اجتماعية إضافية يحق لك الحصول عليها، حسبما تؤكد إحصائيات منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية. ولا يتوقف الأمر عند هذا الحد، ولكن هذه المعونات ستنخفض إلى 37% فقط من آخر أجر كنت تتقاضاه بعد مرور عامين على بدء تلقيك لها. وفي المقابل، يحصل المواطنون في بريطانيا على 70% من آخر أجر كانوا يتقاضونه لمدة 60 شهرا بعد فقدانهم لوظائفهم، فضلا عن تحمل هيئة الخدمات الصحية الوطنية لكافة متطلباتك الصحية.

تظهر الإحصاءات التي تم إجراؤها في هذا الصدد طريقة تعاملنا مع العجز الاجتماعي: فمن بين كل 100.000 مواطن أميركي، يقبع 743 أميركيا في السجن، وهو ما يزيد على المعدلات الموجودة في سائر بلدان العالم، وفقا للمركز الدولي لدراسات السجون. تحتل رواندا المرتبة الثانية في هذه القائمة، حيث يوجد 595 من بين كل 100.000 من مواطنيها في السجون. وبالطبع، هناك أسباب متعددة ومعقدة وراء حدوث بعض الأمراض الاجتماعية، مثل البدانة وارتفاع معدل وفيات الأطفال، ولكن الإحصاءات الكئيبة تشير إلى وجود نمط مقلق. فرغم أننا نعاني الأمراض الاجتماعية بصورة مرتفعة للغاية، تؤكد إحصاءات منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية أن معدل الإنفاق العام في الولايات المتحدة لمعالجة هذه الأمراض كنسبة مئوية من الاقتصاد هو الأقل مقارنة بكافة البلدان المتقدمة الأخرى.

اقترح دارون أسيموغلو من «معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا»، وجيمس روبنسون من «جامعة هارفارد»، وتييري فيردير من «كلية باريس للاقتصاد»، تصنيفا اقتصاديا من شأنه تقسيم العالم إلى فئتين: البلدان الحميمية، مثل الدول الاسكندنافية، حيث تقوم الحكومات القوية بإدارة أنظمة الرعاية الاجتماعية، والرأسماليات الشرسة، مثل الولايات المتحدة الأميركية، التي تبدي استعدادا كبيرا للتسامح مع المزيد من عدم المساواة لتشجيع روح المبادرة وريادة الأعمال. ربما تكون الحياة أفضل في البلدان الحميمية، ولكن العالم في حاجة ماسة لأن نتطور بنفس وتيرة قسوة الحياة في الرأسماليات الشرسة.

يؤكد هؤلاء العلماء الثلاثة أن المواطنين الأميركيين يعملون لعدد ساعات أطول من نظرائهم في الدول المتقدمة الأخرى، وهو ما يرجع إلى أن دفع نسبة بسيطة من دخولنا للضرائب قد يشجعنا على العمل لساعات أطول. ولكنهم يؤكدون أن الأمر الأهم من ذلك هو حقيقة أن الولايات المتحدة الأميركية تنتج الحصة الأكبر من الابتكارات والإبداعات التقنية بين كافة بلدان العالم، وهي الوقود الرئيسي للنمو الاقتصادي في العالم.

وفي محاولة للتوفيق بين روح المبادرة التي يتميز بها النموذج الأميركي من الرأسمالية والتكاليف الاجتماعية المترتبة على ذلك، يتوجب على الناخبين الأميركيين الاختيار بين ميت رومني - رجل الأعمال الذي يعرض نموذجا لتطوير الاقتصاد الأميركي من خلال تقليص حجم الدور الذي تلعبه الحكومة وجعله أكثر كفاءة، والرئيس باراك أوباما، الذي يقدم نموذجا تكون فيه الحكومة مسؤولة عن مساعدة الفئات الأقل غنا.

إن هذا التصنيف الذي طوره أسيموغلو وروبنسون وفيردير يجعل من الناخبين الأميركيين مسؤولين عن التعقيدات الاجتماعية الموجودة في البلاد. ورغم أن الاقتراح الذي ساقوه - والذي يؤكد أن تحول أميركا إلى فئة البلدان الحميمية من شأنه أن يؤدي إلى انخفاض مستوى الابتكار ومعدلات النمو حول العالم - قد تعرض لانتقادات عنيفة، فإنهم يقدمون رؤية واضحة للناخبين الأميركيين، مفادها أنه عندما يتعلق الأمر بالتعامل مع التحديات الناجمة عن القوى العالمية العظمى، فهناك دائما خيار آخر.

*خدمة «نيويورك تايمز»