هل سيكون اقتصاد الولايات المتحدة أفضل حالا عام 2016؟

عندما يرى الأميركيون أن بلادهم بإمكانها منع الصين من التلاعب بعملتها أو فعل ما تريده

TT

الآن وقد انتهت الحملة الانتخابية للرئاسة الأميركية تقريبا، أصبح من الواضح أن هذه الدورة الرئاسية كانت تدور بالكامل حول الاقتصاد، ولكن ليس الاقتصاد الذي ندخل فيه فعليا. وأثناء المناظرة الرئاسية الثانية، أعلن ميت رومني أنه في حال انتخابه سوف يصنف الصين باعتبارها دولة تتلاعب في العملة، وكان ذلك استعطافا مكررا يقصد به إغراء آلاف العمال المحبطين في قطاع التصنيع ورؤسائهم في العمل في الولايات المعروفة باسم «حزام الصدأ»، إلا أنه أوضح بشكل أساسي إلى أي حد ما زلنا بعيدين عن فهم موقعنا في الاقتصاد العالمي الجديد.. فمنذ وقت ليس بالطويل، كانت الولايات المتحدة تسخر ذلك الاقتصاد العالمي بأكمله لنفسها، حيث ظلت منذ الخمسينات حتى الثمانينات من القرن العشرين أكبر منتج وأكبر مستهلك في العالم، وفي بلدان تمتد من أوروبا حتى أميركا اللاتينية، وكذلك في جميع أنحاء آسيا، كان النجاح يتحدد بمدى قدرتها على انتشال قدر ضئيل من هذا النمو الذي يفوق كل تصور. إلا أن الأمور بدأت تتغير في السبعينات، عندما بدأت اليابان وألمانيا في تصنيع سيارات ومعدات مصانع وأجهزة إلكترونية تتفوق على منافساتها الأميركية، وعلى مدار الثلاثين عاما التالية، عانت الولايات المتحدة من أجل التكيف مع تزايد حدة المنافسة القادمة من المنتجين في آسيا وأميركا اللاتينية. ولكن نظرا لأن الولايات المتحدة ظلت أكبر سوق استهلاكية في العالم، فقد احتفظت بقدر كبير من النفوذ والتأثير، وعلى سبيل المثال، فقد كان من بين الوسائل التي مكنت الحكومة الأميركية من إقناع باكستان بالانضمام إلى الحرب العالمية على الإرهاب التعهد بتقديم إعفاءات ضريبية لمصنعي الجوارب الباكستانيين الذين يدخلون السوق الأميركية.

ومن المفيد أن ننظر إلى إطار العمل الذي وضعه إيان بريمر، وهو رئيس شركة «يوراسيا غروب» للاستشارات السياسية، إذ يقول بريمر إن القوة الأميركية خلال نصف القرن الماضي كانت تقوم على جيش قوي وسوق هائلة - سوق يمكنها أن تثيب وأن تعاقب - وبينما يظل الأول محتفظا بمكانته، فإن باقي العالم قد بدأ يقل اعتماده على الأخيرة إلى حد بعيد. وفي استطاعة رومني وباراك أوباما أن يتعهدا كما يحلو لهما بمعاقبة الصين (والحقيقة أن أوباما كان قد أثار الموضوع نفسه عام 2008)، غير أن تصريحاتهما تدل فقط إما على أنهما لا يدركان أن قوة أميركا الاقتصادية قد تضاءلت، وإما أنهما (على الأرجح) خائفان جدا من ذكر ذلك صراحة. وهذا أمر في غاية الخطورة، حيث يقول بريمر إن حال الناخبين في ولايات «حزام الصدأ» سيكون أفضل إذا ما تمكن الرئيس القادم من إقناع الشركات الأميركية بالتوقف عن الشكوى من الصين والتركيز بدلا من ذلك على تصنيع منتجات تجعل مستهلكيها يرغبون في شرائها، فالشركات الصينية ظلت طوال عقود تدرس السوق الأميركية، والآن حان الوقت للحاق بها.

ومع انتهاء هذه الدورة السياسية، بات واضحا أن الولايات المتحدة قد دخلت فصلا اقتصاديا جديدا، فبحلول الانتخابات القادمة ستكون اضطرابات السنوات القليلة الماضية قد هدأت (كما نأمل)، وسوف تكون لدينا رؤية أوضح للمستقبل. وقد طلبت من العديد من كبار الخبراء أن يتوقعوا ما ستبدو عليه الولايات المتحدة بحلول عام 2016، وكانت هناك حالة من الإجماع في ما بينهم، حيث أخبرني جيفري فرايدن من جامعة هارفارد أنه بدلا من الارتداد فجأة إلى الوراء، فإنه سيكون هناك نمو مطرد لكنه بطيء جدا جدا، كما توقع المحلل الاقتصادي نيغيل غولت من شركة «آي إتش إس غلوبال إنسايت» أن تتراوح معدلات البطالة حول 6.4 في المائة. والشيء الأكثر أهمية الذي أشار إليه فرايدن وبريمر هو أن الولايات المتحدة بحلول عام 2016 سوف تكون مضطرة إلى التكيف مع اقتصاد يعتبر عدم المساواة سمة هيكلية فيه، حيث سيكون هناك الملايين من غير القادرين على العثور على عمل، وعشرات الملايين الآخرين ممن سيتعين عليهم التكيف مع الحصول على دخل أقل، وفي غضون ذلك، فإن من يحملون شهادات جامعية وشهادات عليا سوف يشهدون بلدا تعافى من عثرته، وسوف يرتفع مستوى الدخل الذي يحصلون عليه.

ولن يتمكن الاقتصاد الصيني في الغالب من التفوق على الاقتصاد الأميركي إلا في وقت ما من عشرينات القرن الحالي، ولكن بحلول عام 2016، سوف يقل كثيرا عدد الأميركيين الذين يرون أن الولايات المتحدة يمكنها منع الصين من التلاعب في عملتها أو فعل أي شيء آخر تريده، ففي ذلك الوقت سيكون الأميركيون في الغالب قد خبروا مقدرتها الاقتصادية بصورة مباشرة. وقد أخبرني برينت إيادارولا، وهو مدير في شركة «فروست آند سوليفان» للأبحاث، أن الاقتصاد العالمي الجديد سوف يبدو مثل سوق الهواتف الجوالة الحالية لدينا، فكل أميركي بالغ تقريبا لديه هاتف جوال، غير أن 40 في المائة فقط منهم لديه هاتف «آي فون» أو «أندرويد» أو غير ذلك من الهواتف الذكية. وعلى هذا فإن هذه الصناعة تتوقع نموا سريعا في الأعوام القليلة القادمة، ولكن بحلول عام 2016 سوف تكون السوق الأميركية قد تشبعت، وسوف يضطر مصنعو الهواتف الذكية إلى إضافة الكثير من الميزات والخصائص الجديدة لمجرد أن يقوم عدد صغير من الناس بترقية هواتفهم. ولن يكون هناك نمو كبير أو أرباح كبيرة في الولايات المتحدة، وسوف تركز الشركات الكبرى - وكذلك الاقتصاد الثانوي لصناع الأغلفة ومصممي التطبيقات الإلكترونية - على أذواق الأسواق الناشئة في آسيا وأوروبا الشرقية وأميركا اللاتينية وأفريقيا.

كما سيصبح من الأوضح كثيرا بالنسبة للعمال الأميركيين في مختلف الصناعات أن الكثير من أفضل الفرص المتاحة أمامهم موجود في الخارج، وسوف تشجع السوق الأميركية خلال السنوات القليلة القادمة شركات الأدوية، ومن أسباب ذلك أن الكثير جدا من أبناء جيل طفرة المواليد قد بدأوا في بلوغ المرحلة العمرية الأكثر استهلاكا للأدوية، ولكن ما إن تبدأ تلك السوق في الاختفاء، فأغلب الظن أن شركات الأدوية الكبرى سوف تستهدف المليارات من متوسطي الأعمار في البلدان الفقيرة التي تتجه سريعا نحو التقدم (وربما تجد صعوبة في المنافسة أمام الشركات المحلية وغير المسجلة، إلا أن الإمكانات هناك هائلة).

وبحسب ما أعلنه معهد «آي إم إس لمعلوماتية الرعاية الصحية»، فإن 41 في المائة من إجمالي العقاقير التي بيعت في جميع أنحاء العالم عام 2006 بيعت إلى أميركيين، في حين لم يبع سوى 14 في المائة فقط من العقاقير إلى كل الأسواق الناشئة مجتمعة. وبحلول عام 2016 يتوقع معهد «آي إم إس» أن يشتري المرضى في تلك الأسواق نفس قيمة العقاقير التي يشتريها الأميركيون.

وقد سمعت هذا التصور الأساسي مرة بعد مرة، من السيارات إلى الترفيه بل وحتى الزراعة. وقد أخبرني مارك إيفانز، المحرر بمجلة «الأسمدة الدولية» التجارية، أنه حتى في مجال أسمدة المحاصيل «يتم تبادل الأدوار»، وهي أفضل طريقة للتفكير في التحول الذي سوف يشهده اقتصادنا، فالأمر ليس أن الاقتصاد الأميركي سوف ينكمش، بل إن الاقتصاد الأميركي يزداد إثارة للضجر بينما تقدم الأسواق الأخرى فرصة ضخمة. والإمبراطورية ربما لا تكون مقبلة على النهاية فجأة، لكن الأيام التي كان الساسة يتحدثون فيها بازدراء عن سياسة الصين النقدية هي بالتأكيد كذلك.

وبعد فترة وجيزة من المناظرة الثانية، اتصلت بويليام روجر لويس، وهو عالم كبير متخصص في المراحل الأخيرة من حياة الإمبراطورية البريطانية، وأخبرني لويس أنه بعد مشاهدة أوباما ورومني قفز إلى ذهنه هارولد ماكميلان، الذي كان أول رئيس وزراء بريطاني بعد الحرب العالمية الثانية يقر تماما بحاجة المملكة المتحدة إلى التكيف مع لعب دور أصغر في العالم. فبعد قدومه إلى السلطة عام 1957، طلب ماكميلان من مجلس وزرائه أن يعد تقريرا شاملا يدرس علاقة بريطانيا بكل مستعمرة وكل دولة تحت الحماية وكل قاعدة عسكرية تابعة لها، وطلب منهم أن يفعلوا ذلك بعين محاسب بارد وأن يتصفوا بمنتهى البراغماتية الاقتصادية. وعلى مدار العقود القليلة التالية، أصبح تقرير ماكميلان هذا بمثابة دليل استرشادي، وسرعان ما رحلت المملكة المتحدة عن الكثير من المستعمرات في المحيط الهادي، وعملت على تقوية علاقتها مع الهند وباكستان وغيرهما من البلدان التابعة السابقة، وعرضت الاستقلال على العديد من الدول في أفريقيا والبحر الكاريبي، مع الاحتفاظ بحضور اقتصادي كبير هناك.

ومن المؤكد أن هذه المقارنة غير سليمة تماما، فالولايات المتحدة ليست لها أي مستعمرات، وسوف تظل أكبر اقتصاد في العالم لبعض الوقت، إلا أن لويس يقول إن الولايات المتحدة ما زال يمكنها أن تستخدم لحظة شبيهة بتلك التي كان يمر بها ماكميلان.. أن تعتمد على رجل دولة لمساعدتها على التكيف مع اقتصاد لم يعد لديه نفس القدر من النفوذ الذي كان لديه في السابق. وفي عام 2016، سوف نكون أقرب بخطوة واحدة، والسؤال هو: متى سيتحدث قادتنا بصدق عن هذا؟

* مؤسس مشارك لسلسلة «Planet Money» التابعة لمحطة «NPR»، وهي عبارة عن سلسلة وسائط متعددة ومدونة وسلسلة إذاعية يمكن الاستماع إليها عبر برامج «Morning Edition»، و«All Things Considered»، و«This American Life».

* خدمة «نيويورك تايمز»