أموال أقل مشكلات أكثر: القاسم المشترك بين الصين وأميركا وأوروبا

TT

تواجه الاقتصادات الثلاثة الأضخم في العالم مشكلات مزمنة بعيدة المدى، لكن هناك أمرا ملحوظا بشأن الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والصين في عام 2012، وهي أن كلا منهم يحاول حل هذه المشكلات بمعزل عن البقية، دون أن تجبره الأسواق العالمية أو الاضطرابات المحلية على القيام بذلك.

المخاطر كبيرة لا يمكن تصورها، فإذا ما نجح قادة هذه الدول في الهجمات الاستباقية على مشكلاتهم العميقة، فسوف يجعل ذلك من القرن الحادي والعشرين قرنا غنيا بالاستقرار والرفاهية. وإذا ما فشلوا فسوف تكون العواقب وخيمة.

تأتي الصين المثال الأبرز على ذلك، فقد جاء صعود تشي جينبينغ لقيادة الحزب الشيوعي والجيش، لأكثر دول العالم سكانا، في وقت يشهد فيه النمو تراجعا عن العام السابق.

وبدلا من أن ترد الحكومة على التباطؤ الاقتصادي بضخ فوري للأموال في النظام المصرفي، اتخذت خطوات بعيدة المدى، لتشجيع التحول بشكل أكبر نحو اقتصاد يقوده المستهلك، عوضا عن الاقتصاد الذي يعتمد على التصدير لكل دول العالم، وتعزيز نظام مالي أكثر ليبرالية يقوم بضخ المال للشركات ذات المستقبل التجاري الأفضل، لا تلك التي يفضلها السياسيون.

وفي الولايات المتحدة تشكل أزمة التقشف التي تلوح في أفق - الهاوية المالية التي سيجري تنفيذها بواسطة الولايات المتحدة في الأول من يناير (كانون الثاني)، عندما يكون رفع الضرائب وخفض الإنفاق تغيرات السياسة الغائبة للحيلولة دون ذلك - خطوة ذاتية بالكامل فرضتها السياسة الداخلية للدولة. بالفعل، الدولة تعاني من عجز كبير في الميزانية، وتكلفة الرعاية الصحية وغيرها من المستحقات تمضي على الطريق الصحيح للارتفاع خلال السنوات المقبلة مع تقاعد جيل طفرة المواليد. لكن الأسواق المالية لا تجبر الدول على أخذ هذه القضايا بعين الاعتبار، إلا أن المستثمرين العالميين يقدمون المال للحكومة بأرخص معدل فائدة على الإطلاق.

ومن ثم فهذه أزمة سياسية وليست أزمة مالية، إذ لم تنشأ من التدافع على السندات أو العملة الأميركية، بل عبر سلسلة من الحسابات السياسية التي أجراها الكونغرس وإدارتي بوش وأوباما التي أدت إلى جعل الأول من يناير (كانون الثاني) 2013 يوما لتغيير عدد كبير من السياسات - وقرار لاستخدام تلك الحقيقة لمحاولة إجبار الولايات المتحدة على تجاوز المشكلات المالية متوسطة المدى.

ربما تسعى أوروبا إلى كسر هذا النمط، الذي تحظى به، فهي لا تزال أسيرة أزمة امتدت خلال السنوات الثلاث السابقة، ويمكن لكثير من الدول في القارة، على عكس الولايات المتحدة، أن توصف تحديدا بأنها خاضت أزمة مالية. المشكلة بالنسبة لأوروبا ككل ليست في الدين بحد ذاته، بل في ارتباطها بموجب عملة واحدة.

وذلك دون بعض صمامات الضغط الرئيسية التي تسمح لعملة الاتحاد بالعمل، مثل التحويلات المالية المستمرة بين الدول، دين صدر على نحو مشترك، وتركيز ضمانات النظام المصرفي. وعلى مدى السنوات الثلاث السابقة جاء الضغط من الأسواق المالية التي أجبرت السياسيين لتحقيق بعض التقدم في حل هذه المشكلات، وتشكيل اتحاد أكثر قدرة على التحمل. ولسوء الحظ فقد قادت الأزمة الدبلوماسية أيضا كثيرا من بلدان القارة إلى الركود (كما تؤكد بيانات الناتج المحلي الإجمالي التي نشرت يوم الخميس). وفي سبتمبر (أيلول) قال المصرف المركزي الأوروبي إنه سيقدم إمدادات غير محدودة من اليورو لمكافحة ارتفاع تكاليف الاقتراض التي سببها رهان المستثمرين على انهيار اليورو، والتي ستنجح في الحفاظ على عائدات السندات التي تم احتواؤها بشكل نسبي، لكنه يتركها الآن للسياسيين ليحققوا التقدم لتشكيل اتحاد مصرفي ومواصلة التقدم بشأن تكامل مالي دون أن تجبرها الأسواق المالية على ذلك.

هنا تأتي ثلاثة أرقام تحدد حجم هذه التوجهات الثلاثة الكبرى وهي 8.7 في المائة، التي تمثل النسبة التي سمحت الحكومة الصينية لعملتها بالارتفاع مقابل الدولار منذ عام 2010، في محاولة للنأي باقتصادها من نمط يعتمد على الدولار الأميركية للحفاظ على قيمة العملة منخفضة، ودعم الصادرات. الرقم الثاني هو 1.61 في المائة، الذي يمثل نسبة الفائدة الحالة على سندات الخزانة لأجل 10 سنوات، والذي يعكس تكلفة الاقتراض المنخفضة للغاية للحكومة الأميركية حتى في وقت تركزت فيه تلك النقاشات في واشنطن على خفض العجز. و5.9 في المائة، وهو العائد الحالي على سندات الدين الإسبانية أجل 10 سنوات، التي ارتفعت إلى أكثر من 7.5 في المائة أوائل الصيف الحالي، وهو الأمر الذي لن يمكنها معه تحمله.

إذا لم يأتِ الضغط من السوق لإصلاحات الصورة الكبرى هذه، فمن أين سيأتي؟ لكل دولة قصتها المتفردة الخاصة، وسلسلة طويلة من الأحداث التي أدت إلى اللحظة الحالية (لو أن جورج بوش سن خفض الضرائب الذي لم ينته بصورة آلية في عام 2001، على سبيل المثال، أو طالب مجلس النواب الذي يسيطر عليه الجمهوريون بمكاسب أقل في مقابل رفع سقف الدين في عام 2011، لما وجدت الهاوية أو لكان للمفاوضات ديناميكية قوة مختلفة إلى حد بعيد).

لكن النتائج تتناقض مع كيفية تعامل الدول بشكل عام مع مثل هذه المشكلات المزمنة في الماضي. ففي الولايات المتحدة، فرض التضخم الذي بلغ 12 في المائة في أواخر السبعينات تطبيق نوع ما من الإصلاحات العميقة - والكساد العميق - الضروري لمواجهة التضخم. وخلال حقبة التسعينات تطلب الأمر من اليابان 10 سنوات من الركود الاقتصادي لتنفيذ إصلاحات في القطاع المصرفي المتصلب (ولا تزال الإصلاحات جارية).

ويقوم القادة الصينيون والأميركيون والأوروبيون، من نواح عدة، بإصلاح التباينات العالمية المزمنة في أنماط الإنفاق والادخار حول العالم، التي كانت سببا أساسيا في ذعر عام 2008. وقد كانت التدخلات التي قامت بها المصارف المركزية حول العالم سببا جوهريا في أن لا تخرج تلك الموجة من الأزمة عن السيطرة، والعالم الآن في مكان لا تضع فيه الأسواق المالية ضغوطا على الاقتصادات العالمية الكبرى.

التساؤل الذي يشغل الأذهان الآن هو ما إذا كانت هناك إمكانية للمضي قدما في تنفيذ هذه الإصلاحات بعيدة المدى من دون تلك الضغوط. وهل سيتمكن الرئيس الصيني الجديد من قيادة دولته في سنوات نمو أكثر ضعفا للوصول إلى اقتصاد يقوده المستهلك؟ هل ستكون الهوة المالية كافية لدفع قادة أميركا إلى رسم طريق نحو تمويلات عامة أكثر استدامة؟ وهل ستواصل أوروبا طريقها الطويل للتكامل، على الرغم من حماية البنك المركزي الأوروبي لدوله من ضغوط سوق السندات؟

الإجابات عن هذه التساؤلات ستشكل إضافة إلى مستقبل الاقتصادات في العالم.

* خدمة «واشنطن بوست» خاص بـ «الشرق الأوسط»