تزايد المخاوف الاقتصادية من تداعيات «الجفاء» بين دول الخليج ولبنان

الاستثمارات المتبادلة تفوق الـ16 مليار دولار.. و500 ألف لبناني يعملون في الخليج

جانب من العاصمة اللبنانية بيروت («الشرق الأوسط»)
TT

يرتفع منسوب المخاوف في الأوساط الاقتصادية اللبنانية من تفاقم النتائج السلبية الناتجة عن المناخات غير الإيجابية التي تسود العلاقات اللبنانية - الخليجية، وامتناع رعايا دول مجلس التعاون عن المجيء إلى لبنان، بينما دخل الاقتصاد اللبناني مرحلة انكماش فعلي بعد تسجيل نمو سلبي في فصلين متتاليين انخفضت معه ترقبات نمو الناتج المحلي إلى أقل من 2 في المائة هذا العام.

وتبدو المحاولات المبذولة للخروج من هذا الواقع خجولة، إذ يقتصر الجزء الأكبر منها على مبادرات يتولاها مسؤولون وهيئات نقابية من القطاع الخاص أبرزها تحرك متواصل يقوم به رئيس الهيئات الاقتصادية عدنان القصار. لكن لم تفلح هذه المحاولات، حتى الساعة، في تبديل المناخ السائد، ولم يكتب لها النجاح المأمول، لا في إلغاء قرارات الحظر الصادرة عن حكومات بلدان الخليج، ولا في إصلاح الخلل الحاصل، فبقي الوضع على حاله حتى اليوم، والذي كان له غير دليل، سواء في التراجع الحاد في أعداد السياح العرب أو في حركة الأسواق.

ووفق تحليل شامل أصدرته مجموعة «الاقتصاد والأعمال» فإن المناخ الذي يسود العلاقات اللبنانية - الخليجية، والذي نتج عن سلوك سياسي معين، قد أصاب مقتلا في الاقتصاد اللبناني. وهذا الواقع يستدعي عملا سياسيا مسؤولا وشجاعا ينتج تحركا عمليا يزيل هذه الغمامة السوداء ويضع حدا لهذه الحالة الظرفية التي تجافي مشاعر الخليجيين تجاه لبنان والتي هي في الأساس مشاعر محبة وصداقة. ويعيد بالتالي صفو علاقات مع إقليم عربي شكل على مدى العقود الماضية العمق الاقتصادي للبنان، ولعب دورا كبيرا في نهوض اقتصاد لبنان وتعزيز مداخيل أبنائه. فتحول لبنان، وحتى في أصعب الظروف، واحة للاستثمارات الخليجية، ومقصدا للسياحة والطبابة والاستشفاء والتعليم.

ويضيف التحليل: «إن حكومات بلدان الخليج عموما، وبالأخص السعودية والإمارات والكويت وقطر، كانت سندا للبنان في أصعب الظروف فوفرت الدعم لاستقراره النقدي، وساهمت في تمويل الكثير من مشاريع البنى التحتية بهبات وبقروض ميسرة، ويمكن القول وبكل موضوعية، بأن هذه المواقف الخليجية تجاه لبنان لم تكن في مقابل ارتهان سياسي، بل كان واقعها حرصا على استقرار لبنان سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، وسعيا إلى الإفادة من مزاياه ومن دوره الإقليمي على أكثر من صعيد».

وتتركز المخاوف الاقتصادية، وفقا للتحليل، على مسارين أساسيين في حال استمرار حالة «الجفاء» القائمة. الأول، تأثر حركة الاستثمارات الخليجية بما ينتجه من انعكاسات سلبية على الاقتصاد اللبناني. والثاني، بروز تحفظ أو حذر أو منع ربما في منح تأشيرات دخول للبنانيين إلى بلدان الخليج لاعتبارات تتعلق بمصالح هذه البلدان، حيث بدأ اللبنانيون يواجهون هذه الظاهرة في بعض الحالات.

وفي البعد الأشمل، ترصد أرقام صندوق النقد الدولي الأهمية الاستراتيجية لعلاقات لبنان بدول الخليج كونها منتجة ومصدرة للنفط، فكل زيادة بنسبة واحد في المائة في إيرادات الاقتصادات الخليجية ينتج عنها تقديريا زيادة مماثلة في الناتج المحلي اللبناني من خلال التحويلات إلى لبنان. وكل زيادة بنسبة واحد في المائة في أسعار النفط ينتج عنها متوسط زيادة بنسبة 0.26 في المائة في الصادرات اللبنانية إلى بلدان الخليج، وارتفاع بنسبة 0.21 في المائة في عدد القادمين إلى لبنان.

وتظهر الإحصاءات الرسمية، التي لا تعكس كامل العلاقات البينية، مدى العمق الاقتصادي الذي تشكله بلدان الخليج بالنسبة إلى لبنان. فوفق الأرقام الأساسية التي تم استخلاصها بالتعاون مع «دائرة الأبحاث الاقتصادية في بنك بيبلوس»، تمثل بلدان الخليج الستة مصدرا لـنحو 60 في المائة من تحويلات اللبنانيين العاملين في الخارج، حيث يستحوذ اللبنانيون العاملون في بلدان الخليج على حصة أساسية ومهمة من إجمالي المودعين غير المقيمين في المصارف اللبنانية، علما بأن إجمالي تحويلات اللبنانيين العاملين في الخارج تناهز الـ8 مليارات دولار سنويا.

وتوازي الاستثمارات المباشرة من رعايا البلدان الخليجية بين 75 و80 في المائة من إجمالي الاستثمارات الأجنبية المباشرة (FDI) في لبنان، وبلغت قيمة الصادرات اللبنانية إلى بلدان الخليج في عام 2011 ما نسبته نحو 20 في المائة من إجمالي الصادرات، في حين يشكل السياح القادمون من السعودية والإمارات والكويت نحو 35.3 في المائة من إجمالي القادمين العرب إلى لبنان ونحو 12.3 في المائة من إجمالي العام للقادمين، ويمثل السياح السعوديون وحدهم 25 في المائة من إجمالي إنفاق السياح في لبنان، ويستحوذ السياح من الإمارات وقطر والكويت والبحرين على 20 في المائة من الإنفاق السياحي.

وبحسب مركز الدراسات الاقتصادية في غرفة بيروت وجبل لبنان، يفوق حجم الاستثمارات المتبادلة التراكمية 16 مليار دولار. فقد بلغت الاستثمارات التراكمية لدول مجلس التعاون الخليجي في لبنان للفترة ما بين 1985 و2009 نحو 11.3 مليار دولار، أي ما نسبته نحو 92.7 في المائة من إجمالي الاستثمارات العربية في لبنان. والحصة الأكبر من هذه الاستثمارات مصدرها السعودية (4.8 مليار دولار)، تليها الإمارات (2.9 مليار دولار) والكويت (2.8 مليار). وفي المقابل، بلغت الاستثمارات اللبنانية المتراكمة، للفترة ذاتها، في دول مجلس التعاون الخليجي نحو 4.7 مليار دولار منها في السعودية (2.4 مليار دولار) والإمارات (1.5 مليار دولار) والكويت (680 ألف دولار).

ولا تعكس هذه الأرقام، تبعا للتقرير، الحجم الحقيقي لهذه الاستثمارات نظرا إلى غياب الإحصاءات الدقيقة في هذا المجال، وإلى صعوبة رصد كل النشاط الاستثماري، ولا سيما في المجال العقاري، فضلا عن أن هذه الإحصاءات موقوفة حتى نهاية عام 2009، وقد طرأت بالتأكيد إضافات عليها على مدى السنوات الثلاث الماضية، على الرغم من محدودية النشاط خلال هذه الفترة. والمعروف أن الاستثمارات الخليجية في لبنان تتوزع على قطاعات عدة في مقدمها القطاع العقاري، ثم السياحي، إضافة إلى القطاع المصرفي، والقطاع التجاري وبخاصة في تجارة التجزئة، وبنسبة أقل في القطاع الصناعي.

وتبرز في ملف العلاقات اللبنانية - الخليجية أهمية الدور الاقتصادي والمالي الذي تلعبه الجاليات اللبنانية المنتشرة في بلدان الخليج، ولا سيما في أربع دول منها هي السعودية والإمارات والكويت وقطر. فرغم غياب الإحصاءات الدقيقة عن الحجم الحقيقي لهذه الجاليات، فإن التقديرات تشير إلى أن اللبنانيين العاملين في الخليج يبلغ عددهم نحو 500 ألف، وهم موزعون بين نحو 200 ألف في السعودية ونحو 100 ألف في الإمارات، وما يزيد على 40 ألفا في قطر، ونحو 35 ألفا في الكويت. وتشكل هذه الهجرة المثمرة والبناءة رافدا أساسيا للاقتصاد اللبناني من خلال التحويلات التي تتدفق إلى لبنان سنويا، فتسهم في تنشيط حركتي الاستثمار والاستهلاك وفي تعزيز ميزان المدفوعات. وما يزيد من أهمية هذه الهجرة أنها مؤقتة ولا تتحول إلى اغتراب، كما أن اللبنانيين العاملين في الخليج، وبحكم القرب الجغرافي، هم على تفاعل دائم مع بلدهم الأم وهم يعودون إليه مرات عدة في العام الواحد.

وفي سياق متصل، بحث أمس رئيس الاتحاد العام للغرف التجارة العربية الوزير السابق عدنان القصار مع رئيس غرفة تجارة وصناعة دبي عبد الرحمن سيف الغرير موضوع عودة رجال الأعمال والمستثمرين من دولة الإمارات العربية المتحدة إلى لبنان، بعد زوال الأسباب التي حالت دون ذلك في الصيف الماضي.

وأبلغ القصار الغرير في اجتماع عقد في دبي، أن الحكومة اللبنانية ترحب بكل الأشقاء الإماراتيين من رجال أعمال وسائحين ومواطنين، وبكل الأشقاء من الدول العربية الأخرى الخليجية يحلون كراما بين أهلهم وأصدقائهم، في الوطن الذي أحبوه وبادلهم المحبة بمثلها.

وأكد القصار للغرير أن «لبنان بالمقارنة مع الأوضاع السائدة في البلدان العربية المجاورة يتمتع بالهدوء والاستقرار، خصوصا في ظل الدور الحازم الذي يلعبه الجيش اللبناني والأجهزة الأمنية على صعيد بسط الأمن على كامل الأراضي اللبنانية بما في ذلك طريق مطار رفيق الحريري الدولي، حيث يقوم الجيش اللبناني بتوجيه من رئيس الجمهورية العماد ميشال سليمان وقائد الجيش العماد جان قهوجي بفرض سلكته لمنع القيام بأي أعمال تعيق حركة المسافرين وتنقلاتهم على هذه الطريق».

وكانت الزيارة مناسبة للبحث في شؤون الاتحاد العام للغرف العربية والغرف العربية الأجنبية المشتركة. وتم التركيز على دور الاتحاد والقطاع الخاص العربي في هذه الظروف الاستثنائية التي تمر بها الدول العربية، وتقتضي الدفع بمشاريع التنمية لتحسين المؤشرات الاقتصادية والاجتماعية سبيلا للاستقرار السياسي والاجتماعي. واتفق على أن ينظم اتحاد الغرف العربية في 2013 منتدى اقتصاديا عربيا في دبي، بالتعاون مع غرفة دبي واتحاد غرف الإمارات.

وتأتي زيارة القصار لدولة الإمارات في إطار جولة له في دول الخليج العربي لتشجيع المستثمرين ومواطنيها على زيارة لبنان، وللبحث في الشؤون الاقتصادية العربية قبل انعقاد قمة الرياض الاقتصادية والاجتماعية والتنموية المقررة في يناير (كانون الثاني) المقبل.