انقسام عالمي حول دخول النشاط التجاري في مجال الفنون

البعض أكد أن الصناعة قد تختفي وتعود للركود من دون تجارة والبعض يعارضهم

جانب من معرض «آرت بازل» الذي أقيم في ميامي جنوب فلوريدا (نيويورك تايمز)
TT

كانت ميرا روبيل تتحين بعض الوقت أثناء وقوفها لتحية مئات الزوار داخل مركز الفن المعاصر الآخذ في الانتشار الذي تمتلكه أسرتها هنا في ميامي كي تلتقط أنفاسها. وفي البداية قالت: «من منتهى الغطرسة أن ترفض.....». فقاطعها ابنها جيسون قائلا: «نعم هي غطرسة. إنها قصة غير شيقة على الإطلاق». وفي الوقت الحالي، امتنع زوجها دون تماما عن محاولة المشاركة بأي كلمة.

ويجاهد آل روبيل، الذين يعتبرون عمداء المشهد الفني الصاعد في ميامي، في مواجهة سيل من الشكاوى التي ظلت تتعالى خلال الأسابيع السابقة لمعرض «آرت بازل» الذي يستضيفه منتجع «ميامي بيتش» سنويا ويعد قبلة محبي الفنون من جميع أنحاء العالم، وقد انطلقت فعاليات هذا المعرض يوم الأربعاء الماضي واختتمت الأحد الماضي؛ فقد وجه كتاب ونقاد فنيون بارزون، من بينهم سارة ثورنتون وفيليكس سالمون وويل غومبريتز وديف هيكي، انتقادات عنيفة إلى عالم الفنون، قائلين إن المبالغ المالية المذهلة التي تنفق على الأعمال الفنية تشوه الأحكام التي يتم تكوينها عن الفن، وتضعف من أهميته الثقافية على المدى البعيد. وكتبت ثورنتون في مقالة نشرتها مجلة «تار» الفنية مؤخرا بعنوان «أهم 10 أسباب لعدم الكتابة عن سوق الفنون»: «المال يتكلم بصوت مرتفع ويخرس بسهولة المعاني الأخرى». وفي الطبعة الخاصة التي أصدرتها جريدة «آرت نيوزبيبر» الفنية الشهرية بمناسبة افتتاح المعرض، تساءلت الجريدة عما إذا كان «عالم الفنون يواجه أزمة قيم» بسبب «التأثير الضار الذي تحدثه السوق على الفن».

وفي نظر الكثير من النقاد، فإن معرض «آرت بازل ميامي بيتش»، أو ما وصفه سايمون دونان في مقالته التي نشرتها مجلة «سليت» الإلكترونية الأسبوع الماضي بأنه «حفل تجاري ترويجي»، صار رمزا لكل ما هو خطأ في سوق الفنون، وثارت ردة فعل عكسية ضد النجاح الهائل الذي حققه المعرض فيما لا يتجاوز الـ10 سنوات بقليل، إلى جانب البذخ المفرط الذي يميز الاحتفال به. غير أن ردة الفعل العكسية هذه لم تصب آل روبيل، بالإضافة إلى عدد متزايد من الأسماء البارزة الأخرى من هواة جمع الأعمال الفنية، وكذلك التجار والمشرفون على الأعمال الفنية، حيث انطلقت ردة فعل مقابلة لردة الفعل العكسية هذه. وقد أكد جيسون روبيل: «السوق تدعم الفنانين»، وأضاف أنه بالنظر إلى محدودية الدعم الحكومي الموجه إلى الفنون؛ «فإنها تصبح صناعة لا يمكن أن يكون لها وجود من دون تجارة. ما الذي يريده الناس؟ أن نعود إلى حالة الركود؟».

وأعربت ميرا روبيل عن انزعاجها من أنه يبدو أن النقاد يتجاهلون التحول الاجتماعي والاقتصادي والثقافي الذي تشهده ميامي، والذي ساهم هذا المعرض وجامعو الأعمال الفنية من أمثالها في إحداثه، وأشارت إلى أن مركز الفنون هذا المملوك لآل روبيل والذي تبلغ مساحته 45 ألف قدم مربع وإحدى صالات العرض الضخمة الموجودة فيه تحفل بأعمال أوسكار موريلو - وهو مهاجر كولومبي يبلغ من العمر 26 عاما، ويعيش مع عائلة روبيل، الذين قدموا له الدعم كي ينتج عشرات اللوحات الزيتية الجدارية - كان في السابق مركز تخزين تابعا لـ«إدارة مكافحة المخدرات» الأميركية.

وبالخارج في فناء المركز، أبدى الزوار من أمثال مارثا ستيوارت إعجابهم بالتعاون الذي تم بين الفنان الفرنسي برنار فينيت وشركة «بوغاتي»، صاحبة السيارات الرياضية الفخمة الشهيرة، لإنتاج سيارة فريدة من نوعها هي السيارة «فيرون غراند سبورت فينيت» (وقد صرحت متحدثة باسم شركة «بوغاتي» بأن سعر هذه السيارة لم يتحدد بعد، لكنه بلا ريب سيكون في «الحدود العليا من الملايين»). وعلقت ميرا روبيل قائلة: «أنا ممتنة لشركات (بوغاتي) و(بريير) و(بنك أوف أميركا) والشركات الأخرى، حيث إن الدعم الذي تقدمه يساعد على تسهيل إقامة برامج ذات جودة عالية وفتح معارض مثل هذا (وهو عرض «موريلو») للجمهور».

وفي منتجع «ميامي بيتش»، داخل المقر الرئيسي للمعرض، تنتشر هذا الأسبوع البهارج الموجهة نحو المستهلكين، مثل عربات القهوة التي تبيع مشروب «روينارت» بسعر 20 دولارا للكوب، وماكينات لف السيجار التي تنتجها شركة «ديفيدوف»، وسيارات «بي إم دابليو» من تصميم كبار الفنانين، واللوحات الشخصية التي يرسمها الفنان تاكاشي موراكامي حسب الطلب مقابل 70 ألف دولار أو أكثر. ويستطيع المرء بالكاد أن يتخيل أن لوحة الفنانة باربارا كروغر المعروضة في صالة عرض «إل آند إم» - والتي توجد بها لافتة كبيرة الحجم مكتوب عليها «الطماع» في سطر ثم شرح غير صالح للنشر في السطر الذي يليه - لها عنوان فرعي خفي يقول للشخصيات الهامة الثرية التي تأتي إلى هذا المتجر: «أنا أتحدث إليك أنت، نعم أنت!».

وأوضح دون روبيل أن الرعاة من الأثرياء بطبيعة الحال دائما ما يدعمون الفنانين، بداية من الفراعنة وحتى آل الميديتشي، أما اليوم فإن صفقات البيع التي تصل قيمتها إلى عدة ملايين من الدولارات لا تمثل سوى شريحة صغيرة للغاية من سوق فنون مزدهرة تتسم بالتنوع الشديد. ويؤكد دون روبيل أن عالم الفنون قد «بدأ فعليا يصبح أكثر ديمقراطية»، وتابع قائلا إن «هناك 20 معرضا فرعيا»، بالإضافة إلى الحدث الرئيسي المرموق «آرت بازل»، مضيفا: «مهما كان حجم المبلغ الذي تضعه في جيبك، فإنه يمكنك أن تدخل عالم الفنون السحري هذا».

وتعتبر فكرة احتواء سوق الفنون على مبالغ وفيرة فكرة يقول مارك غليمشر، وهو واحد من أفراد العائلة يتولى إدارة صالة عرض «بيس غاليري»، إنه يتفق معها. ويضيف أن هناك بالتأكيد أمثلة لصالات عرض تحولت إلى شبكات توزيع لحساب هواة الاقتناء من الأثرياء الذين يرغبون فيما لدى أصدقائهم، أو منافسيهم. وفي الماضي كان الفنان أو صالة العرض تفعل على الفور عكس ما يثير الناس ضجة حوله، أما الآن فهو يقول إن «كل قاعة في مدينة نيويورك» ترغب في نفس اللوحات. غير أن غليمشر يؤكد أن هناك في الأساس أسواقا بقدر ما يوجد من الأعمال الفنية المنفردة، وأن هناك أناسا أكثر من أي وقت مضى لديهم تقدير للفنون. وأشار إلى أن سوق الفنون «ليست طفلا نشارك جميعا في تربيته»، ملخصا بعض النقاط التي أثارها في كلمة ألقاها على الجمهور داخل المعرض يوم الخميس الماضي، بل ذهب إلى تشبيهه بغابات السافانا الأفريقية، التي تلتهم فيها الأسود الأبقار الوحشية، ويبحث فيها كل حيوان مفترس عن مملكة صغيرة له كي يحافظ على بقائه. وفي ممر آخر من ممرات المعرض، ذكر التاجر فيرغوس ماكفري من نيويورك أنه يرى أن هناك مبالغة في المخاوف المثارة بشأن مستقبل الفنون، مؤكدا: «ميامي هي من نوعية الأماكن التي تمتلئ بالترف والثراء، والتي توجد فيها الكثير من الأموال، ولكن هناك فن حقيقي يحدث هنا».

ولكن مع ذلك، فإن الكثيرين في عالم الفنون يشعرون بالقلق من أنه حتى إذا كان كبار هواة الاقتناء يلعبون دورا مفيدا في السوق، فإنهم يمارسون أيضا تأثيرا غير متكافئ عليها، حيث إن أذواقهم الشخصية مهما كانت فريدة أو متميزة قد تجعل من الفنان العادي فنانا رفيعا، وتجعل من الفنان العظيم فنانا مجهولا، وذلك بحسب ما يقوله أصحاب ذلك الرأي. فقد ذكرت ماجدا بالتوياني، وهي تاجرة من اليونان، بينما كانت تستريح لبرهة في البهو الخاص بهواة الاقتناء: «كل شيء هو استهلاك، وصالات العرض متعطشة جدا للمال. صالات العرض هي التي تدير اللعبة الآن، وليس المتاحف».

إلا أن الأقوياء من هواة جمع الأعمال الفنية، من إيلي برود حتى روزا دي لا كروز، يقاومون هذه الفكرة. فيقول برود، الذي أسس متحفا جديدا داخل «جامعة ولاية ميتشيغان» ويخطط لافتتاح متحف آخر في منطقة وسط المدينة بلوس أنجليس عام 2014، والذي تتبرع مؤسسته بانتظام لمئات المتاحف وتعيرها بعض الأعمال من مجموعتها التي تضم 1800 عمل فني: «أنا لا أعتبر نفسي صانعا للأذواق». وقد احتل برود المركز العاشر هذا العام في القائمة التي أعدتها مجلة «آرت بلس أوكشن» الفنية لأقوى الشخصيات في عالم الفنون، وتم نشرها يوم افتتاح المعرض. وقال إينو شولما، وهو رئيس مجلس إدارة متحف «ميوزيم لودفيغ» الذي يقع في مدينة كولون الألمانية، إنه يساند ويشجع هواة الاقتناء الطموحين مثل برود. واستطرد قائلا: «هنا يوجد جمهور صعب الإرضاء إلى حد لا يصدق، ولديه التزام بشراء أفضل الأشياء، ونحن نحتاج إليهم كي تعمل سوق الفنون». وأضاف أنه يحب التظاهر بالشجاعة الذي يبديه هواة الاقتناء الذين يأتون إلى منتجع «ميامي بيتش»، ثم ختم حديثه قائلا: «إنهم ليسوا جبناء، وهذا أمر أساسي».

* خدمة «نيويورك تايمز»