اليابان.. والمرض الاقتصادي الذي يلازمها منذ سنوات

انخفاض الأسعار أصبح ثابتا في بلد متحول

شعار الين الياباني إلى جانب الدولار («الشرق الأوسط»)
TT

«يمكن لحكومة تتحلى بالإرادة والتصميم في إطار النظام المالي الورقي زيادة الإنفاق بما يؤدي إلى حدوث تضخم إيجابي» بن برنانكي 2002.

ربما حانت الفرصة الآن لاكتشاف مدى صحة ما قاله برنانكي. تبدو اليابان مستعدة لفعل كل ما يلزم لوضع حد لانخفاض الأسعار المستمر منذ فترة طويلة. اتخذ البنك المركزي الياباني إجراء محدودا يوم الخميس الماضي ومن المتوقع أن يتخذ المزيد من الإجراءات خلال العام الجديد.

ألقى برنانكي، الذي كان آنذاك عضو مجلس إدارة مجلس الاحتياطي الفيدرالي ويشغل حاليا منصب رئيسه، خطابا اقتبست منه العبارة التي ذكرت في بداية المقال، في وقت كان يعاني فيه الاقتصاد الأميركي من التعثر في ظل تباطؤ التعافي الاقتصادي وانخفاض الأسعار على الأقل بحسب مؤشر أسعار السلع الاستهلاكية. لقد كان يرى أن مجلس الاحتياطي الفيدرالي لن يفلس إذا خفض سعر الفائدة الاسمية إلى الصفر ولم يستجب الاقتصاد. وأثبت منذ ذلك الحين أنه على صواب في هذا الصدد. لقد أشار خلال الخطاب إلى عبارة قالها ميلتون فريدمان بشأن استغلال المال المستخدم في علاج عجز الإنفاق في مقاومة التضخم وهو ما دفع المحافظين، الذين صُدموا من موقفه العدواني بعد الأزمة المالية، إلى إطلاق اسم «بن المروحية» عليه. تقدم اليابان طوال عقدين من الزمان دليلا دامغا على إمكانية حدوث انكماش مزمن في نظام اقتصادي حديث. وتنخفض الأسعار بخطى ثابتة مستمرة على الرغم من سعر الفائدة المنخفض بشكل غير عادي مما أدى إلى حالة من الركود الاقتصادي.

فاز الحزب الديمقراطي الليبرالي، الذي حكم اليابان تقريبًا طوال فترة ما بعد الحرب تقريبا إلى أن أزيح عن السلطة منذ ثلاثة أعوام، خلال الأسبوع الحالي فوزا ساحقا. وسيحصل شينزو آبي، الذي شغل منصب رئاسة الوزراء من عام 2006 إلى 2007، على فرصة أخرى. خصص آبي جزءا كبيرا من حملته لانتقاد البنك المركزي الياباني، حيث يريد من البنك أن يسعى إلى تحقيق التضخم ويستمر في طبع الأموال النقدية إلى أن يحقق هذا الهدف. وتحدث خلال حملته عن ضرورة أن تصل نسبة التضخم إلى 3 في المائة، على الرغم من أنه اكتفى بنسبة 2 في المائة على ما يبدو. على أي حال سيكون تحقيق أي من النسبتين تغيرا كبيرا بالنسبة للبلاد. وانخفض مؤشر التضخم المستخدم في حساب إجمالي الناتج المحلي بنسبة 18 في المائة عنه في نهاية عام 1994.

واتخذ البنك المركزي يوم الخميس خطوة صغيرة نسبيًا في الاتجاه الذي يدعو إليه آبي، حيث قرر زيادة مشترياته من الأصول، ويبدو أنه ترك خيار استهداف نسبة محددة للتضخم على الطاولة ليتم مناقشته في اجتماع لاحق. ورحب آبي بهذه الخطوة وأشاد بها. أصبحت التوقعات بحدوث انكماش جزء من الاقتصاد الياباني إلى مدى كبير. واستمرت السندات الحكومية الصغيرة لسنوات كثيرة. وعلى الرغم من ضآلة العائدات الاسمية، تعد العائدات الحقيقية (بعد التضخم) مقبولة لوجود انكماش لا تضخم. ولم تكن المنافسة محتدمة إلى هذا الحد. وتأرجحت البورصة، لكنها لا تزال بعيدة كثيرا عن مستواها عندما بدأت الفقاعة العقارية اليابانية في الانكماش في أوائل التسعينيات. ولا تزال للخسائر التي مُني بها قطاع العقارات بسبب هذه الفقاعة، (هل تتذكر حدائق القصر الإمبراطوري في طوكيو التي كان من المفترض أن تتجاوز قيمتها ولاية كاليفورنيا بأكملها؟)، تأثيرا على نفسية المستثمرين.

لطالما دعا علماء الاقتصاد الغربيون، ومنهم برنانكي، اليابان إلى السعي وراء تحقيق تضخم. وعرض علماء اقتصاد صينيون مؤخرا اقتراحات مماثلة، لكن حتى هذه اللحظة لم يحدث الكثير في هذا الاتجاه. وأعلن البنك المركزي الياباني عن استهداف تضخم إيجابي نسبته تصل إلى 1 في المائة، لكن هذا لا يحظى بدعم كبير، فضلا عن كونه لم يحدث بعد بالتأكيد. ويُنظر إلى محاولات التيسير الكمي المحدود التي يقوم بها البنك المركزي الياباني باعتبارها محاولات مؤقتة ولا تحدث أي تغيير يذكر. ولم يتضح بعد ما إذا كانت الوعود الجديدة بتحقيق المزيد من التغييرات الملموسة ستكون قابلة للتطبيق.

وأوضح كينيث روغوف، أستاذ الاقتصاد بجامعة هارفارد، قائلا: «لن يكون استهداف تضخم بنسبة 2 في المائة في هذه المرحلة خطوة كبيرة». واقترح على كل من الولايات المتحدة واليابان السعي وراء التضخم. وقال: «عليهم السعي نحو التضخم بحماس إلى أن تصبح التوقعات بالتضخم مرتفعة بشكل ثابت. لا أحد يعلم إلى أي مدى ينبغي أن يصلوا من أجل تحقيق ذلك».

وتردد البنك المركزي الياباني في الماضي في القيام بمحاولة جادة لترسيخ هذه الإمكانية على الأقل لسببين. السبب الأول هو الخوف من تأثر سوق سندات الحكومة اليابانية سلبا. أما السبب الثاني هو حدوث ضرر بالغ في ميزانية البنك المركزي نفسه، حيث يملك البنك الكثير من السندات الحكومية التي قد تنخفض قيمتها السوقية. وبالتالي ربما يدفع هذا البنك المركزي إلى طلب إعادة رسملة من الحكومة، وهو أمر من المحرج الحديث عنه ناهيك عن تنفيذه.

وسيكون على البنك المركزي إبداء الاستعداد لتقديم قروض بسعر فائدة ثابت من أجل ترسيخ الثقة. وسيحتاج هذا على الأرجح إلى اتخاذ خطوات من أجل منع الين من الارتفاع، وهو ما قد يثير بلا شك قلقا في الولايات المتحدة.

مع ذلك يهد هذا عمليا جدا كما أوضحت الحالة السويسرية. عندما وصلت أزمة ديون منطقة اليورو إلى أسوأ حالاتها أصبحت سويسرا ملجأ آمنا للمستثمرين القلقين من تفكك منطقة اليورو. وأدى هذا إلى ارتفاع قيمة الفرنك السويسري مقابل اليورو مما قوّض قدرة سويسرا التنافسية. واستجابت الحكومة السويسرية بإعلان عدم السماح بانخفاض اليورو إلى أقل من 1,2 فرنك سويسري، واستعداد الحكومة لبيع الفرنكات لتلبية الطلب إذا دعت الحاجة. وكان هذا ضروريا وراكمت سويسرا محفظة ضخمة من النقد الأجنبي. كذلك تستطيع اليابان أن تفعل ذلك إذا هي اختارت إعلان أن الدولار سيعادل على الأقل 100 ين وهو مستوى لم نشهده منذ عام 2009. إن القيام بهذا من شأنه أن يعيد فورا على الأقل بعض التنافسية للصناعة اليابانية، التي عانت من عجز تجاري، وهو أمر كان يبدو مستحيلا منذ بضع سنوات فقط.

قد يجعل تحقيق تضخم في اليابان عبء الديون الذي ترزح تحته البلاد، والذي تجاوز حاليا مستوى أي دولة كبرى أخرى، خاضعا للسيطرة على ما يبدو. من النتائج المؤسفة للانكماش والركود السنوي ارتفاع النسبة بين ديون البلاد وإجمالي الناتج القومي حتى في حال عدم اقتراض المزيد من المال. كان حجم الاقتصاد الياباني، الذي يقاس بالين، أكبر عندما غادر آبي منصبه عام 2007، قبل أن يفقد حزبه السلطة، عنه في الوقت الحالي. قد يسهل حدوث تعافٍ أكبر في الولايات المتحدة، ناهيك عن تفادي تراجع أوروبي جديد، على اليابان استعادة النمو مرة أخرى. مع ذلك لا يعد ذلك بحل كل مشكلات اليابان حتى في حال تحققه، نظرا لتقدم أعمار السكان في اليابان. لذا تحتاج اليابان المزيد من العمال، لكن موقفها تجاه الهجرة يجعل من ولاية أريزونا مكانا أكثر انفتاحا عند مقارنتها بها.

انحرف الاقتصاد الياباني لفترة طويلة إلى الحد الذي جعل العالم يعتقد أنه بات عصيا على الإصلاح أو الاعتقاد على الأقل في استحالة حدوثه. لهذا النقد أساس، لكن من الممكن أن تتغير الظروف. من الواضح أن اليابانيين، الذين بدوا راضين عن طريقة سير الأمور، يريدون الآن شيئا مختلفا وإن لم يكونوا يعلمون على وجه التحديد ما هو هذا الشيء وكيفية الوصول إليه. لقد حقق الحزب الديمقراطي الياباني فوزا ساحقا في الانتخابات منذ ثلاثة أعوام، لكن اتضح تعثره وتخبطه عندما حاول يدير شؤون البلاد. وعاد الناخبون إلى الديمقراطيين الليبراليين. ولم يتضح بعد هل سيكون آبي كفؤا ويستطيع قيادة حزب لا تزال داخله فصائل متناحرة. ولا يزال المستثمرون يمتلكون الشجاعة، حيث سجلت البورصة اليابانية ارتفاعا بعد الإعلان عن نتائج الانتخابات، في حين انخفض الين. وهناك سبب يدعو إلى الأمل في حدوث تغير بعد الانتخابات على الأقل حتى هذه اللحظة.

* خدمة «نيويورك تايمز»