الأزمة الاقتصادية تدفع شباب أوروبا إلى الهجرة خارج القارة العجوز

البرازيل تحولت إلى ملجأ للأوروبيين الباحثين عن فرص عمل

لا توجد إحصاءات دقيقة حول عدد الشباب الذين انتقلوا من البرتغال إلى البرازيل بحثا عن العمل
TT

غادر تياجو لامبوكا البرتغال متجها نحو البرازيل للبحث عن عمل في مجال تخصصه كمهندس معماري، ولكن قرار الهجرة كان يتجاوز مجرد البحث عن المال، فهو خيار جيل بأكمله يبحث عن الانتقال إلى مكان ينمو بمرور الوقت بدلا من البقاء في دولة يشعر أنها قد استنفدت وأنهكت، والرحيل إلى مكان يمكنه من بناء مستقبله المهني بدلا من البقاء في بلد يتنقل فيه أبناء هذا الجيل من وظيفة مؤقتة إلى أخرى.

وقال لامبوكا إنه نشأ في إطار نفس التوقعات المألوفة في العالم المتقدم: ذاكر جيدا وتعلم حرفة تقنية مثل الهندسة المعمارية حتى تتمكن من رفع مستوى معيشتك والحصول على معاش مريح عندما تتقاعد. وأشار لامبوكا إلى أن هذا الكلام قد عفا عليه الزمن في أوروبا وأن زملاءه في الدراسة قد انتهى بهم المطاف بالعمل في وظائف مؤقتة مثل إصلاح الأثاث، في حين يتنقل آخرون من دولة إلى أخرى وهم يبحثون عن موطئ قدم.

وقال لامبوكا البالغ من العمر 29 عاما وهو يحتسي العصير في مقهى في الهواء الطلق في ظل متحف الفن في ساو باولو: «يمكنك إيجاد عمل في البرتغال، ولكنك لن تتمكن من بناء سيرتك المهنية، أما هنا فقد حدث كل شيء بسرعة، فقد جئت في زيارة لمدة أسبوعين، ووجدت وظيفة بعد يومين فقط وقدمت على دراسة الماجستير في إدارة الأعمال».

وبعد خمس سنوات من النمو البطيء أو الركود والإحساس المتنامي بمحدودية الفرص في أوروبا، قرر لامبوكا وغيره من شباب جيله الرحيل إلى البرازيل، وهي مستعمرة برتغالية سابقة تشترك مع البرتغال في نفس اللغة، بعدما أصبحت البرازيل مقصدا مألوفا للهروب من حالة الركود التي تعاني منها البرتغال.

ولم يكن لامبوكا أو غيره ممن هاجروا إلى البرازيل عاجزين عن إيجاد عمل في بلادهم، ولكنهم جميعا تحدثوا عن الحصول على برامج تدريبية والعمل بوظائف لمدة عام في بلدان أوروبية أخرى ضمن منطقة اليورو، علاوة على عملهم بوظائف أخرى رغم ارتفاع معدل البطالة في أوروبا، ولكنهم أشاروا إلى أنهم لم يعودوا يصدقون أن هناك فرصا في البرتغال أو إسبانيا أو البلدان الأوروبية الأخرى تمكنهم من بناء سيرتهم المهنية، وشعروا بأن القارة الأوروبية قد وصلت إلى طريق مسدود.

ولا توجد إحصاءات دقيقة حول عدد الشباب الذين انتقلوا من البرتغال إلى البرازيل بحثا عن العمل، ولكن البيانات الصادرة عن وزارة الخارجية البرازيلية تشير إلى وجود زيادة كبيرة منذ عام 2010 في أعداد تأشيرات العمل الصادرة من القنصليات البرازيلية في البرتغال. ولكن هذه البيانات لا تتضمن أعدادا كبيرة من البرتغاليين المهاجرين إلى البرازيل، بما في ذلك أولئك الذين حصلوا على تأشيرات من إحدى القنصليات البرازيلية في دول أخرى، علاوة على الأعداد الكبيرة التي تسافر إلى البرازيل بتأشيرات سياحية ثم يغيرون وضعهم بعد الحصول على وظيفة أو التسجيل في إحدى الكليات أو الجامعات.

ويقول مهاجرون آخرون مثل لامبوكا إن أعدادا كبيرة من البرتغاليين المهرة يريدون الهجرة إلى البرازيل التي تعد واحدة من أكثر الأسواق الناشئة ديناميكية في العالم، فهي الدولة التي تتمتع بثروات سلعية ضخمة وقفزة هائلة في مجال الطاقة، علاوة على احتضانها أحداثا هامة للغاية خلال الفترة القادمة مثل كأس العالم لكرة القدم عام 2014 ودورة الألعاب الأوليمبية عام 2016. وهو ما يجعل البرازيل في حاجة ماسة إلى المهندسين والمهندسين المعماريين والمستشارين والعمالة الماهرة الأخرى.

إنهم يتحدثون بشيء من القلق عن هجرة العقول من بلدانهم بعد تزايد أعداد المهاجرين، وخير دليل على ذلك أن صفحات كل منهم على موقع التواصل الاجتماعي «فيس بوك» تشمل ما يتراوح بين 20 و30 صديقا من البرتغاليين المهرة الذين وصلوا إلى البرازيل في الآونة الأخيرة، علاوة على أنهم يستقبلون رسائل إلكترونية – ربما عدة رسائل في اليوم الواحد – من أصدقائهم أو زملائهم في الدراسة الذين يريدون اللحاق بهم.

وقالت خوانا أوليفيرا، وهي مهندسة معمارية أيضا، إنها تعمل في البرازيل منذ عامين وقد زادت مسؤولياتها بمرور الوقت، حيث تم إعادة هيكلة المكتب الذي تعمل به في الآونة الأخيرة ليعتمد بصورة أكبر على الشباب من أمثالها للمساهمة في عمل التصميمات المبتكرة والإبداعية، وهو ما منحها فرصة ثمينة لم تكن لتحصل عليها في شركة أوروبية وهي في هذه السن.

وتحدثت أوليفيرا عن تأثير الأزمة الاقتصادية في أوروبا على حياتها ومستقبلها المهني، مشيرة إلى أن أي شخص في أوروبا لديه طموح «يتعين عليه أن يغير طريقة تفكيره ويرحل إلى مكان آخر».

ويعد ما حدث مع لامبوكا وأوليفيرا وغيرهما جزءا من إعادة هيكلة النظام الاقتصادي العالمي نتيجة الأزمة الاقتصادية التي تواجه منطقة اليورو، حيث اضطر المستثمرون إلى إعادة توزيع أموالهم كما اضطرت الشركات إلى نقل مكاتبها إلى أماكن أخرى وتغيير استراتيجياتها خوفا من مخاطر احتمال تفكك منطقة اليورو وتجدد الركود مرة أخرى، علاوة على آفاق النمو القاتمة في المستقبل.

وعلاوة على ذلك، قلصت بعض المصارف الأوروبية أنشطتها الخارجية وتوارت خلف حدودها الوطنية وتخلت عن خططها الاستثمارية بالخارج وخطوط كاملة من الأعمال مثل التمويل التجاري في قارة آسيا، في حين قامت مصارف أخرى بتوجيه استراتيجياتها للخارج، مثل مصرف مدريد بانكو سانتاندر الذي يحقق جزءا بسيطا من أرباحه من إسبانيا بعدما خصص معظم وقته وطاقته للعمل في أماكن أخرى مثل البرازيل والمكسيك، التي تشكل النصيب الأكبر من أرباح المصرف.

وقام الذراع المصرفي الاستثماري لمصرف «بانيف» البرتغالي في الآونة الأخيرة بنقل أحد مسؤوليه التنفيذيين الماليين من لشبونة إلى ساو باولو بهدف استكشاف فرص استثمارية أفضل وخدمة قاعدة عملاء المصرف المتزايدة في البرازيل.

وقال مستشار الأعمال بيدرو نيفيز (27 عاما) إنه قد عمل في شركة صغيرة في لشبونة لمدة أربع سنوات، ثم قرر الرحيل إلى الخارج لتحسين وضعه، مضيفا: «جئت إلى هنا في إجازة وأجريت بعض المقابلات الشخصية وتلقيت عرضين من شركتين»، قبل أن تنتهي مدة إجازته. ويعمل نيفيز الآن في شركة «كيه بي إم جي» في ريو دي جانيرو، حيث يساعد الشركة بفضل دراسته الجامعية في مجال التسويق الرياضي على التعامل مع الأولمبياد التي ستستضيفها مدينة ريو دي جانيرو عام 2016. ويقول نيفيز: «إنها فرصة جيدة أن أتواجد في سوق ستشهد تطورات جديدة، خارج أوروبا».

وحتى الاتجاهات التي كانت تبدو ثابتة قد بدأت تتغير بطبيعة الحال، ففي وقت مبكر من الأزمة في أوروبا، زادت حدة مشاكل القطاع المصرفي عندما تم سحب التمويل القادم من سوق المال الأميركية، وهي الخطوة التي حرمت المصارف الأوروبية مما كان ينظر إليه على أنه مصدر ثابت للتمويل قصير الأجل. وبعد القرارات الأخيرة التي أصدرها البنك المركزي الأوروبي بخفض مخاطر انهيار منطقة اليورو، بدأت هذه الأموال في العودة بصورة تدريجية. وعلاوة على ذلك، بدأت الديون الضخمة المستحقة على المصارف المركزية للدول الأضعف مثل إسبانيا لدول مثل ألمانيا تنخفض أيضا، وهو ما يعني أن المال قد توقف عن التدفق خارج تلك البلدان التي تعاني من الناحية المالية.

ومع ذلك، ثمة بعض الشكوك في أن تكون هجرة رأس المال والشباب من منطقة اليورو علامة على ضعف معين في الاتحاد الأوروبي – عيب في التخطيط خلق درجة مخيفة من عدم الاستقرار في الاقتصاد العالمي.

وفيما يتعلق بإنشاء منطقة اليورو، فقد رأى أصحاب تلك الفكرة أن الفوارق الشاسعة بين الدول الأعضاء سوف تزول بمرور الوقت – وأن اليونان والبرتغال ستكونان في نهاية المطاف قادرتين على المنافسة مع ألمانيا أو هولندا على سبيل المثال. وترى النظرية الاقتصادية أن رأس المال الاستثماري سوف ينتقل من الدول الأكثر تقدما في منطقة اليورو إلى الدول الأقل نموا – للاستفادة من انخفاض تكاليف العمالة، وحقيقة أن المناطق الأقل نموا دائما ما تقدم عائدا على الاستثمار أكبر من المناطق الأكثر استقرارا. وبالإضافة إلى ذلك، من المتوقع أن ينتقل العمال من الأماكن التي تعاني من ارتفاع معدلات البطالة وانخفاض الأجور إلى البلدان التي تتوافر بها فرص العمل والأجور المرتفعة.

ومع ذلك، لم يحدث أي من هذا بشكل كاف في منطقة اليورو. ربما تساعد هجرة العمالة على تحسين الأوضاع في منطقة اليورو على المدى القصير، لأن كل برتغالي أو يوناني يهاجر يعني تناقص شخص من الأعداد الكبيرة التي تتنافس على الوظائف المتاحة، علاوة على أن المهاجرين سوف يرسلون أموالا إلى موطنهم الأصلي في شكل حوالات، والتي تعد مصدرا هاما من مصادر الدخل الأجنبي لبعض الدول.

ولكن تأثير هجرة الشباب لن يكون جيدا على المنطقة على المدى الطويل، ولا سيما وإن كان المهاجرون من الشباب المتعلم المسلح بالمهارات والطموح والإمكانيات الكبيرة مثل لامبوكا. ويقول المهاجرون الجدد إلى البرازيل إنهم جاءوا ولديهم خطط وطموحات متنوعة – بدءا من المهام قصيرة الأجل لمساعدة رب العمل وحتى الآمال التي لا حدود لها والبقاء في البرازيل بشكل دائم.

وقالت باتريشيا كاردوسو إنها قد أحبت أول وظيفة شغلتها عقب تخرجها في الجامعة، حيث كانت تعمل في برنامج تلفزيوني في العاصمة البرتغالية لشبونة، ولكنها سرعان ما شعرت بأن طموحاتها باتت أكبر من ذلك وأن الخطوات القادمة ستكون صعبة للغاية في ظل اقتصاد لا يشهد تغيرا كبيرا في الموظفين الكبار ولا يمنح فرصة كبيرة لانطلاق الشباب.

وقالت كاردوسو: «دائما ما يحدث نفس الشيء: أبدأ العمل هنا وسوف تحصل على برامج تدريبية لمدة ستة أشهر. ولذا قررت في إحدى الليالي أن أهاجر إلى مكان آخر وألا أعمل هنا مرة ثانية».

وتعمل كاردوسو الآن كمساعدة مخرج في المشروعات التلفزيونية والأفلام الروائية وتقيم في شقة قريبة من شاطئ ايبانيما مع آخرين. وتقول كاردوسو: «لا أنوي العودة إلى بلادي، فقد عشقت هذا المكان، الشاطئ والشمس والناس الطيبين، ولا تمثل اللغة أي مشكلة بالنسبة لي، علاوة على وجود الكثير من الفرص هنا».

* خدمة «واشنطن بوست» خاص بـ«الشرق الأوسط»