ضائقة فرنسا المالية أكبر مصدر للمخاطر

بينما تنخفض تكاليف الإنتاج في دول اليورو.. ترتفع في فرنسا

واجهة مقر شركة السيارات الفرنسية «رينو» (أ.ف.ب)
TT

مع رفع الحكومة الفرنسية الاشتراكية الضرائب المفروضة على الأثرياء وتهديدها بتأميم مصنع صلب العام الماضي، انتابت إسبانيا حالة من الفرح الشديد من أنباء زيادة الصادرات وتوسيع الكثير من مصانع السيارات من قبل أصحابها.

كانت إشارة صغيرة لما يحتمل أن يضحي اتجاها مميزا في منطقة اليورو. لقد قامت أكثر الدول تعثرا، بما فيها إسبانيا، بخفض تكاليف الأجور وتعديل قوانين العمالة والقوانين الاجتماعية في إطار جهد مبذول من جانبها لتصبح أكثر تنافسية.

الآن، ثمة ضغط متزايد على فرنسا للقيام بالشيء نفسه، أو المخاطرة بالتراجع في كفاح أوروبا من أجل تحقيق انتعاش الاقتصادي.

لقد تقلبت حكومة الرئيس الجديد فرنسوا هولاند ما بين وعود الإصلاح والهجمات المحتدمة في بعض الأحيان على المصالح المشتركة والأثرياء، وهي الحقيقة التي أقضت مضاجع المسؤولين الحكوميين في واشنطن ومناطق أخرى بشأن اتجاه ثاني أكبر اقتصاد في منطقة اليورو.

يقول إدوارد غاردنر، الرئيس المساعد لقسم أوروبا بصندوق النقد الدولي: «تتراجع فرنسا نسبيا أمام هذه الدول الأخرى». ويضيف: «التوقع العام ما زال ضعيفا جدا، ليس فقط بسبب الظروف الخارجية (في الاقتصاد العالمي)، وإنما أيضا بسبب فقدان النشاط على المستوى الداخلي».

استنادا إلى مجموعة كبيرة من المؤشرات، تقلصت الأزمة المالية في منطقة اليورو، غير أن مشكلاتها الاقتصادية تظل عميقة على نحو يحد من قدرات المنطقة على دفع النمو العالمي.

في فرنسا، التي تعتبر عمودا مهما في أي انتعاش اقتصادي أوروبي، توقف النمو ويشهد معدل البطالة ارتفاعا، وتبدو القيادة السياسية منقسمة ما بين أصلها الاشتراكي والسياسات الأكثر ودا تجاه السوق التي قد تبنتها دول منطقة اليورو الأخرى.

منذ توليه منصبه، وعد هولاند وحكومة رئيس الوزراء جان مارك أيرو بجعل الدولة مكانا مرحبا به بالنسبة لرواد الأعمال. تمخضت المفاوضات التي جرت بين مجموعات أعمال واتحادات ونقابات بارزة الأسبوع الماضي عن مجموعة من المقترحات لتيسير تنسيق ساعات العمل في ظل انكماش اقتصادي، مع تعزيز إعانات البطالة. غير أنهم أيضا زادوا الضرائب المفروضة على الأثرياء.

لقد ترددت أصداء التهديد بتأميم مصنع صلب يملكه الملياردير الهندي لاكشمي ميتال في قاعات اجتماعات مجالس الإدارات والهيئات الحكومية، حيث ينظر إلى هولاند بوصفه متشبثا بجزء من أوروبا القديمة في وقت تحاول فيه الدول الأخرى التعايش مع نظام جديد.

يقول جوزيف كوينلان، كبير خبراء السوق الاستراتيجيين في «يو إس تراست»، ذراع الثروة الخاصة لـ«بنك أوف أميركا»: «إنها قومية محضة ولا تبشر بالخير» فيما يتعلق باتجاه الاقتصاد الفرنسي.

كتب كوينلان، وهو زميل في صندوق «مارشال» الألماني، مؤخرا دراسة لغرفة التجارة الأميركية تشجع الشركات الأميركية على الاستمرار في الاستثمار في أوروبا.

تقوم كثير منها بتقليص الاستثمارات التي تمت في العقود منذ الحرب العالمية الثانية، ولكنها لا تتماشى الآن مع سكان أوروبا الغربية المسنين – مثلما فعلت شركة «فورد» مؤخرا حينما أغلقت مصنع خمور يعود إلى ستينات القرن العشرين في غينك ببلجيكا.

وقال كوينلان إن هؤلاء الذين يقبلون رؤيته التي مفادها أن أوروبا ما زالت على درجة بالغة من الضخامة والثراء يستحيل معها تجاهلها قد راقبوا هولاند عن كثب، مشيرين إلى أن بإمكانهم بالدرجة نفسها من السهولة الاستثمار في بولندا أو داخل منطقة اليورو، في دولة مثل إسبانيا، التي تضغط بشدة من أجل استعادة قدرتها التنافسية.

«عليهم إدراك أنهم لا يتنافسون مع الصين. بل يتنافسون مع بولندا أو إسبانيا على الدولار القادم في الاستثمار»، هذا ما قاله كوينلان.

يشير مسؤولون فرنسيون إلى أن الخلاف مع ميتال انتهى إلى تسوية، ويقولون إنه رغم السياسات الداخلية للدولة المعقدة في بعض الأحيان، فإن هولاند عازم على استمرار تنافس فرنسا مع بقية دول أوروبا. وقد تحلى بالصلابة في السعي لتحقيق أهداف خفض العجز في الميزانية – موقف سياسي صعب بالنسبة لسياسي اشتراكي يحارب ارتفاع معدل البطالة.

يقول متحدث بالسفارة الفرنسية في واشنطن: «لا يوجد أدنى شك بين أعضاء الحكومة في أن يكون الانفتاح على المستثمرين الأجانب مفتاحا للاقتصاد الفرنسي».

في الوقت نفسه، ثمة دليل على أن الدول الأخرى تحقق تقدما على حساب فرنسا.

وفي تقرير صدر مؤخرا، قارن صندوق النقد الدولي تكاليف الإنتاج الآخذة في الانخفاض في إسبانيا والدول الأخرى المتعثرة بتكاليف الإنتاج في فرنسا، التي ما زالت مرتفعة وخاضعة لتعاقدات صارمة مع دول منطقة اليورو وقواعد أخرى.

في حين يوجد شك بشأن ما إذا كانت الإصلاحات المقترحة أو التغييرات الأخرى سوف تفعل الكثير من أجل تغيير ذلك، فإن هناك أيضا حجة قوية مفادها أن أمرا مؤثرا سيحدث.

مع إعادة دول الجوار تنظيم قوانين العمل الخاصة بها وتقليل الإعانات الاجتماعية وإصلاح العقد الاجتماعي لأوروبا، ربما تشكل قاعدة جديدة سيكون من اللازم على فرنسا التوافق معها.

يقول جاكوب فانك كيركغارد، الزميل بمعهد بيترسون للاقتصادات الدولية الذي يتابع أخبار منطقة اليورو عن كثب: «إنهم على وشك أن تتخطاهم في كثير من هذه القضايا المتعلقة بالتنافسية الدول الهامشية نفسها التي كانوا يحاولون إبقاء أنفسهم بمعزل عنها».

ويضيف: «سيتعين على الجميع تبني معيار بعينه - إنك تتجه نحو مستوى أقل من حماية العمالة ومستوى أقل من المركزية في التفاوض على الأجور» يسمح لكل مصنع أو شركة بتحديد مستويات أرباح اعتمادا على ظروفه الخاصة.

تم تبني اليورو مع توقع أن تتجه الاقتصادات الأعضاء في منطقة اليورو نحو مستويات أجور وإنتاجية ودخل مشتركة، غير أنه كان من المفترض أن تعمل في الاتجاه المعاكس، من خلال استثمارات من دول ثرية، كألمانيا، وتحسين الإنتاجية ومستويات المعيشة في دول أقل تقدما مثل اليونان.

لكن الظروف المروعة في الحد الجنوبي من أوروبا ربما تفرض تعديلا على فرنسا، الدولة التي غالبا ما عرفت بحبها لوقت الفراغ وتشككها في الثراء.

من المتوقع أن ترتفع مستويات دين فرنسا إلى أكثر من 90 في المائة من الناتج الاقتصادي السنوي هذا العام، غير أن هولاند قد تعهد بالسيطرة على العجز السنوي في الميزانية. ويقول المسؤول بالسفارة: «إنه ليس خطرا خوض سباق نحو القاع، بل حاجة من جانب كل دولة لامتلاك أنظمة اجتماعية يمكن تمويلها على المدى الطويل».

يقول صندوق النقد الدولي إن الخطط الحالية لفرنسا معتمدة على افتراضات مفرطة في التفاؤل حول النمو الاقتصادي، مما يعني احتمال ضرورة اتخاذ المزيد من الإجراءات، لا سيما إذا ما أرادت الدولة تجنب انخفاض آخر في التصنيف الائتماني لسنداتها، الذي كان تصنيفا ممتازا من قبل.

* خدمة «واشنطن بوست» خاص بـ«الشرق الأوسط»