أميركا: من التعهيد الخارجي إلى التوطين الداخلي.. هجرة معاكسة للوظائف

في تحول تقوده شركة «أبل»

الشركات الاميركية على غرار غوغل بدات إعادة توطين وظائفها في الولايات المتحدة («نيويورك تايمز»)
TT

تتمثل المشكلة التي دائما ما يواجهها خبراء الاقتصاد في تحليل الاقتصاد في التفرقة بين الجهود الدورية، التي تكون مؤقتة، والجهود الهيكلية، التي لها دلالات طويلة الأجل. وفي واقع الأمر، يكاد يكون من المستحيل التمييز بين الاثنين، غير أن التمييز يشكل أهمية؛ إذ إن سياسات التعامل مع المشكلة الخاطئة قد لا تكون فعالة، بل وقد تأتي بنتائج عكسية. تمثل هذه مشكلة على وجه الخصوص عند تحليل سوق العمالة. إذا ما كانت المشكلة الأساسية ممثلة في عدم وجود طلب كلي، تكون نسبة كبيرة من العاطلين عن العمل قد فقدت وظائفها بلا ذنب جنته. وتتطلب هذه المشكلة الاقتصادية الكبرى سياسة نقدية ومالية أوسع نطاقا.

لكن إذا كانت المشكلة هيكلية، فليس من المرجح أن يؤدي الطلب الكلي المتزايد إلى تقليل معدل البطالة ويزداد احتمال ارتفاع معدل التضخم.

وتزداد صعوبة التعامل مع البطالة الهيكلية. ربما يحتاج العمال لعملية إعادة تدريب مكثفة نظرا لأن الشركات والصناعات التي وظفتهم لم تعد قائمة، ولم تعد مهاراتها تتمتع بالقيمة التي تمتعت بها من قبل. يزداد تعقيد الفارق بين البطالة الدورية والبطالة الهيكلية بفعل عملية تعرف باسم «التخلفية»، وهي في الأساس، العملية التي تتحول من خلالها البطالة الدورية إلى بطالة هيكلية.

كلما طالت مدة بقاء الفرد عاطلا، قل احتمال حصوله على وظيفة. تتدهور المهارات ويتم الاتجاه لتعيين العمال الأصغر سنا في الأماكن الشاغرة، وتنتقل الوظائف إلى مواقع جغرافية جديدة وهكذا.

ويتمثل عامل آخر يسهم في البطالة الهيكلية في «الأتمتة» - وهو إحلال الماكينات وأجهزة الكومبيوتر والروبوتات محل العمالة البشرية.

لقد كان خبراء الاقتصاد قلقين بهذا الشأن منذ عصر آدم سميث.

ربما تكون أكثر النوادر شهرة في تاريخ الفكر الاقتصادي هي مناقشة سميث لصانعي الدبابيس وتوزيع العمالة في كتاب «ثروة الأمم». بإمكان صانع دبابيس واحد يعمل بشكل حر أن يصنع دبوسا واحدا كل يوم في القرن الثامن عشر. لكن بوسع مجموعة من صانعي الدبابيس يعملون بشكل جماعي، كل منهم متخصص في جانب من صناعة الدبابيس، تصنيع دبابيس أكثر 48,000 مرة كل يوم. بإمكان عشر صناع دبابيس تصنيع 48 ألف دبوس بدلا من مجرد 10 دبابيس يوميا.

وتشير قصة سميث أيضا إلى مشكلة أخرى في التعامل مع البطالة، وهو أن نمو الإنتاجية أحيانا ما يكون عدو العامل.

بشكل عام، تعتبر زيادة الإنتاجية - وهي زيادة الإنتاج لكل ساعة عمل - أمرا إيجابيا. وهذا بشكل عام يمنح العمال أجورا حقيقية أعلى بمرور الوقت ويرفع مستوى المعيشة لكل شخص.

لكن ليس من الواضح ما إذا كانت زيادة الإنتاجية ستؤدي إلى زيادة الإنتاج وليس خفض معدل البطالة. في حكاية سميث، ربما يكون مالك متجر تصنيع الدبابيس قد قرر تسريح جميع العاملين بعد يوم واحد وقام ببيع المخزون الضخم خلال فترة من السنين.

في المعتاد، لا يحدث ذلك. وتتجه زيادة الإنتاجية إلى خفض الأسعار وزيادة الطلب، ومن ثم، تؤدي إلى زيادة البطالة في قطاعات تزداد فيها الإنتاجية. لكن في أعقاب بعض التحسن في تعزيز الإنتاجية، ربما يتمثل تأثير الدرجة الأولى في خفض معدل البطالة.

لسوء الحظ، بالنسبة للعمال، ربما تتحقق مكاسب في الإنتاجية خلال الفترات التي يكون فيها معدل البطالة الدورية مرتفعا. في واقع الأمر، يرى بعض الخبراء الاقتصاديين أنه على المدى الطويل سيكون للركود تأثير إيجابي على معدل النمو الاقتصادي من خلال إجبار الشركات على تبني تكنولوجيا موفرة للعمالة والتخلص من العمالة الزائدة والاستثمار في الماكينات المعززة للإنتاجية.

يعتبر هذا مصدر راحة بسيطا بالنسبة للعاملين الذين يعانون من بطالة دورية وهيكلية معا، كما هو الحال اليوم بالنسبة لكثير من العاملين في قطاع التصنيع، لكن منع الشركات من تسريح العمال أو الاستثمار في الروبوتات يعتبر بمثابة تركيز مبالغ فيه على أمور ثانوية وإغفال لأمور جوهرية. ربما يتم الإبقاء على وظائف على المدى القصير على حساب وظائف أفضل في المستقبل.

من الأهمية على وجه الخصوص بالنسبة للاقتصادات المتقدمة، كتلك الموجودة في أميركا الشمالية وأوروبا، تعزيز الاستثمار في التكنولوجيا الموفرة للعمالة، حتى وإن كانت تؤدي إلى ارتفاع معدل البطالة. تعتبر زيادة الإنتاج لكل ساعة عمل مفتاحا أساسيا للتنافس مع الاقتصادات منخفضة الأجور مثل اقتصاد الصين.

إن من هم ليسوا خبراء اقتصاديين عادة ما يعتقدون، على نحو خاطئ أن الولايات المتحدة لا يمكن مطلقا أن تتنافس مع دول مثل الصين، حيث تعتبر تكاليف العمالة جزءا من تلك التكاليف هنا. وهذا يدفعهم للتفكير في أن التعريفات الجمركية وقيود الاستيراد تمثل رد فعل سياسيا مناسبا.

في واقع الأمر، ليس ما تهتم به الشركات بحق هو معدلات الأجور، وإنما تكاليف العمالة لكل وحدة؛ وهي تكاليف العمالة التي يتم تعديلها وفقا للإنتاجية. ومن ثم، فإن دولة تمتلك قوة عاملة فقيرة وجاهلة تتقاضى أجورا متدنية ليس بالضرورة أن تكون أمثل مكان بالنسبة لشركة لإنشاء متجر. ربما تحقق قوة عاملة على درجة عالية من المهارة والتعليم ومجهزة بشكل جيد إنتاجا أكبر بتكلفة عمالة أقل لكل وحدة.

وعلى الرغم من أن كثيرا من العاملين ما زالوا متخوفين من تحويل وظائفهم إلى الصين، فإن هذه مشكلة بدأت تتلاشى، ويرجع ذلك بدرجة كبيرة إلى الأتمتة وارتفاع الأجور في الصين، الأمر الذي قضى على ميزة التكلفة. بدأت بعض الشركات، من بينها «أبل»، التي كانت قد نقلت إنتاجها في السابق إلى الصين تعود أدراجها مجددا الآن إلى الولايات المتحدة، إذ إن تكاليف العمالة لكل وحدة قد ارتفعت في الصين وانخفضت على المستوى المحلي. وفقا لتقرير صادر مؤخرا عن خدمة أبحاث الكونغرس، توصلت شركات أخرى إلى تكاليف خفية في الإنتاج بالخارج والتي تعوض تدني الأجور. وتشمل الجودة والنقل وإجراءات حماية الملكية الفكرية وفقدان السيطرة الإدارية وعوامل أخرى. وتشمل مزايا تعيين مواقع التصنيع في الولايات المتحدة في القرب الشديد من مراكز البحث والتطوير وانخفاض تكاليف الطاقة.

لسوء الحظ، بالنسبة للعاملين الذين يحتمل أن يكونوا قد خسروا وظائفهم بسبب التعهيد الخارجي، فليس من المرجح أن تفيدهم عودة تلك الوظائف إلى الولايات المتحدة، نظرا لأنها ليست نفس الوظائف. ليس من المحتمل أن تحدد للمصانع الجديدة نفس المواقع التي كانت فيها المصانع التي تم إغلاقها، ولن يتمتع العاملون الذين تم تعيينهم حديثا بمجموعة المهارات نفسها.

بدلا من العمالة اليدوية، يوظف العمال أجهزة الكومبيوتر بشكل متزايد للتحكم في الروبوتات أو غيرها من الأجهزة المعقدة. وهذا بدوره يؤدي لزيادة الإنتاجية ويسمح للعمال الأميركيين الذين يتقاضون رواتب جيدة بالمنافسة مع هؤلاء الذين يعملون مقابل جزء بسيط من أجورهم في دول نامية. ولكن هذا يعني أيضا أن العاملين يحتاجون لمستوى تعليمي إضافي ومهارات مختلفة، من خلال العمل باستخدام برامج حديثة بدلا من ماكينات بالية.

إن هدف السياسة العامة يجب أن يتمثل في التحول إلى عملية إنتاج تعتمد بدرجة أكبر على أتمتة المهام، مع محاولة الحد من مقدار الضرر الواقع على كاهل هؤلاء الذين لم يقترفوا أي ذنب من جانبهم.

* خدمة «نيويورك تايمز»