دروس لمصر في فترة ما بعد الثورة

هيديكي ماتسوناغا

TT

بعدما سقط أخيرا نظام سلطوي مستبد استمر لمدة ثلاثين عاما، كان على البلاد أن تمر بعملية تحول مؤلمة تستغرق عدة سنوات من أجل تحقيق الاستقرار في الوضع السياسي وإنعاش الاقتصاد الراكد. الجملة السابقة لا تشير إلى أي من دول الربيع العربي في الشرق الأوسط، بل إلى إندونيسيا في نهاية التسعينيات بعد انتهاء نظام سوهارتو.

بعد سقوط النظام، عانى الاقتصاد من انكماش نسبته 13 في المائة بسبب الاضطرابات السياسية وأزمة العملة الآسيوية. وحتى بعد الأزمة، واجهت الدولة مرحلة انتقالية مدتها سبع سنوات عانت فيها من ضعف النمو الاقتصادي.

لم تنخفض معدلات النمو في الكثير من الدول التي شهدت ثورات الربيع العربي بما فيها مصر إلى هذا المستوى على الأقل حتى هذه اللحظة. وصرح الرئيس مرسي لصحيفة «ذا هندو» الهندية خلال زيارته الرسمية إلى الهند خلال مارس (آذار) قائلا: «ربما تنضم مصر إلى مجموعة (بريكس) الاقتصادية المتنامية، التي تضم البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا، لتكوين (إي بريكس)، بمجرد عودة اقتصادها إلى المسار الصحيح»، في محاولة لرسم صورة وردية للوضع في مصر.

مع ذلك لا يوجد أدنى شك في أن مصر دولة لديها إمكانات وفرص كبيرة بتعدادها السكاني الذي يبلغ نحو 85 مليون نسمة، وموقعها الاستراتيجي المهم الذي يربط بين أفريقيا وأوروبا وآسيا، وقوتها العاملة الكبيرة من الشباب.

مع ذلك فالمستقبل الاقتصادي على المدى القصير في مصر ليس ورديا كما يزعم مرسي. بمجرد خفوت جذوة الحماس بعد سقوط نظام مبارك في الحادي عشر من فبراير (شباط) عام 2011، وجد المجتمع المصري نفسه أمام وضع معقد في ظل ازدياد السخط الشعبي واتساع الهوة بين القوى السياسية والركود الاقتصادي. إن مثل هذا الوضع ليس بالأمر النادر، بل هو في الحقيقة شائع جدا في أي دولة مرت بثورة مماثلة ومنها إندونيسيا عام 1998، والفلبين عام 1986، والكثير من دول الاتحاد السوفياتي السابق أو أوروبا الشرقية، في بداية التسعينيات.

وخلال تلك الفترة من الاضطرابات والتحول، يكون أفراد الشعب هم أكثر الفئات التي تعاني خاصة الفقراء. كيف يمكن تقليل المدة الزمنية لمرحلة التحول المؤلمة هذه هي مسؤولية كل القادة وصناع السياسة الذين أعقبوا النظام السلطوي في الحكم. بحسب قرارات وأفعال هؤلاء القادة وصناع السياسة لتحقيق الاستقرار في المجتمع والاقتصاد، يمكن النظر إلى الدولة إما على أنها في مرحلة ما بعد الثورة أو في مرحلة ثورة مستمرة.

هناك أمران أساسيان ينبغي أن يضعهما في الاعتبار القادة والمسؤولون من أجل تقليل مدة مرحلة التحول المؤلمة. الأمر الأول هو كيفية التعلم من الخارج من خلال التفكر في تجارب البلاد الأخرى وما تعلمته من دروس. أما الأمر الثاني فهو التعلم من الداخل من خلال النظر في التاريخ وعملية التحول والأخطاء. فيما يتعلق بالأمر الأول، العالم مليء بالدروس حول كيفية التعامل مع الوضع بعد الثورة. لم لا نتعلم من الآخرين الذين مروا بفترة مشابهة؟ اتخذت مصر بعض الخطوات في هذا الاتجاه.

قامت وزارة التخطيط والتعاون الدولي يومي 18 و19 فبراير (شباط) من العام الحالي باستضافة منتدى بالاشتراك مع الوكالة اليابانية للتعاون الدولي (جايكا)، وقد دعتا فيها مسؤولين رفيعي المستوى بوزارة التخطيط والتنمية الوطنية الإندونيسية ووزارة التنمية التركية. وتعد هذه الخطوة من المبادرات التي تتبناها الحكومة المصرية للاستفادة من تجارب البلدان الأخرى. وركز المنتدى على دور كل دولة في وضع خطط قومية رئيسية للتنمية الاقتصادية.

وتقدم التجربة الإندونيسية لمصر الكثير من الرؤى القيمة خلال الفترة الانتقالية؛ حيث لم تكن الاضطرابات السياسية هي التحدي الوحيد الذي كان عليها أن تواجهه، فقد عانت إندونيسيا طوال السنوات العشر الماضية من الهجمات الإرهابية، والزلزال المدمر وإعصار تسونامي عام 2004 وإنفلونزا الطيور. وبعد المرور بكل هذه المصاعب، قيل إن إندونيسيا تدخل العصر الذهبي للنمو الاقتصادي بمعدل نمو سنوي ثابت تجاوز الستة في المائة حاليا. حتى إن البعض يؤكد أن وضعها الاقتصادي أكثر استقرارا من الهند أو الصين، وهما لاعبان أساسيان ضمن دول مجموعة «البريكس».

ولم تستعد إندونيسيا معدل نموها السنوي، الذي تجاوز الستة في المائة، إلا عام 2007 بعد عشرة أعوام من بداية الثورة وبعد ثلاث سنوات أخرى من انتخاب الرئيس يودويونو في أول انتخابات ديمقراطية مباشرة عام 2004. وتعتبر التجربة الإندونيسية مثالا جيدا يؤكد قدرة الدولة على تحقيق نمو اقتصادي ثابت عندما تحقق الاستقرار السياسي. وتوضح التجربة أيضا أن عملية تحقيق الاستقرار السياسي وما يعقبها من نمو اقتصادي يمكن أن تستغرق وقتا طويلا.

أما عن العلاقة بين السياسة والاقتصاد، فقد سلط الكتاب، الذي حمل عنوان «After the Spring: Economic Transitions in the Arab World,» ««بعد الربيع: التحولات الاقتصادية في العالم العربي» والذي نشره معهد «بروكينغز» الأميركي في يناير (كانون الثاني) عام 2013، الضوء على دروس مثيرة للاهتمام أثناء تحليله للتجربتين الروسية والفلبينية فضلا عن الكثير من التجارب الأخرى. يوضح الكتاب أنه عندما لا يقترن التغيير السياسي بتغيير اقتصادي واسع النطاق، تكون هناك خطورة من حدوث انتكاسة على الصعيد السياسي، حيث يسعى أصحاب المصالح الشخصية القدامى إلى استعادة السيطرة على العملية السياسية من خلال الهيمنة على الاقتصاد. ويمكن أن يؤثر الركود الاقتصادي كذلك على لعبة القوى السياسية من خلال إقامة تحالفات مضادة للتغيير.

ومع أن مستقبل اتفاق صندوق النقد الدولي يعد أحد المواضيع الساخنة في مصر حاليا، فالأهم من ذلك هو السياسة والتزام الحكومة الجديدة بالسعي نحو الإصلاح الاقتصادي. وتوضح الدروس المستفادة من تاريخ العالم أن الإصلاح الاقتصادي قد يكون مؤلما للشعوب على المدى القصير، ولكن تجنب إجراء الإصلاحات الاقتصادية سيؤدي إلى مخاطر سياسية واقتصادية أكبر على المدى المتوسط والطويل.

لدى كل دولة نوع من الاعتزاز والكرامة الذي يجعل من الصعب عليها التعلم من تجارب البلدان الأخرى. ولعل هذا واضح إلى حد ما في مواقف الدول التي تنتمي إلى بيروقراطية النظام القديم، ومصر ليست استثناء هنا. ولن تجدي الدروس المستخلصة من تجارب البلدان الأخرى نفعا دون تعديلها بحيث تناسب الظروف الداخلية للدولة. مع ذلك يبدو أن الساسة الجدد، وهم جماعة الإخوان المسلمين، أكثر حرصا على التعلم من البلدان الأخرى، وذلك في ضوء الكثير من الوفود التي تم إرسالها خارجا.

ثانيا، من المهم أن نلاحظ إمكانية استخلاص الدروس من تاريخ وخبرة الدولة نفسها. ويمكن تقسيم الدروس المحلية بعد اندلاع الثورة إلى دروس سهلة وأخرى صعبة، فمن السهل التعلم من الأخطاء الكثيرة التي ارتكبها النظام المخلوع. في حين أنه من الصعب على النظام الجديد التعلم من أخطائه وأفعاله، لأنه لا أحد يعترف بأخطائه.

من الواضح أن حالة الاستقطاب السياسي قد ازدادت في مصر منذ إصدار القرار الإعلان الدستوري في نوفمبر (تشرين الثاني) من العام الماضي، والذي بمقتضاه حصن قراراته الرئاسية من أي مراجعة قضائية. لا بد أنه كان هناك مبرر قوي لدى الرئيس لإصدار مثل هذا الإعلان. مع ذلك ما الذي جناه سياسيا واجتماعيا واقتصاديا من هذا الإعلان؟ يبدو أن كل رؤوس الأموال التي تراكمت والنوايا الحسنة التي تم تأكيدها بعد تشكيل الحكومة الجديدة، والتخلص من القادة العسكريين القدامى، والوساطة الناجحة في المعركة العسكرية التي كانت في غزة قد اختفت تماما بعد إصدار الرئيس المصري قرارا واحدا.

يوجد في أي حكومة خلال مرحلة ما بعد الثورة قادة وصناع سياسة محدودو الخبرة، وهو أمر غير سيئ على الإطلاق ما دام أنهم متحررون من الماضي ومنزهون عن اتباع الأهواء والمصالح الشخصية، ولديهم القدرة على التفكير والتصرف بشكل إبداعي. وإلى أن يكون لدى القادة الصاعدين القدرة على تحليل قراراتهم بطريقة نقدية والاستفادة من التقييم البنّاء لعملية صنع القرار، فإن أي دولة ستمر بمرحلة صعبة حتى تصل إلى مرحلة جديدة من التنمية السياسية والاقتصادية.

فما هي إذن أهم دروس يمكن تعلمها خلال مرحلة ما بعد الثورات سواء من خارج مصر أو داخلها؟

يعد «الاحتواء» من العوامل الرئيسية لنجاح عملية بناء الأمم. لم تكن المطالب السياسية أو الاقتصادية سوى بعض الدوافع الرئيسية التي حركت ثورات الربيع العربي، حيث دفعت حالة عدم الرضا عن انتهاكات حقوق الإنسان إلى تظاهر الناس في الشوارع وهو ما أدى في النهاية إلى إسقاط النظام الاستبدادي. وفي ظل مجابهة الفساد وسياسات الإقصاء والتهميش، يريد أن يشعر الناس بأنهم أكثر انخراطا في عملية صنع القرار وعملية التنمية. لقد مرت الكثير من البلدان الأخرى بهذه العملية خلال مراحل ثورية مماثلة. وإذا ما أردنا الحد من معاناة الشعب خلال الفترة الانتقالية التي أعقبت الربيع العربي، فإن تحديد كيفية التعلم وكيفية أن تكون أكثر قدرة على الاحتواء من الأمور المهمة بالنسبة إلى القادة وصناع القرار الجدد.

* مقال خاص لـ«الشرق الأوسط» من ممثل الوكالة اليابانية للتعاون الدولي في مصر