نظرة فاحصة على أفضل ممارسات الأعمال في المنطقة

بدر جعفر

TT

في شهر مايو (أيار) من العام الحالي، قام المجلس الوطني الاتحادي لدولة الإمارات العربية المتحدة بتمرير مشروع قانون الشركات. وكان من بين أهم الموضوعات التي تمت صياغة هذا القانون من أجلها التشجيع على اعتماد وتطبيق أفضل ممارسات الحوكمة المؤسسية على النطاق الدولي في جميع أرجاء الدولة. ويفعّل هذا القانون القواعد الضابطة للشفافية لدى شركات القطاع العام، ويعزز النظام الذي يتولى الإشراف على محاسبة مديري الشركات ومدققي الحسابات، كما أنه يشدد في الوقت ذاته العقوبات ضد إساءة استغلال المناصب المالية. ولعل هذه الضوابط والأنظمة الجديدة ستشكل أرضية راسخة للحوكمة المؤسسية، والتي ينبغي أن تكون مثالا يُقتدى به في تحسين المعايير المتبعة في المنطقة، والتشجيع على تنفيذ أنشطة ومشاريع اقتصادية أكبر حجما على المستوى الإقليمي. ومن شأن ذلك أن يدفع عجلة التنمية ويسهم في إيجاد عشرات الملايين من الوظائف الجديدة التي يتوجب تأمينها في كل عام لفئة الشباب في العالم العربي.

لكن متانة أي مجموعة قيم تتمثل في قدرتها على التغير والتحول بما يتماشى مع المتغيرات، وهذا الأمر يعتبر في غاية الأهمية بالنسبة للشركات، حيث غالبا ما تفشل الهيكليات الجامدة في مواجهة التقنيات الجديدة والصمود في وجه الأوضاع التنافسية. يواجه عالم الأعمال العربي تغيرات ملحوظة، انطلاقا من حقيقة أن مكانته في الأسواق العالمية آخذة في التطور من اقتصاد قائم على المواد والمنتجات الهيدروكربونية إلى اقتصاد قائم على نطاق أوسع من الأنشطة والمشاريع الاقتصادية، مع وجود مجموعة متنوعة من الشركاء التجاريين. وبذلك تنشأ تحديات حقيقية أمام محاولات التعاون مع مختلف الثقافات وممارسات الأعمال التي تتبعها في بلدانها. وهنا ينبغي على شركات المنطقة أن تكون منفتحة لتقبّل هذه الاختلافات والفروقات، وأن تعمل على تعديل سلوكها وتصرفاتها بحيث تتكيف مع تلك الاختلافات، مما سيساعد على استمرار الأنشطة التجارية عبر الحدود ويسهم في نموها وازدهارها.

ويجسد سنّ القوانين والضوابط المناسبة نقطة البداية لكل التطويرات والتحديثات لسياسات الحوكمة المؤسسية، لكن عليها أن تكون أيضا قادرة على التغير بما يتناسب مع المعطيات. وكما ينص مشروع قانون الشركات، فإن التشريعات والتنظيمات يجب أن يتم توجيهها دوما إلى الأسواق التي نرغب في إرساء سياسة الحوكمة فيها. وعندما تقتضي الحاجة، يجب إدخال التغيير بحيث يعكس تطور الأسواق والمشاركين فيها.

وبهذا، نستخلص أن عملية سن التشريعات لا تكفي وحدها لخلق ثقافة الحوكمة المؤسسية، وهناك أمثلة حديثة تشير إلى أن التشريعات فشلت في تطبيق أفضل الممارسات في مجال الأعمال، حتى ضمن أكثر الأسواق تنظيما وانضباطا. وقد سلطت التغييرات التنظيمة الهائلة التي تبعت الأزمة الاقتصادية العالمية في عام 2008 الضوء على حقيقة أن التشريعات لم تكن كافية لوضع حد للممارسات السيئة في قطاع الأعمال. وكما برهنت أحكام قانون «دود فرانك» الإصلاحي في الولايات المتحدة، وإلغاء هيئة الخدمات المالية في المملكة المتحدة، فإنه يمكن القول بأن الأنظمة الرقابية السابقة قد أسهمت بشكل مباشر في استمرار الأزمة.

تلعب الحوافز دورا محوريا في الدفع قدما بالقطاع الخاص، ومن هذا المنطلق، ولضمان الاعتماد والتطبيق الفعال من الشركات والمؤسسات لأفضل الممارسات، فعليها أولا قبول حقيقة أن هناك قيمة حقيقية كامنة وراء تبني تلك الممارسات، كما ينبغي على المستثمرين النظر في مستويات الأداء على مدى أبعد وإدراك أن الحوكمة المؤسسية تعني تحقيق القيمة المضافة، والتي بدأت تظهر على أرض الواقع. وكما نرى في أوروبا وأميركا الشمالية، يمثل مساهمو الشركات قوة دافعة لإحداث التغيير على النطاق المؤسسي بشكل أكبر من تطبيق الضوابط حديثة العهد. وفي حال كان هناك توافق في الآراء بين المالكين والمديرين حول أن الحوكمة المؤسسية تروج لتحقيق القيمة المضافة على المدى الطويل، فإن تطبيقها سيكون أسرع وأكثر استدامة.

وتجسد الشفافية مثالا حيا على قدرة الحوكمة المؤسسية على تحفيز تحقيق القيمة، فهي تسهم في تعزيز المحاسبة، مما يساعد في الارتقاء بمستويات الثقة ضمن سلسلة القيمة: بدءا من الموردين والعملاء وانتهاء بالموظفين والمساهمين. وعلى الأخص، تمكّن الشفافية من تحقيق وصول أوسع نطاقا إلى رأس المال الخارجي، إذ كشف استطلاع أجراه مؤخرا صندوق النقد الدولي أن 46 في المائة من الشركات في العالم العربي، والتي تم استطلاع آرائها، تنظر إلى الحصول على التمويل كواحد من أكبر القيود المفروضة عليها. وقد قام ما نسبته 10 في المائة فقط من الشركات بالاعتماد على البنوك لتمويل استثماراتها خلال العام الماضي، بيد أن أكثر من 50 في المائة منها تخطط لزيادة رأس المال الخارجي بحلول عام 2018. وسيكون تعزيز قنوات تأمين رأس المال قيما للغاية بالنسبة للشركات العاملة في المنطقة في وقت أصبح يُنظر فيه إلى الشراكات العالمية على أنها ضرورة ملحّة في القطاع الذي يشهد مستوى تنافسية آخذ في التزايد.

وينبغي أن يتم أيضا اعتماد وتطبيق هذه الممارسات على الصعيد الإقليمي لتحقيق فوائد ملموسة، فضلا عن أنه يتوجب أن تكون الثقافة المؤسسية عملية شاملة تسهم فيها جميع الشركات في سائر أنحاء المنطقة. وفي حال اعتماد أفضل الممارسات في الشفافية في عموم أرجاء منطقة الخليج، فإن ذلك سيشجع على إحداث التغيير في طرائق التصرف والسلوك نحو اعتماد الحوكمة المؤسسية في أنحاء العالم العربي بأكمله.

وتعد الحوكمة المؤسسية إحدى الممارسات التي تنخرط فيها العديد من الجهات ذات الصلة، بما يشمل القطاعين العام والخاص، وعموم الناس. ويلعب القطاع التعليمي، على وجه الخصوص، دورا جوهريا في ضمان تلقي قادة الأعمال المستقبليين، سواء في المدارس أو الجامعات، دروسا مهمة في السلوك الأخلاقي، بهدف وضع أسس راسخة يبنون عليها مستقبلهم الوظيفي والمهني. كما يسهم قطاع الإعلام في زيادة التوعية وتسليط الضوء على أفضل الممارسات لدى الشركات الرائدة التي تمهد الطريق لغيرها من المؤسسات. وتعتبر وسائل التواصل الاجتماعي مثالا واضحا على قدرة السمعة المؤسسية على الفحص الدقيق بشكل فوري وواسع النطاق. وقد وافقت لجنة الأوراق والسوق المالية مؤخرا على السماح للشركات الأميركية بوضع تقاريرها في الأداء المالي عبر موقع «تويتر». وهذا يوضح كيف أن وسائل التواصل الاجتماعي قد أمست في الوقت الحاضر مكونا رئيسا في وضع التقارير المؤسسية.

تسهم الشركات العائلية في العالم العربي بما تزيد نسبته على 85 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي غير النفطي ضمن المنطقة، وتلعب هذه الشركات دورا مهما في التأثير بشكل إيجابي على طرائق السلوك المؤسسي. وبالنسبة لمعظمها، فإن تحسين المحاسبة والارتقاء بمستوى الشفافية لا يتحقق عبر القوانين والتشريعات فحسب، بل من خلال الرغبة في انتقال شركاتهم إلى الجيل التالي من العائلة بحيث تحافظ على قوتها وتمتاز بحسن الإدارة والحوكمة الرشيدة.

لقد تأسست العديد من الشركات في الشرق الأوسط استنادا إلى القيم الأخلاقية السامية التي يتم توارثها جيلا بعد آخر، والآن حان الوقت لتطبيق هذه القيم عبر عمليات وإجراءات صارمة تعزز من الثقة بين كل الجهات ذات الصلة، وتقلل من المخاطر خلال مضي الشركة قدما، إلى جانب تحقيق تنافسية عالية تمكن الشركة من الفوز بمشاريع وصفقات أعمال في الأسواق الدولية.

* مؤسس مبادرة «بيرل» والعضو المنتدب لمجموعة «الهلال» في الإمارات العربية المتحدة.. حسابه على «تويتر» «@BadrJafar»