السوق المصرية في إسطنبول .. عاصمة البهارات التركية عند مدخل «القرن الذهبي»

بنيت في سبعين سنة.. واحتكرت تجارة التوابل بين أوروبا وآسيا لأكثر من 200 سنة

أحد متاجر بيع البهارات في السوق المصرية في مدينة إسطنبول («الشرق الأوسط»)
TT

لأكثر من مائتي سنة، ظلت «السوق المصرية» في مدينة إسطنبول التركية، مركزا لتجارة البهارات والتوابل بين الشرق والغرب، بعد أن مكنها موقعها القريب من ميناء أمينو عند مدخل «القرن الذهبي» في الجزء الأوروبي من المدينة، من جعلها المكان المناسب لبيع وشراء البهارات بأنواعها، التي كانت تأتي إلى تركيا من الهند عبر الموانئ المصرية، فنالت السوق تسميتها الشعبية انطلاقا من عمل التجار المصريين فيها.

هذه السمة العربية في السوق لا تزال حتى اليوم، هي أول ما يلفت انتباهك عند دخولك السوق المسقوفة، حيث تسمع اللغة العربية متداولة بكثرة، بين البائعين والمشترين، العرب وغير العرب، بعضهم حتى يؤديها بلغة «مكسرة»، لكنها تظل اللغة الأولى في المناداة والترويج للبضائع التي تكتظ بها شوارع السوق، وتغلب عليها رائحة التوابل والبهارات.

بدأ العمل في بناء السوق في عهد السلطان مراد الثالث في عام 1597 بهدف تمويل مصاريف وبناء «الجامع الجديد» المعروف بالتركية بـ«يني جامي» الذي ما يزال منتصبا قبالة السوق، ولا تزال إيرادات إيجارات السوق تذهب إلى وقف المسجد التاريخي الذي بني على 3 مراحل، حيث بدئ البناء فيه عندما أمر السلطان مراد بذلك في ذكرى والدته، لكنه توفي قبل أن ينتهي، فجاء سلطان آخر ليوقف العمل فيه، قبل أن يعود حفيدها سلطانا ويأمر بإنهائه.

افتتح السوق رسميا في عام 1664، أي بعد ما يقارب السبعين سنة على بدء بنائه، وهو يمتاز بجدرانه وأرضيته الحجرية وقببه المزخرفة، علما بأنه ثاني أكبر بازار في إسطنبول بعد البازار الكبير، ويتخذ البازار شكل حرف«إل» بالإنجليزية، وهو يتألف من 88 حجرة مقببة، 21 منها تبيع الذهب والنحاسيات، و10 تبيع الهدايا والكماليات، و4 للألبسة، والباقي للبهارات والأعشاب والتوابل والمكسرات والجبن والنقانق والفواكه المجففة والمربيات، بالإضافة إلى الخضراوات المجففة التي تمتاز بها السوق. وفي السوق أيضا منتجات التجميل ذات المصادر الطبيعية، كالحناء والإسفنج الطبيعي والزيوت وماء الورد، بالإضافة إلى الكثير من المساحيق التي كانت تستخدم في الحمامات التركية كوسائل لتنقية البشرة والعناية بها.

يقول تجار التقتهم «الشرق الأوسط» خلال جولة في السوق، إن بدايات السوق كانت تقتصر على بيع وشراء التوابل والبهارات، غير أن الأزمة الاقتصادية التي ضربت البلاد في أعقاب الحرب العالمية الثانية جعلت الحكومة تسمح بإدخال أصناف جديدة من المواد الغذائية الأساسية، كما أن السوق توسعت لتخرج حوانيتها من السوق المسقوفة إلى الخارج، حيث تنتشر دكاكين صغيرة مشابهة لما في الداخل، لكنها تمتاز بوجود أصناف أخرى، منها الأسماك والألعاب وغيرها.

ويفتخر أصحاب المتاجر بزوارهم من كبار الشخصيات حول العالم، ومنهم متجر «هازار بابا» الذي يضع صورة كبيرة عند مدخله تصور صاحب الدكان وهو يستقبل ملكة الأردن رانيا العبد الله خلال إحدى زياراتها إلى تركيا، ويكاد يكون متجر «ملاتيا» الأكبر بين هذه المتاجر، لكنه من دون شك الأقدم؛ إذ يكاد عمره يوازي عمر السوق، حيث يتميز بموقع استراتيجي عند مدخل السوق، ويقع على ناصية مهمة تجعله قبلة الداخلين والخارجين إليه، كما يتميز بنوعية جيدة من الإسفنج الطبيعي الذي يباع بأسعار مرتفعة عادة، بالإضافة إلى تشكيلة واسعة جدا من البهارات.

وإضافة إلى البهارات، يرى التجار أن مما يميز السوق أيضا احتواءها على تشكيلة واسعة من حلوى الحلقوم، التي تراها معروضة في كل أنحاء المتاجر، وأبرزها تلك المصنوعة بالقشطة الطبيعية وبالورد والمكسرات، وهي تختلف عن المعتاد من الحلقوم في المنطقة.

وتأتي نحو 86 في المائة من التوابل الموجودة في السوق بحسب التجار، من الهند، فيما تنتج تركيا نحو 5 في المائة، ويأتي الباقي من أسواق أخرى كالصين وبنغلاديش، ويجري تداول نحو 100 ألف طن من التوابل سنويا في السوق وفق تقديرات التجار، وبعوائد تقدر بملايين الدولارات.

جغرافيا تقع السوق في منطقة مزدحمة، لكونها أصبحت على تقاطع مع شبكة المواصلات الكبيرة والمعقدة التي تربط الجزء الأوروبي بشطريه اللذين يفصل بينهما القرن الذهبي، وهو لسان من الماء يخترق الجزء الأوروبي من المدينة، وصلته الحكومة التركية بثلاثة جسور أقدمها ذلك القريب من السوق والذي يعج دائما بصيادي الأسماك، ويتميز بأنه جسر متحرك يجري فتحه من أجل مرور السفن الكبيرة جدا، وهو أمر نادر كون الجسر يستطيع أن يستوعب السفن المتوسطة الأحجام التي تمر من تحته بسهولة.